عين السراب

 

ما أرويه اليوم هو الحكايات التي كنتُ أترقّبُ

أن يرويها لي أحد.
ما أرويه ليس إلاّ جزءاً ممّا لم أرَ
ولو رأيتُ لما رويت.

نسافر

نسافرُ حتّى نبتعدَ عن المكان الذي أنجبَنا ونرى الجهةَ الأخرى من الشروق. نسافر بحثاً عن طفولاتنا، عن ولادات لم تحدث. نسافر لتكتمل الأبجديّاتُ الناقصة. ليكونَ الوداع مليئاً بالوعود. لنبتعدَ كالشَّفَق يرافقُنا ويودِّعُنا. نمزّق المصائر ونبعثر صفحاتها في الريح قبل أن نجد – أو لا نجد – سيرتنا في كُتُب أخرى.
نسافر نحو المصائر غير المكتوبة. نسافر لنقولَ للّذين التقيناهم إنّنا سنعود ونلتقي بهم. نسافر لنتعلّم لغة الأشجار التي لا تسافر. لنلمِّعَ رنينَ الأجراس في الأودية المقدَّسة. لنبحثَ عن آلهة أكثرَ رحمة. لننزعَ عن وجوه الغرباء أقنعةَ الغُربة. لنُسِرَّ للعابرين بأنّنا مثلهم عابرون وبأنّ إقامتَنا مُوَقَّتة في الذاكرة والنسيان. بعيداً عن الأمّهات اللواتي يشعلن شمعةَ الغياب، ويرقِّقن قشرة الوقت كلّما ارتفعت أيديهنّ إلى السماء.
نسافر حتّى لا نرى أهلنا يشيخون، ولا نقرأ أيّامهم على وجوههم. نسافر في غفلة من الأعمار المبدَّدة سَلَفاً. نسافرُ لنبلّغَ الذين نحبُّهم أنّنا لا نزال نُحبّ، وأنّ البُعدَ لا يقوى على دهشتنا، وأنّ المنافي لذيذة وطازجة كالأوطان. نسافر حتّى إذا ما عدنا إلى أوطاننا أحسسنا أنّنا مهاجرون في كلّ مكان. هكذا بغتةً، ننفضُ عن أجنحتنا الشرفات المشرَّعة على الشمس والبحر. نسافر حتّى لا يعودَ ثمّة فرقٌ بين هواء وهواء، بين ماء وماء، بين سماء وجحيم. نهزأُ من الوقت. نجلسُ وننظرُ إلى المدى. نرى الأمواج تتقافزُ كالأطفال. يمضي البحرُ أمامنا بين سفينتَين، واحدة ترحل، وأُخرى من ورق في يد طفل.
نسافرُ كما ينتقلُ المهرّجُ من قرية إلى قرية، ومعه حيواناتُه تلقّن الأطفالَ أمثولتَهم الأولى في السأَم. نسافر لنخدعَ الموت، فنتركه يتعقَّبُنا من مكان إلى آخر. ونظلُّ نسافر إلى أن لا نجدَ أنفسنا في الأمكنة التي نسافرُ إليها. لنضيعَ فلا يعثر علينا أحد.

