كلمات حول عيسى مخلوف

 

 

"في كتاب "عين السراب" يصهر عيسى مخلوف الكلامَ في شعريّة تتجاوز الحدود التي تمّ التواضُع عليها، بين ما يسمّى نثراً وما يسمّى وزناً، محقّقاً في ذلك نموذجاً أصيلاً للكتابة الشعرية الجديدة. وفي هذا يؤسّس، على نحو متميّز، لشكل شعري حيث يتآلف السرد والتأمّل والسيرة الذاتيّة والبحث، وتنصهر هذه كلّها في بنية فنية واحدة.الكتابة هنا لا تحتضن التفاصيل المرئيّة وحدها، وإنّما، وهذا هو الأكثر أهمية، تفتح هذه التفاصيل على الأبعاد اللامرئيّة في الأشياء والأحداث التي تنطق بها. هكذا تولدُ الكتابة منخرطة في الكينونة، في عناق شفّاف وحارّ لمستوياتها الحياتيّة، والانفعاليّة والتخيّليّة والفكريّة."

أدونيس 

 

"أشعر باتحاد كامل مع جمالية نصوصه المُلغَزة وعمق مفارقاته... فهو كتاب صغير، شفّاف ومرتعش. إنّه كتاب الساعات على غرار كُتب الصلوات في القرون الوسطى. كتاب اللحظات الضائعة لكن التي تمّ جمعها، عبر الكتابة، قبل لحظات قليلة من أفولها...الآداب العربيّة الحديثة التي هي، في الغالب، نتاج تصعيد ثقافي أو عاطفي، تفتقد مثل هذا النوع من الكتابة الحميمة المصنوعة من تزاوُج الضوء والظلّ، حيث الولَه يُقال بصوت خفيض، وحيث نتقدّم والمؤتمِن على أسرارنا هو القارئ نفسه الذي يصبح، بفعل هذا البَوح، صديقاً شديد القُرب.يكتب عيسى مخلوف ليُقرّ لنا بأنّ سرّ العالم، في ما وراء الدهشة والانبهار، قد يكون من طينة الكآبة..."

صلاح ستيتيّة

  

منذ الصفحات الأولى شعرتُ بالعمق الذي فيه. الكتابة هنا لا تطير نحو القارئ بل تخترق أسرار المعنى وتجذبك إليها. الكلمات هنا ليست إشارات صامتة. إنها تتحرّك وتَشي بحالة داخلية سرّية. قلّة من الشعراء تلتقط هذا الاختلاف الجوهري.

جمال الدين بن شيخ

 

تستدعي كتابة عيسى مخلوف المسائل الجوهريّة ببساطة مدهشة: سرّ الحبّ والنور المقدَّس الحاضر في "الغامض"، وكذلك في "نار الملائكة" المقيمين فينا على الرغم من قلق النفس المنفيّة."

 

جان-كلود رونار

 

"عيسى مخلوف كان الشاعر، بهيئته وصوته وأدائه. فيما يقول لنا لماذا نسافر قال لنا حقيقة الاحتفال، إنه وداعية لأنفسنا وللشعر أيضاً... عيسى موكل بالجمال كما كان عمر بن أبي ربيعة يقول عن نفسه، هو في ذوقه، وفي تجواله وفي مطعمه ومقهاه وحديثه أيضاً. إنه هكذا بين الداخل والخارج، بين الفكرة والفعل كما يمكن أن نتكلم بلغة إليوتية..."

عبّاس بيضون

 

"عين السراب". بهرتني الصفحات الأولى لدرجة القول: من غير الممكن أن يستمرّ الكاتب بهذا النفَس، هذا الابتكار، هذا الاندفاع الذي يربط، بعمق وبأعجوبة الشعر، كيان كل واحد منّا بكيان البشر والأرض-الأمّ والعالم.ولقد لازمني الانبهار طوال صفحات الكتاب. (...)

أندريه ميكيل

 

 "رسالة إلى الأختين" كتاب متوهِّج، غامض وبليغ الأثر".

