حين تحتلّ المدينة الزمان والمكان

 



يفاجئك في كتاب عيسى مخلوف «مدينة في السماء» الذي ترجمه إلى الفرنسية مؤخَّراًً مترجم ثلاثية نجيب محفوظ فيليب فيغرو (منشورات كورتي، باريس) غيابُ الحصر. فهو ليس كغيره من الكتب الأخرى، محدَّد الشكل في رواية، أو قصة، أو بحث، أو مقال... لا شيء من ذلك كله. عليك أن تدخل حرمه بعد أن تخلع نعليك ما إن تكتشف أن ثمة «شيء ضائع منذ البداية». وستعرف، منذ البداية أيضاً وأنت تبحث عنه، أنك لن تعثر عليه لكنك مع ذلك، وربما على غرار سيزيف، ستتابع البحث عنه حتى لا تضيع أنت نفسك!


قبل أن يصل إليها، لاشك أن عيسى مخلوف قد زارها عبر ما كتبه عنها، أو فيها، أو لها كثيرٌ من الكتّاب أو الشعراء ممن حلم بنيويورك، أو استعادها، أو استخدمها، كلّ على طريقته في رواية أو في قصيدة: من وولت ويتمان، إلى جون دوس باسوس، إلى فديريكو غارثيا لوركا، إلى آلان روب غرييه، إلى أدونيس، إلى بول أوستر، إلى عبد الوهاب البياتي...

لكن نيويورك وهي تنعكس في عينَيْ عيسى مخلوف تستحيل كتابة كشّافة، وتصير من خلالها إمكانَ العالم كله، زماناً ومكاناً، حدودها حدوده، وكل ما تقع عليه عيناه فيها يردّه إلى مكان آخر، مكان يتجسَّد منحوتةً، أو صورة، أو جسداً أو ساحة أو قصة أو تاريخاً، فتصير المدينة هو، أو العالم هو، جمالاً وألماً، أنيناً وتوقاً، وبكلمة، بعضُ ما عاشه، أوحَلُم به، أو رآه رأي العين، أو قرأه، أو آلمه، أو نفَّرَه، أو جنح به في سماوات الخيال!

كُتِبَ على غلاف الكتاب الأخير «تبدأ الحكاية...» بما قد يوحي أننا أمام حكاية: ربما أُريدَ بها «الحُجّة»، أو «الدافع» أو السبب»! فقد كان وجود المؤلِّف بين عامي 2006 و2007 في مقرّ منظمة الأمم المتحدة من أجل العمل فرصة لبداية عمارة هذا الكتاب. إذ سرعان ما سنكتشف أننا أمام حكايات لا حكاية، وأنها حكايات لا رابط ظاهراً بينها يؤدّي إلى مآل. ثم سنعثر على نصوص أقرب إلى القصائد منها إلى الحكاية، وعلى نصوص أخرى أقرب إلى التأمُّلات في ما يمكن أن تستدعيه إلى الذاكرة صورة أو موقف أو حدث. وما إن نتساءل عن الزمان حتى تتراءى أمامنا حقب وعصور وقرون مختلفة متجاورة تجاور أمكنة مختلفة هي الأخرى: من مركز التجارة العالمي قبل أن يستحيل ضريحاً «ينصهر فيه القتلة والمقتولون» في بداية العقد الأول من القرن الحالي، إلى فلورنسا نتابع في بعض شوارعها يوماً بعد يوم قصة الحبّ التي جرت في صمتٍ مطبق بين دانتي وبياتريس في نهاية القرن الثالث عشر أو بداية القرن الرابع عشر، أو من لينكولن سنتر إلى البساطة المعجزة في تصميم باحة مسجد ابن طولون في القاهرة. وسنتساءل عما يربط بين هذه النصوص. وسنحاول أن نفهم تقسيم الكتاب إلى فصول أربعة تزداد واحداً إذ تبدأ بالصيف، وتنتهي بصيف آخر. ستبدأ نيويورك في عيني المؤلِّف، وفي أعيننا أيضاً، نحن القراء، من هذه النقطة تحديداً، تلك التي تجمع العالم أجمع حول حلم لن يتحقَّق: الأمم المتحدة. لكنها، على غرار المرأة التي جسَّدتها منحوتة «هنري مور» على أنها ذات ملامح بشرية لكن «تكاوينها تذهب أبعد من ملامح البشر»، مدينة ذات مظاهر عمرانية إلا أنها «ترتفع عن صخرتها الثابتة لتتمدَّد برهة فوق الغيوم». لكننا لن نراها كما لو كنا أمام صورة فوتوغرافية، ولن تتبدّى لنا طرقاً وشوارع نجتازها واحداً بعد الآخر حتى نتعرَّف معالمها. ستبدي لنا القراءة- ما إن نجتاز عتبة الكتاب- أننا أمام قطعة هائلة من موزاييك/فسيفساء بلا حدود، وأن علينا- كلما اقتربت أعيننا من حجارتها الملوَّنة المصفوفة راسمة معالم ووجوه وتعابير شخوص- أن نبتعد عنها مسافة قد تطول أو تقصر كي نتمكَّن من رؤية ما رسمته في تفاصيله.