قريباً من خُبز الصباح

يحملُ إليّ هواءُ هذا المساء صوتُ الشاعرة اليونانيّة سافو. يحملُ الهندسة المقدّسة في صوتها حلماً ينبتُ على حافّة الليل أراهُ من شرفتي المطلّة على مطر خفيف يضيع في الضباب.
كيف ألمس نورها من وراء الحُجُب والشمس تغيب في زوغان عينيها المغادرتَين؟ كلّ الوعود بحياة أبديّة، كلّ الفراديس المتخيَّلة في صوتها، وكلّ أجراس أوديتها وسماواتها هي له وحده، للرجُل الخارج من المرأة وفي قلبه شيءٌ من قلبها. وفي قلبه شيء من الرجاء.
الرجاء واحد لا يتجزّأ. شجرة واحدة هي شجرةُ الرجاء. خدعة تُقاومُ حقيقة اليأس المتعدّد. بعيدة هي شجرة الرجاء، لا تنبت إلاّ في الأمكنة القصيّة دائماً. أمّا عشبة اليأس السامّة فهي في كلّ مكان. داخل الجسد وخارجه وفي كلّ مكان. هي المشاعر الوضيعة على أنواعها. الحقد والبغض والخبث والحسد. هي أيضاً الجوع والبرد والعطش والذلّ. هي مشيئة الحرب والمطر الأسود المتساقط فوق هيروشيما، ومنذ هيروشيما، فوق العالم بأسره. المطر الأسود الذي لا ينفكّ يتساقط ويلطّخ نفس البشر ببُقَع مَقيتة. هي نقصان الحبّ. لكن كيف لنا يا سافو أن نبتكر الحبّ الذي لا يحيي ولا يميت ولا يخفي شفرته الجارحة تحت جَناحيه المبسوطَين في عراء الزمن؟ أسمعكِ تقولين إنّ زمن البشر لم يأتِ بعد! تُرى متى يأتي وكيف؟ هل يأتي رأساً مقطوعاً محمولاً على الأكفّ؟ لقد تعبت الأجيال المتلاحقة من صَوغ الحكاية ومن تكرار المصائر ذاتها في دورة لا ترتوي ولا تهدأ؟
يحمل إليّ هواء هذا المساء صوتكِ. صوتكِ أنتِ بعد ألفَين وستمئة عام على اندلاعه للمرّة الأولى، قرب أنهار المأساة الإغريقيّة وقرب الأساطير التي يتصارع فيها البشر والآلهة. أتهجّى في صوتك:
جسدَ المرأة بعد الحُبّ.
الجثّة المسجّاة في انتظار أن نغطّيها بالنسيان.
السقوط المائل المحسوب رياضيّاً.
سقوط الأجساد التي نُحِبّ، الواحد بعد الآخر.
قياسات السقوط: المسطرة والبركار.
هندسة الهدم.
الهدم الهائل الذي لا يستقيم بدون تصوُّر هندسي هائل.
تدمير الهيكل تدميراً للطقس...
تسألين هل ثمّة حُبٌّ لا يزال يقيم بيننا. الحبّ القليل بين الإنسان والإنسان. بين الإنسان والحيوان. بينه والنبات. أم أنّنا بدأنا معركة جديدة لا حاجة فيها إلى الأسلحة القديمة.
تسألين هل البشر لا يزالون يفتحون كتاب الأساطير ويحرّكون رماد الموتى بحثاً عن نار خبيئة. أم أنّ الموت مات. وحنين الموتى، حتّى حنين الموتى إلى زيارتنا في الأحلام، نضب. الموتى الذين نحبّهم ونشتاق إلى رؤيتهم فيلبّون نداء الشوق ولا يتمهّلون. هم الذين ينتظروننا على الضفّة الأخرى يأتون لملاقاتنا عند حدود الأحلام. ولا يجرؤون على الاقتراب منّا أكثر حتّى لا ينكسر الفاصل.
كلمتكِ هي أردّدها لتكون كلمتي. نتركُ الآخر كمن يترك مسكناً ما عاد يرغب في الإقامة فيه. أين هم الذين كانوا يرتعشون في الهواء، يتحرّكون وراء المربّعات الزجاجيّة، يقهقهون ويعطّرون قلوبنا؟ أين هم أولئك الذين تركونا نبحث عن لون للسأَم، عن كلمة نسمّي فيها الرطوبة الأبديّة لكنائس أوروبا؟ فحيثما نحن اليوم، لا نعرف هل الطريق إلى الأمام أم إلى الوراء. أين الطريق وإلى أين تكون الخطوة المقبلة؟
لا ليس هو مطر الذهب المتساقط فوق داناي. فوق جسدها الملتوي من الوجع. أسمعها من وراء الستارة التي تفصل بيننا تتنهَّد وتقول: كيف نتخلّص من الوقت إذا لم نتخلّص من الحياة نفسها، ولا نريد أن نتخلّص منها فماذا نفعل؟
هل لنا أن نبني عالماً بدون أنقاض ولا ذكرى؟ نقترب من الأشياء البسيطة، بدون هدف أو مرمى. في ضوء القمر الذي يروِّض في طريقه الجبال، ويدعوها إلى الجلوس معنا على الشرفات. وأنتِِ لا تنفكّين تغيبين، تمتدّ أمام مسكنك مساحات خضراء لا تنتهي.
ثمّة أصوات نستعيض بها عن الموسيقى. أفكّر الآن في المرثاة الأولى لدْوينو. في الحيوان الصغير الذي رافقني شهراً واحداً في طفولتي وأفكّر في عينيه. في البحار التي بقيت وعداً في الكُتُب. وحين يهبّ الهواء الكبير فوق أمواجها المتململة كبطن امرأة في شهرها التاسع، إنّما هو يهبّ في رأسي. لا، لم أسافر بعد. وما زلتُ أحلم في السفر.
لم نرَ وجوهنا في الماء. الكؤوس الملوّنة المرميّة في البحر هي كؤوس البندقيّة عند اشتعال القناة الكبيرة. ومعها المرآة وخاتم الذهب وضفيرة من شَعرك البندقيّ لا تلمس القاع أبداً، قريباً من متحف "لاكاديميا" حيث تستريح عذراء بلّيني، أجمل امرأة في إيطاليا.
في طريق العودة، سنجلس حيث تعوّدنا الجلوس. عالياً سنجلس وأمامنا أشعّة الشمس الغاربة المنهمكة في نقل أشجار الشربين إلى أمكنة أخرى. ولا نفقه إلى ما يجري حولنا أو أنّنا نتظاهر بأنّنا لا نفقه. يا عصفوري الصغير المختبئ في ظلّ الأوراق والأغصان، لا أعرف إن كنتَ تموت أو تختبئ.
يحمل إليّ هواء هذا المساء صوت سافو، ناصعاً وقوياً كشمس الجبال بعد المطر. الجبال الوفيّة التي تلقي مرساتها في الأرض، هنا، قريباً من خبز الصباح.