فيليب جاكوتيه

 

 

فقرات من كلمات التكريم الذي خصَّت به الحركة الثقافية - أنطلياس

عيسى مخلوف، في الخامس من آذار/ مارس 2023، في إطار المهرجان اللبناني للكتاب في دورته الأربعين

 

من بلد إلى بلد ومن لغة إلى لغة يخطر عيسى مخلوف، يبتعد فيما هو يقترب، ينقل الصداقة من لغة إلى لغة ومن بلد إلى بلد. في الغياب دائماً وقت للحضور، بل في الغياب ساعة للحضور. ثمّة ما يزداد اتّصالاً كلّما نأت المسافة. ثمّة ما يمتلئ كلّما طال الفراغ. عيسى، إن على مقربة أو على مبعدة، يعطي روحاً للوقت، يعطي روحاً للمكان. يمكننا لذلك القول أنّ أرواحاً كثيرة تتمثّل هكذا في شخص واحد. أنّ الصداقة لا تحتاج إلى أكثر لتكون قائمة، ولتتواصل وتتضاعف وتستمرّ. أنّ صناعتها وفنّها وكلامها أمور تصدر في تلقائها عمّن يجعل منها نسيمه وصوته وموهبته. لعلّ عيسى الذي يجمعنا معاً، شيء أرقّ من النسيم وأرهف من الصوت هو تماماً ذلك الشخص الذي موهبته الحبّ وربّما فنّه. لذا فإنّه قادر على أن يصنع تحفاً من نوافل وعاديات، أن يخلق مآثر من نكرات وعابرات، أن يُعلِّم الحبّ بحركة يده وإشارة رأسه، وفقط نظرته. لعلّ الحنان ليس شيئاً آخر، ولعلّ الرقّة هي ذلك الذي يسري في الفضاء ويصل عبر الغياب ويلامس من بعيد. لعلّ الرقّة إذا جاز لها أن تكون شخصاً فستكون عيسى مخلوف.

لا يسعنا أن نجد اسماً آخر لعيسى سوى الشاعر. إنّه الشاعر في القصيدة أوّلاً. له قصيدته التي عمل عليها عقوداً من سنين. من يقرأ شعر عيسى سيطالعه ذلك العمل. سيجد كيف يرفع عمارة شعره حجراً على حجر، كيف يتجلّى ذلك الشعر أكثر فأكثر، كيف يسبق نفسه ويتخطّاها، كيف يزداد توغّلاً في عناصره، كيف بالمعنى نفسه ينبني شيئاً فشيئاً ويتضح وتعمر رؤاه. ولا بدّ من القول أنّ شعر عيسى فيما هو إيقاع هو أيضاً معمار، وهو أيضاً فكر. إنّه شعر يستدعي، بالمستوى نفسه، الفكرة والصورة، لكن الشعر ليس كلّ كتابة عيسى. يمكننا أن نتحدّث أيضاً عن السرد. لن نجد في أدبه رواية، لكننا سنجد فيه همّاً برواية، اقتراباً من القصّ، بل قصّ بطريقة أخرى. ذلك أنّ الحوادث والوقائع، وربّما العاديّات واليوميّات ليست بعيدة عن أدب عيسى. أدبه لا يستخفّ البتّة بمجريات الأمور. لا يستخفّ بالمبتذل والعادي والنكرة والغفل، هذه جميعها واردة قائمة، لن يكون منها رواية، لكنّها ستبقى مع ذلك تثري أدبه وتمنحه صورها واستعاراتها ومعانيها. يمكن أن نجد باريس في أدب عيسى. له باريسه لكن له نيويوركه أيضاً، كما أنّ له عواصم ومدناً أخرى، بل نحن نستطيع أن نجد في ذلك كلّه أدباً مدينيّاً، أدباً يحتفل بالمدن ويبني منها، لا صوراً فحسب، ولكن أيضاً أفكاراً وتأمّلات، بل يمكن القول أنّ المدن التي تنقّل عيسى بينها واستمدّ منها جميعها، وتأمّلها عيشاً وفكراً وروحاً وأسلوباً، أنّ هذه المدن ليست وراء سرد عيسى، بل هي بالدرجة نفسها، قد تكون وراء شعره، ووراء فكره.