وما هي في الحقيقة إلا رسوم هواجس تراود من يزور نيويورك، ولا سيما إن كان مثقلاً بهموم عربي يعيش في باريس. لكننا هنا أمام ضرب من الهواجس لا تغادرنا، بل تبقى راسية في الأعماق منا، وتخرج بين الفينة والفينة في صورة مُبْدَع ما: قصيدة أو رواية أو منحوتة أو لوحة. وهي هنا هواجس المؤلِّف نفسه. لا يمكن لمدينة مثل نيويورك ألا تجعلها تطفو شيئاً فشيئاً في الخاطر أولاً، ثم عبر الكتابة التي تبدو الملاذ الآمن الحنون. لأن الكتابة «إصغاء»، ولأنها «تبعد الخوف»، ولأن لها «وجه نقتفي أثر قسماته فينا. وجه واحد هو طريقنا إلى الوجوه كلها".

هذه الكتابة هي التي تحملنا منذ البداية نحو «الزناجات التي نقلت السود من مواطنهم الأصلية» وتقول لنا كيف صار «الوادي السعيد» اليوم حي «هارلم»! وتجعلنا نرى، ثانية وثالثة، من خلال الحروف هذه المرّة، يوم الحادي عشر من أيلول «الجسد الممسك بإحدى نوافذ الطابق الخامس والسبعين» أو «الرجل الذي رمى بنفسه من الطابق السادس والثمانين» ليصير «نقطة سوداء»، وتتيح لنا زيارة الـ(غراوند زيرو)، نقطة التصادم في مانهاتن يوم 11 سبتمبر/أيلول «وقبلها في اليابان» لتدرك أنها قد تغطي، «هذه النقطة بالذات» «في أي لحظة- وربما على غفلة منا- سطح الكوكب بأكمله".

الموت، والدم، والحرب، والجرح، والألم، والأنين، والحريق.. كلمات تتردَّد هيَ وأصداؤها بين جنبات هذا الموزاييك العجيب المتماسك مع ذلك إلى أبعد حدود التماسك. ولا بدّ لأحدنا من أن يوجد فيه- على كل حال- شخصاً أو سؤالاً أو عذاباً: «كيف نفرّق بين القاتل والقتيل؟»؛ كيف نميّز بين الإنسان والحيوان؟ وننتبه إلى أن سهولة التمييز بين ضروب الحيوان تقابلها استحالة التمييز بين ضروب البشر! ذلك أن «الأرنب ليس وحشاً ضارياً، والحمار ليس ضبعاً، والنعجة ليست أسداً جائعاً، بينما الشكل البشري واحد. قناع واحد للجلّاد وللضحية، للمخلِص وللخائن، للصادق وللمنافق، للمنادي بالحرية ويَستعبِد في الظلام، للداعي إلى الحب وقلبه ينتشي بالثأر...(...) القاتل الذي بيننا، وقد يكون في داخلنا، نطعمه ويطعمنا، يفرح لفرحنا، ويحزن لأحزاننا. يتودَّد وينصب الفخاخ لنا في آن واحد.» ذلك هو الشرك المراوغ الذي نُصِبَ للإنسانية. وهو أيضاً وفي الوقت نفسه الشرخ العميق الذي يؤرِّق حياتها، ويغرقها في بحار دمٍ ومتاهات حروبٍ لا تنتهي، ويجعلنا «مع تناول طعام الفطور، نأخذ قسطنا اليومي من القتلى والجرحى..."