الشاهد

بعد منتصف الليل بقليل، يرتدي الميدان حلّة أخرى. يدخل طقوسه السريّة، لكن على مرأى من العيون.
من السكاكين العديدة التي يملكها الجزّار، يختار السكّين الأطوَع والأجمل. تنبري وحدها في الساحة كمسلّة وحيدة مضيئة. بَوصلة المكان إلى الروح. يرفعها لتصبح قبالة عينيه. يتأمّل شفرتها، ثمّ يحاول أن يلامسها بظفره. ولشدّة ما يدنو منها، تبدو كأنّها تلهث في وجهه.
في لوحة الفنّان الهولندي رامبرانت يتدلّى العجل المذبوح بأبّهة، مصلوباً خارج الآلام والأوجاع، مسكوناً برهبة الريشة التي رسمته. أمّا في الساحة، فالعجل المهيّأ للذبح مكبّل ومطروح أرضاً. وفي لحظة محدّدة، أي حين يأتي الحبل فيلفّ عنقه ورأسه بعد أن يكون قد لفّ قوائمه وأحاط بأنحائه، يعرف أن ما من شيء عاد ينفع، لا حراك الرأس الضخم ولا القوائم الأربع، فيستسلم مكرهاً مقهوراً لسكّين الجزّار. لكن قبل أن يُجزّ عنقه بثوان معدودة، يطلق صرخة مكتومة مدوّية تقول الموت وما هو أبعد من الموت. كأنّها صفّارة الرحيل تطلقها السفن الكبيرة قبل أن تغادر الشواطئ. وهي تطلقها في قلب الذين يشعرون بأنّهم لن يعودوا. لا ليست هي صرخة فحسب. إنّها، بتسمية أهل المكان، "جَعرَة"، أو "جَعير". وهذه الكلمة البليغة الحاسمة يطلقونها، أحياناً، على البشر، في لحظات الغضب الأقصى.
كيف تكون شاهداً لتلك الصرخة ولا تقترب؟ من أيّ وجع قديم تطلع الصرخة؟ وهل يستطيع الهواء أن يلوكها ويبعثرها؟ أم أنّها تظلّ جاثمة هناك في هواء ساكن لا يتحرّك ؟
وما حيلتك حين يستيقظ فيك، فجأة، قتلى الثأر، أولئك الذين زيّنوا طفولتك بزينة الموت، وأطلقوا في سمائها أجراسَ الملاك الهارب، وهي، بلا ريب، أجراسٌ حزينة ؟