عيسى ليس فقط شعره ومذكّراته إذا جاز لنا أن نطلق هذا الاسم على كتاباته المدينيّة. عيسى هو أيضاً وبالدرجة نفسها رجل فكر، ولنقل رجل تأمّل. هو الذي تنقّل بين اللغات والبلدان، لم يغفل السياسة ولم يغفل الوجود ولا الكون. إنّه أيضاً يلقي على ذلك كلّه نظرة كاشفة، أكاد أقول نظرة فاضحة. عيسى يحتفل بالعالم، لكنّه أيضاً يملك نظرته المنفصلة إليه. نظرة قد تكون أحياناً سوداء، وأحياناً لاعنة. قد تكون في أحيان كثيرة غاضبة، لكنّها لن تكون ملعلعة. إنّها أقرب إلى التشاؤم، لكنّها مع ذلك ليست ناعية. للموت مكان في فكر عيسى، مكان أثير ودامغ وكبير، لكن عيسى مع ذلك ليس منشداً للموت ولا واقفاً عنده. الوجود إشكاليّ ومزدوج ومتناقض، يعي عيسى ذلك ويبني عليه، لكنّه لن يكون جحيماً ولن يكون فقط لعنة.

قد تكون هذه مناسبة لوقفة صداقة مع عيسى هو الذي أثرانا بكرمه وحنوّه. إننا هكذا نقول لعيسى إننا نحبّه.

عبّاس بيضون

 

*

 

لقد شاركتُ عشرات المَرّات في تقديم أعلام الثقافة، لكنّني شعرتُ ولأول مرّة، عند كتابة كلمتي هذه، في تقديم الأديب عيسى مخلوف، أنّ مهمّتي شاقّة، وكأنّ الصفحة البيضاء عاجزة عن تلقّي تزاحم الأفكار الكثيفة حوله، او كأنّ الكلمات غير مؤهّلَة للتعبير عن زَخْم فحوى نتاج الأديب.

لم أقتنع بأهمية سرد مفاصل حياته كما جَرَت العادة في مثلِ هذه المناسبة، وهو الضنينُ بتفاصيلِها، وكأن لا أهميّةَ لها بنظرِه. ورغم ذلك، كتبَ سيرة حياته في "ضفاف أخرى" الشَيّق، عبر حوار مع علي محمود خضيّر وتقديمٍ منه. ولكنّها ليسَتْ سيرةَ حياة بالمفهوم التقليدي، إنما هي بعضُ محطات حياتية تصبح حجّةً للانطلاق نحو لقاءات، ومناسبة للتعبير عن أفكار وأحاسيس تدور في حركة لولبيّة من الأصغر نحو الفضاء الأوسع (...)

نجاة الصليبي طويل

 

*

 

تعرفتُ إلى عيسى مخلوف في بدايةِ الألفيةِ الثانية. ومُذذاك لم تنقطعْ عَلاقتي به وحواراتي اللامتناهية معه في بيروت وباريس، وقراءتي لكلّ كتبه ومقالاته وترجماته (...) كلُّ النصوصِ التي وضعها عيسى منذ كتابه الأول "نجمة أمام الموت أبطأت" حتى اليوم، أكانتْ شعرًا أو سردًا أو تأمّلًا أو نقدًا أدبيًا، والتي يتحاورُ فيها الشعرُ مع السرد، والفلسفةُ مع الفن، والعلم والروحانية، تتلألأ جمالاً وعمقًا وترتفعُ بقارئِها إلى سماءٍ مرصَّعةٍ بالنجوم...

مُبهرٌ عيسى مخلوف باندفاعه وصدقه وحيويةِ لغته التي تبعثُ في قارئِها الحياة. تأسرُنا أفكارُهُ وإيقاعاتُ كتاباتهِ وصورُها الأخاذةُ التي لا نُدركُ كنهَها، وهي بالتأكيد تقدّمُ إضافةً جديدةً للكتابةِ العربيةِ الحديثة...

هذه الكتابةُ الملتصقةُ بلحمِ الكونِ وبكلِّ ما هو مهمٌّ في الوجود، كأسئلةِ الحرب والهُوية والمنفى والموت والاغتراب والحبِّ والفنِّ والجمالِ والأدبِ والشعر، تستحقُّ أن تدخلَ في المناهجِ التعليمية، ليس فقط لأنها استطاعتِ الغوصَ في أعماق الذات، ومازجَتْ بين المعنى والمبنى في انفتاحٍ على الحضارات والفنونِ المختلفة من خلالِ تنقّلِها بين الآدابِ والفلسفاتِ والعلومِ والجمالاتِ الطبيعيةِ والفنية، بل لأنها نقلتْ لنا أيضًا انطباعاتٍ وأحاسيسَ وأفكارًا كُتِبت بلغةٍ مشغولةٍ كالدانتيلا لا تحتاج إلى أجنحةٍ كي تطير...