هكذا سنتنقل بين أرجاء عالم- على خصوصيته- هو عالم كلّ واحد منا. وربما تقع فرادته- على وجه الدقّة- في هذه النقطة: صيرورة الخاص عاماً. كأنما تسعى عمارة الكتاب نفسها إلى تحقيق ذلك من وراء ما يبدو للوهلة الأولى شذرات مبعثرة من النصوص، ثم لا تلبث أن تبدو على استقلالها متماسكة فيما بينها أشدّ التماسك، إذ تؤدّي الوظيفة المنوطة بها في هذا المجموع، بينما تشي بقدر من الحذق والمهارة كان يملكهما في الماضي حِرَفِيّو الموزاييك/الفسيفساء مثلما كان يملك ناصية تركيبها عديد من الكتاب العرب في عصور مضت.

لنا أن نقرأ هذه الشذرات كلاً على حدة، وكيفما اتفق، وأن نستغرق في ما تنطوي عليه من جمال قلق أو من تفاصيل تعكس وعياً ثقافياً لا تقتصر عناصره على ميدان واحد: «هل يكفي أن نتحسَّسَ ظاهر البطن لنعرف ماهيَّته؟ يندمل جُرْحُ السرّة، أما جرح الولادة فلا يندمل». ولنا كذلك أن نتابع العلاقات الخفيّة فيما بينها منسوجة من خيوط حريرية لا تكاد ترى: من الحديث عن السِّلْم الذي يبدأ كل صباح في أروقة مقرّ الأمم المتحدة إلى المراهق العاشق الذي كانه إذ يفاجأ بالحرب الطارئة تغزو حبّه الوليد، إلى بطن المرأة/الأمّ وما يوحي به: «من البطن تبدأ الأمومة»، إلى لوحة كوربييه المعروضة في متحف أورسي: «أصل العالم». تلك في الحقيقة ميزة غياب الحصر ضمن شكل أو صيغة. لكنها ميزة قد تنقلب وبالاً لولا ما تصدر عنه من هموم استحوذت على كينونة المؤلِّف وسَكَنَتْه. ليس المهمّ أن نعثر بعد بحث وطول عناء عن ضالتنا مادامت تتجسّدُ- على وجه الدقّة- في بحثنا نفسه. لهذا ما إن نطوي آخر صفحة من الكتاب حتى نرانا نعود إلى الصفحة الأولى من جديد نسألها المزيد، أو إلى صفحة أخرى نسألها المعنى.

هكذا، شيئاً فشيئاً إذاً، يتراءى لنا عالم عيسى مخلوف كما أراد له أن يتجلى. عالم واقعي بقدر ما هو شعري في محاولة استخلاص الكامن والخفيّ من مباذل الحياة اليومية في مباهجها وأتراحها وعذاباتها.

لم يخرج الكتابُ باللغة الفرنسية التي نقله إليها فيليب فيغرو كثيراً عن أصوله الأولى. لكنه خضع - بلا رحمة - إلى قوانين لغة أخرى لا يمكن مؤاخذة المترجم على اتّباعها بقدر ما يمكن مناقشته في الاقتصار عليها! تلك هي المشكلة الأساس في الترجمة: كيف يمكن للمترجم أن يُحَمِّلَ اللغة التي ينقل إليها بعض أعباء اللغة التي ينقل منها، على ما بينهما من فروق تبدأ في الجذور ولا تنتهي عندها؟ ومتى يحق للمترجم أن يتناسى أو يتجاهل كلمة مثل «الآن» أو إشارة مثل إشارة "الاستفهام»؟ مفترضاً - من دون شكّ - أن صياغته تقول الكلمة أو الإشارة دون حاجة لذكرهما؟ ومتى يمكن له أن يستبدل- على سبيل المثال لا الحصر- كلمة "اللوحة" TABLEAU بكلمة "الصورة"PHOTOGRAPHIE  في حين إن الأخيرة هي الموضوع الأساس؟

 مسألة خلافية من دون أدنى شك.

ولكلٍّ أن يتبنى هذا الرأي أو ذاك. وفي هذه الحالة، وفيها وحدها، يمكن للمرء أن يحمُدَ الظروف التي أتاحت له أن يستطيع قراءة النص في أصوله الأولى!

 

 

بدر الدين عرودكي 

(مجلة "الدوحة"، العدد 80، يونيو 2014).