جميلةٌ هي الأرض

جميلة هي الأرض.
جميلة هي السحابة المتهادية لوحدها في سماء زرقاء، كطائر ضيّع سربه وشرط طيرانه. جميلة النجوم وغريبة أنوارها الحائرة، حارسة المدى اللانهائي، تراقبك من بعيد، تعرفكَ هي وأنتَ لا تعرفها. تُرى أترأف بك لأنّك لا تدرك ما الذي ينتظرك عند العتبة، أم أنّها تدرك أنّ مصيرك ومصيرها واحد؟
جميلة هي النسمة الرحيمة في صيف الجُزُر البعيد تلفح الجباه. جميلة هي الأمطار الرشيقة فوق الأعشاب العطشى. وجميلٌ عطر الأنثى المجهولة التي تمرّ بقربك ماضية في سبيلها.
جميلٌ لقاؤنا قبل أن يتعثَّر بالتفاصيل. يأخذُ شكلَ هلالٍ نُعَلِّقُ فوقه أحلامَنا.
جميلة هي الأرض حين تغادرها روحي وألتفت إليها كما رائد الفضاء من مركبته فأراها زرقاء مضيئة من داخل. ترفع أشرعتها البيضاء وتتقدّمني، تسبقني إلى حيث أمضي، كأنّها تدلّني على الطريق.
جميلةٌ هي الأرضُ الماضية إلى حتفها بسرورٍ نادر.

لحظة سكون
(مقاطع(

يتراءى للجائعين في المدن أنّ حقول القمح البعيدة، هناك، تمتدّ إلى ما لانهاية، وأن لا جوع تحت الشمس.
جوع المدن أتعرفه؟ جوع المتاهة التي لا تفضي إلى أرض وإلى شجرة. الجوع الأعمق من كلّ جوع. الجوع إلى الآخر المتواري حتّى عن نفسه.

