إعلاء الجمال 

 

تستدعيني الكتابة في "مدينة في السماء" لعيسى مخلوف إلى تسجيل مقاربة فيها الكثير من الحرية، وبشكل شخصي. أحب وأعجب بهذا النوع من السرد المائل إلى التركيب، والتغيّر في الشكل بطريقة متقدمة جداً، تلحظ تعدد الأبعاد الثقافية، وتنوع العناصر المختلفة فيه (نثر، سرد، شعر، مقالة) مندمجة في وحدة حقيقية متعددة الأبعاد. تبدأ الحكاية ـ كما يقول مخلوف ـ في مقر منظمة الأمم المتحدة في نيويورك حيث عمل الكاتب بين عامي 2006 و2007 مستشاراً خاصاً للشؤون الثقافية والاجتماعية في إطار الدورة 61 للجمعية العامة. داخل هذا المقر، حيث تعد خرائط السلم والحرب وخارجه، ارتسمت معالم هذا الكتاب، وتبلورت في ظل المدينة التي تفيض على مساحتها وحدودها. داخل نيويورك، تحضر باريس وفلورنسا، بيروت والقاهرة، تقترب الأصقاع البعيدة في الجسد الواحد. في "مدينة في السماء" لمخلوف، كما في «عين السراب» و«رسالة إلى الأختين» تتداخل الإيقاعات والحركات، وتتوالى المشاهد على خلفية تشي بقوة الجمال الذي يتحدى الزمن والموت. تراكم من الجمال والإدهاش يدخلان السرور إلى قلب القارئ وهنا تكمن براعة مخلوف الفنية، الذي يقدم حياة سنتين كاملتين من الاستيهام، وقصر الفصول عنده يؤدي إلى إبطاء الزمن لتثبيت لحظات ومشاهد مهمة مفردة. التباين في درجات الإيقاع بين فصل وآخر له اهمية هائلة في السرد، وهو يتشكل في ذهن الكاتب عن نصوصه قبل كتابتها. في هذا التباين تحديداً يجمع مخلوف كل القوة العاطفية للسرد، ويجعله غاية في المهابة والهدوء. في نيويورك، يسترجع الكاتب والشاعر ما يشبه القص المتعلق بالأحلام والرؤى، ويقترب السرد من الخيال متحرراً من سيطرة العقل ومن الاهتمام بالاحتمالات. الخطوط الكثيرة لنصوص مخلوف مرتبطة معاً بتكنيك السرد الشاعري، لكن ترتبط أكثر من ذلك بموضوعها العام: جبروت الجمال الذي يستحوذ على الكاتب. في كل فصل يؤخذ هذا الموضوع من زاوية مختلفة، مثل شيء أمام مرآة ينعكس من تلقائه. يسترجع الكاتب، في إقامته النيويوركية، بدايات الحرب اللبنانية التي ظن الأهل انها ستنتهي في غضون أسبوعين اثنين فقط: «الذين كانوا يريدون حمايتي لم يفكروا في حماية أنفسهم. ودعوني وعادوا إلى المنزل وهم لا يدركون ان شيئاً لن يعود بعد اليوم كما كان، وان العمر قطعته فجأة سكين الحرب«. الحرب التي يستذكرها مخلوف، في هذا المشهد وذاك من الإقامة في نيويورك، تبدو أكثر فظاعة من حقيقتها، ربما لأن استدعاءها من أماكنها القصية، يستلزم حشد بشاعات تليق بوصفها. بعض الذكريات تصبح في لحظة السرد المفتوحة شرفة مشرّعة على التحسر اللانهائي. ثمة كما ذكرنا، ذلك الانصهار الكامل للحلم والواقع ما يجعل القص في جزء منه ثورة جمالية، خصوصاً في وصف العمران الشاهق النيويوركي، والعودة في اللحظة ذاتها إلى استرجاع الحرب اللبنانية. يتتبع مخلوف ما يمكن للحكاية وحدها ان تكتشفه، وهو يعرف أن الشكل التقليدي (القائم بشكل مطلق على مغامرة شخصية ومضمون هو مجرد سرد لتلك المغامرة)، يحد في الحكاية ويختزل إمكانياتها المعرفية. وهو يعرف ان للحكاية قوة غير عادية للاحتواء، بينما لا الشعر ولا الفلسفة يمكن ان يحتويا الرواية، لذلك يفرد بعض الفصول للشعر وحده، والبعض الآخر لمجرد التأمل في الأشياء وفي الحياة. غني عن الذكر لقارئ «مدينة في السماء» تذكيره بأن كل سطر من سطور مخلوف هو قصيدة ناجزة، جميلة ومؤثرة وإن اختلفت المواضيع المستعادة وتشعبت المشاهد. صراع مخلوف ضد النسيان، هو صراع ذاكرة متخمة بالجمال، وحكايته هذه التي بين أيدينا هي رغبته ونضاله بكل قوته، كي يتأكد بأنه لن ينسى، فالنسيان ظلم مطلق كما سلوان مطلق في الوقت نفسه، واستطلاع مخلوف لأيام نيويوركية هي الحيلة المثلى لنبذ النسيان، ونبذ الموت، فقط إعلاء الجمال كسبب وحيد لمتابعة العيش.

 

عناية جابر

(" صحيفة «السفير»، ٣١ تشرين الأول ٢٠١٢)