وهو ناقد فنيّ شارك في إقامة عدد من المعارض لرسّامينَ ونحّاتين مميزّين، كالمعرض الاستعاديّ لأعمال جبران خليل جبران في "معهد العالم العربي" في باريس سنة 1998 والذي رافقَهُ صدورُ كتاب باللغة الفرنسية عن دار "فلاماريون" بعنوان "جبران الفنان والرؤيوي". كما وضعَ دراسات جمالية معمّقة تناولتْ نخبة من الفنانين التشكيليين كصليبا الدويهي وأسادور وضياء العزاوي وآدم حنين وإيتل عدنان وشفيق عبود وغيرهم. واستوحى بعضُ كبار الفنانين من قصائده ونصوصه رسومات ومنحوتات زيّنتْ عددًا من كتبه، أو واكبَ صدورُ بعضها معارضَ فنية وموسيقية كمعرض الموسيقى العربية في باريس الذي رافق صدور كتابه "أمواج" سنة 2016.

غير أنّ عيسى قبلَ كلّ شيء، إنسان حرّ خَفِر ذوّاقة مولَعٌ بالفنّ ومنحاز إلى الجمال أينما كان. هو نموذج نادر للمثقّف الموسوعي الذي تبطل أمام اتساع ثقافته، الحدودُ والفواصل، والذي تجتمع في شخصه المعارفُ والدماثة الأخلاقية العالية، ما يجعل الحديثَ معه شديد المتعة والفائدة (...)

مارلين كنعان

 

*

 

ما عرفته عن الأديب، أختصره بثلاث سمات كبرى: السمة الأولى، كونه مثاليا طوباويا وواقعيا في آن، وصديقا بعيدا مكانا وقريبا روحيا، في منزع يكاد يكون مستحيلا، وتجعله المحبّة ممكنا.

السمة الثانية أنّ غاية الثقافة لديه، واللغة، بل اللغات التي استطاب نسغها في المغتربين الفرنسي والأميركي اللاتيني، إنما هي بناء الجسور الموصلة الى معرفة الآخر، طمعا في مسالمته ونمائه وحرّيته والإقرار بفضله.

السمة الثالثة، وهي أنّ عيسى مخلوف، قبل أن يكون شاعرا وأديبا، وباحثا، هو بنّاء، معمرجي جسور، بينه وبين ذاته القديمة والجديدة، وبين السماء والأرض ونجماتها، وبينه وبين إخوانه، وبينه وبين وطنه، وبين ألمه وآلام الناس، وبين المهاجرين المغتربين وأحلامهم وانكساراتهم، وبين أدبه المعاصر وتراث أمّته التليد، وبين أمس شعره ويومه.

أنطوان أبو زيد

 

*

 

ليس سهلًا ولا عابرًا ولا قليلًا أنْ تجتمع صناعةُ الشعر، بصناعة الانتماء إلى روح باريس، وأنْ تقترنا اقترانًا جوهريًّا في مواطنٍ لبنانيٍّ من العالم، وأن تكون هاتان الميزتان، بما تنطويان عليه من أحمالٍ وأثقالٍ وهواجس وقيم ومعايير وجمالات، لصيقتَين به التصاق اللحم بالعظم، والجسد بالروح.

عقل العويط

 

*

 

عرفتُ عيسى مخلوف طفلاً... كنتُ الأقرب إلى طفولته الأولى لأننا كنا "جيران" وأولادَ الحيّ الواحد. لقد كان الموت، الذي زار بيت كلٍّ منّا، هو الجامع الأول بيننا: توفي أبي وأنا في الثامنة من عمري، وتوفي أخوه البكر سمير وهو في سنّ مُبكرة.

كنا طفلين نركض بين الأشجار قرب منزلنا، ونقطف الورود والأزهار البرّيّة الملونّة التي كانت تُشعرنا بالحرية والسعادة. ننفخ على بَتَلاتِها فتتطاير في السماء مبتعدة الى أماكن اخرى حاملة على أجنحتها البيضاء تمنياتنا وأحلامنا...

أشعر الآن بأنّ قوة نفسيّة وبيولوجية هائلة، نابعة من الأعماق، اختزنها في داخله هذا الإنسان ودفعته الى البحث عن الأنوار والحريّة والجمال، خارج أسوار الحياة اليومية المفروضة علينا.

جانيت الشدراوي الدويهي

*