I

أنا الحلاّج المصلوب الكئيب. أنزفُ عطشي. أنظر إلى أهلي ولا أعرفهم. ولا أعرف الأصدقاء المتسربلين في عباءة المال. ولا أعرف حيوان البريّة الذي جاءني في المنام وأيقظني هذا الصباح. أجهل اسمي. أجهل التراب الذي أنجبني، وذاك الذي ينتظرني عند العتبة. بين الولادة والموت اسمٌ لا يُسمّى. قوس لا ينطلق... أرسم طلاسم روحي على الورق وبقايا جسدي المتناثر في المكان. جسدي الذي ليس لي ولستُ له. جسدي الآيل إلى مصيره وأنا الذاهب إلى مصيري. ساعدني أيّها المشتعل فيَّ لبلوغ هذا المصير.
ساعدني يا من لا أرى وجهه لكنّي أرى نوره. خلّصني ممّا يبعدني عنك ويؤجّج رغبتي فيك. لا اسم لما أتهجّاه وأسمّيه. أنظر إليك وأرى أغصان المرجان. أرى الماسة لحظة تكوّنها. ينفلق الفجر يترقرق منه الصباح. معك أنا خارج الحبّ والحقد. فارغ من الدنيا والآخرة. خارج الأرض التي تدور. المدى الذي أحيا فيه هو أنت، ولا موضع لي سواك.
لا يحتويني جسدٌ ولا مكان. لا سهل يحتويني ولا جبل. دمائي تفيض من جسدي وجسدي يفيض منّي. ولا أطيق سقفاً فوق رأسي. في لحظات الخطف والتلاشي أقول الشيء ونقيضه، ولا يثنيني أمرٌ عن قول الحقّ. أنا كاتبُ ما يُنسَبُ إليّ وما يُنسَبُ إلى غيري، أتطهّرُ بالألم وأزداد وَجْداً، ولا أخاف. حين جيء بي إلى الإعدام ورأيتُ الخشب والمسامير، ضحكتُ ضحكاً عظيماً. وحده القادر على الغفران، المستتبّ فوق الخير والشرّ، قادر على مواجهة العالم.
خشبةٌ طويلة تتقاطع مع خشبة أقلّ طولاً. خشبتان متفاوتتا الحجم تسبحان في الفضاء. خشبة لتستريح فوقها يداي وأخرى أسند إليها رأسي وجذعي وأرتفع فوق هذا المركب الخشبي مصلوباً في الهواء. عائماً ولا فرق بين جسدي وروحي. ممدّداً بكامل قدرتي على التمدُّد. بسيطاً وخفيفاً كريشة عصفور. صليبي متحرّك يحملني صعوداً وهبوطاً، يدور بي يميناً وشمالاً وفي جميع الاتجاهات، بسرعة حيناً، وحيناً آخر بهدوء. ثمّ بسرعة هوجاء قبل أن يستقرّ فجأة كأنّه طائرٌ حطَّ في الهواء. وإذا برأسي في أسفل الخشبة. ومن أسفل أرى السماء. أراني قريباً منها ومن أزرقها الساطع ومن جروحي تهطل عليّ كندف الثلج. وبقدر ما كنتُ أقتربُ من الموت، أشعرُ بلذّة غريبة ونادرة لا يعرفها الأحياء الذين لم يقفوا مثلي عند الحدود الفاصلة بين العالَمَين ولم يكن دليلهما هو دليلي. ساعدني أيّها الدليل لاجتياز تلك الحدود...

II

أنا رابعة العدويّة لا يعنيني من الوجود غيره. أقصد هوَ. الكلّي المطلق. من لا يعرفني لا يصدّقني. وأنا لا أصدّق نفسي. من أجله تركتُ العالم، وفتحتُ ذراعيّ لمجهول لا يتحدّد كنهه إلاّ به. الواحد الأحد. لا عيب فيه ولا خطأ. وليس كمثله شيء. يأخذني الحنين إليه. لا ليس حنيناً بل شيء يشبه الموت. تُرى لو كان هو الموت؟
(...) كنتُ أحسّ أنّ الحياة أيّام معدودة فأعبث بها. أسهر طويلاً، وأخشى أن أنام فلا أنهض من نومي. تعذّبتُ لكن ثمّة ما كان يتجمّل ويتزيّن في قلبي، وما كنتُ لأشعر بأنّني من هذا التراب. كنتُ في وحدتي ليلاً أسمع ألحاناً آتية من بعيد، وأشمّ عطراً خالداً، فعرفتُ أنّ في داخلي سرّاً. كتمتُ وانتظرتُ شمسي. (...) 
أناديك: "أمهلني قليلاً لأكون أنا كما تحبّني أنت أن أكون : عارية إلاّ من حنيني إليك. ما الذي يمكن أن تأتيَه نقطة مثلي لظامئ كالبحر مثلك؟ أنت البحر والعصف. وأنتَ الدمعة فوق خدّي. وأنتَ زبَدي. بالغةُ الزهو تلك الكرات الذهبيّة وتلمحُكَ. تفوقها زهواً أنت. أينما توجّهتُ ببصري، أعرف أنّها لا تخطئك منّي. كقناع إفريقي متأهِّب للحرب أو للمطر. كرفيق على درب قاحلة، دعني أمسك بيدكَ جيّداً. بخلاياك. بدمك. بسمائك ونجومك. كلّ ما حولي يتزيّن لك. والقلب. حين القلب يأخذ دقّة ضخمة. طويلة وللعمق... حتّى لأحسبه غاص في الدقّة. ثمّ، مَن قال : ما وُلِدنا معاً؟".

III

أنا فرنسيس الأسيزي، أحبّ طيور السماء والنساء الحوامل. أحبّ الأثداء الكبيرة ولا أحتاج إلى طعام لأعيش. وأنادي الأشجار بأسمائها. أوجّه العصافير إلى أعشاشها. أتكلّم مع الذئاب ولا أخشى أنيابها. وأحبّ كلارا. كلارا الجميلة الرائعة التي تركت أبويها وحلقت شعر رأسها من أجلي. أحبّها لأنّ شفتيها لا تنفتحان إلاّ تعبيراً عن دهشتها أمام انبلاج فجر أو ترقرق ساقية فوق الحصى أو انقصاف غصن حين تهبّ ريح قويّة. في صمت قلبها تصغي إلى حركة الأرض الدائبة. كانت تجلس تحت شجرة الشربين عند الغروب كأنّها تجلس بالقرب من روحها. وأنا أجلس تحت شجرة شربين أخرى وبيننا المزيد من أشجار الشربين والسرْوِِ والزيتون والصبّار والأكاسيا. (...)
كلّما استغرقتُ عميقاً في الصلاة أو تأمّلتُ كلارا وهي جاثية تصلّي أو جالسة بصمت قُرب الشجرة، رآني أحد رفاقي في الصلاة أرتفع عن الأرض. وما كنتُ لألحظ ذلك يوماً لأنّني أكون في حالة من التأمّل والذهول، فلا أرى شيئاً ولا أسمع شيئاً. والأغرب أنّني لم أسعد في حياتي مثل السعادة التي ذقتها حين توفيت كلارا بغتةً. صحيح أنّ هذه المرأة كانت الأعزّ إليّ، لكنّ حضورها فيّ كان طاغياً إلى درجة أنّه غالباً ما كان يلهيني حتّى عن الصلاة. كان جمالها يرعبني فأتحاشى أن أنظر إليه. وكأنّها كانت تدرك ذلك في أعماقها ككلّ أُنثى تملك قلب رجُل. (...) 
بعد أربعين يوماً من الصيام والصلاة، زاغ بصري وصرتُ أرى ما لا طاقة لبشريّ أن يراه. الجحيم والنعيم في كوّة واحدة. الأحياء والأموات معاً، وأولئك الذين لم يولدوا بعد. صرتُ أجد نفسي أحلّق عالياً فوق سهوب "أومبريا" الجميلة. وفي المساءات المتلوّنة، أمسك بطرف خيط الأفق وأنزعه من مكانه، فلا يعود ثمّة أفق ولا فاصل بين الأرض والسماء. وأتابع طيراني مترنّحاً، خافق الجناحَين، متململاً، ثمّ أهدأ وأرتمي ساكناً في الهواء، فاتحاً أجنحتي إلى أقصى أطرافها، منسكباً في الفضاء اللامتناهي. (...)

IV

أنا تيريزا الآبليّة. أحبّ الرجال الذين يثيرون في أعضائي نوازع لا تنطفىء. أحبّهم لكن ماءهم قليل. أحبّهم فيه هو الواحد الذي لا تحصى أعداده، وهو الذي يروي ولا ينضب. أحبّ كتابة الرسائل وله وحده أكتب. أكتبها بجسدي وبالعرق الراشح من جبيني. وبالحمّى المشتعلة فيّ بعد منتصف الليل. أشتاق إليه وأبكي له من حرقتي واشتياقي. أشتاق إليه وأحترق. حبيبي هو وزوجي.
خفتُ من محاكم التفتيش تحاكمني على قولي إنّ الموت هو التمتُّع بقُربك. المحرقة أمامي وفي لوحات فيلاسكيز وغويا تفضح سلوك البشر على الأرض. أهوال الجحيم الأرضي على يد مَن يدّعي حُبّك. خفتُ من الحشود التي تحلّقت حولك أيّام الشعانين، ركعتْ أمام قدميك، وتباركت بلَمس ثيابك، وفي اليوم التالي رفعت صليبك مع الذين صلبوك.
كلُّ شيء باطل وقصيرُ الأجل. أنام قليلاً وعندما أستيقظ لا يبقى شيءٌ ممّا كان. جاءني ملاكٌ وفي يده سهم وفي طرف السهم شرارة تتلألأ. إليَّ نظرَ نظرتَه المشعّة، ومن وراء ابتسامته الغامضة صوّب سهمه إلى قلبي. ولجَه مرّات عدّة. بلغَ أحشائي ثمّ انتزعه منّي وتركني مشتعلةً بحبّه.
هوذا الملاك يمتلكُ قلبي ويأخذني إلى نعيمه. مُبَلسمي هو وعزائي. طَعْنَتُه بجانب قلبي. الطعنة التي تثير فيّ آلامَ الشهوة، ولا كآبة بعدها أو شعور بنقصان. وحده برنيني عرف كيف يصوغ لذّتي. عرفني في أقصى وجعي وأقصى نشوتي وكنتُ على حافّة الموت. في صفاء حَجَره أرتاحُ، وفي حَيرة رُخامه. وأمامي الملاك الجميل يراني ولا أراه. وكيف لي أن أراه وأنا لستُ في مكان؟ (...)

V

أنا سمعان العمودي. غريبٌ أنا على هذه الأرض وأريد أن أرتقي. أنام قليلاً وأصحو طويلاً ولا يكفيني صحوي للصلاة. من أعلى عمودي أرى من السماء ليلاً ما لا يراه أيّ مرصد سماوي. وأصغي إلى هنّات آتية من عالم بعيد. من قال إنّ الكائنات الآتية من كواكب أخرى لم تصل أرضنا بعدُ. لقد وصلت منذ أزمنة بعيدة. لكنّها لفرط تقدّمها علينا باتت غير منظورة. هي هنا، حولنا وفي كلّ مكان.
أنا سمعان. أحبّ علمَ الفَلَك والمراصد الجويّة. ولا سقف لأحلامي. أحبّ الريح والمطر والفصول الأربعة. تدور الشمس حولي سبع دورات تذكّرني بأنّني عابر وبأنّ العمود، عمودي المرفوع هنا، سيبقى دليلاً على عبوري. مَن أنا لألجم ليل الأسرار؟ لأحمل كلّ هذه الأنجم على رأسي؟ لأتابع حركة الأمواج المتدفّقة في قلبي؟ لأجعل المسافة بين الأرض والسماء واهية كخيط العنكبوت؟ من أنا لأجمع في قلب واحد كلّ هذه الأحوال والتناقضات. لأسرّح روحي كما تسرح الغيمة الوحيدة المتأخّرة عن سربها وروحي صغيرة كحبّة حنطة؟ (...)

لا جوع تحت الشمس.
جوع المدن أتعرفه؟ جوع المتاهة التي لا تفضي إلى أرض وإلى شجرة. النهدُ الفقير ممتلئٌ بالحليب الفقير. يسافرُ المسافرُ وحيداً. يلتفتُ نحو السماء وينادي: أينَ أنتَ وماذا فَعَلتَ؟ ولماذا تركتَني؟ أنتَ يا من يَهبُ ناراً للبراكين، هَبْ ماءً لظمإي. هَبني لحظة سكونٍ واحدة بحجمِ الأرضِ والعالم.



)من كتاب "عين السراب"، دار النهار للنشر، بيروت 2000)