توني موريسون: الحوار أو الغُربة!

 

 

 

تذكّرتُ اليوم، فيما كنتُ أعبر باحة متحف "اللوفر"، العبارة التي أطلقتها الكاتبة الأميركية الحائزة على جائزة نوبل للآداب توني موريسون حين جاءت إلى هذا المتحف لتحاور بعض الأعمال الفنية وتكتب عنها تحت عنوان: "أن تكون غريباً في بلدك". لقد جالت في الأجنحة الفرعونية والإغريقية والرومانية ورصدت علاقة الإنسان بالغربة في ذلك الزمان البعيد، كأنما كانت تبحث في ماضي التاريخ الإنساني عن جذور التفرقة والإقصاء.

  بموازاة غوصها في الماضي، تتطرق توني موريسون في أعمالها الروائية إلى معاناة الإنسان الأسود في التاريخ الحديث. روايتها الأخيرة، وعنوانها "منزل"، تدور أحداثها في الخمسينات من القرن العشرين في الولايات المتحدة الأميركية. بطل الرواية، فرانك موني، يعود من الحرب الكوريّة التي شارك فيها إلى جانب الجيش الأميركي ليواجه معركة ثانية داخل بلده، بسبب لونه الأسود. وهو يمثّل جميع الذين وجدوا أنفسهم غرباء في بلدانهم الأصلية، من الهنود الحمر إلى الفلسطينيين، إلى أولئك البرَرَة الذين ضيّعوا مكانهم في العالم أجمع.

سؤال الغربة يحيلنا على سؤال المنفى الذي لا ينحصر فقط في معناه الجغرافي، كما يحيلنا على أسئلة أخرى: كيف يتصالح المرء مع نفسه ومع الآخر؟ كيف يمكن أن نحقق إنسانيتنا ونحافظ عليها ولا ننجرف نحو الهاوية؟ كيف نحتمي من جاذبية الموت وهي دائماً في أوجها؟ ليس الموت الذي يأتينا في سرّة الولادة، والذي تكتمل به دورة الحياة، بل ذاك الذي يحطّ من قدرنا الإنساني ويُشعرنا بأنّ الحيوان المفترس لا يزال يتحرّك تحت الجلد.

بطل رواية توني موريسون، الخارج من الحرب التي دمّرت جزءاً من كيانه وذاته، كان هدفه الأساسي هو البقاء حياً. تقول الكاتبة: "لا مَخرج حينما يحلّ العنف محلّ اللغة". وهي تقصد هنا، بالطبع، اللغة التي تحيي، لا اللغة التي تقتل. اللغة التي تُبدِع وتكون عصارة التجارب وعصَب المستقبل. لغة الحوار التي تؤكّد أنّ الأرضَ فسيحة، تتسع لجميع البشر وللآراء المختلفة، كما تتسع سماؤها للغيم وليلها لملايين النجوم.

مع الفلاسفة الإغريق، قبل ألفين وخمسمئة سنة، عرفت البشرية ابتكاراً لا يقلّ أهمية عن اكتشاف النار والكتابة، هو الحوار. وإذا كان الحوار يطالعنا في نصوص أكثر قدماً، منقوشاً في الحجر أو مخطوطاً على ورق البردي، في تلك الأساطير التي تختصر جزءاً مهماً من تاريخنا القديم، فإنّ الحوار الذي يستوقفنا ونشير إليه الآن هو الحوار المبني على العقل والمرادف لإحياء الفكر النقدي. خارج الحوار العقلاني، نتشبّث بالفكرة الواحدة ويصبح الآخر المختلِف عدواً بالضرورة. الفكرة الواحدة مصدر للخطر، حتى لو كانت صحيحة، فكيف إذا كانت مبنية على أوهام وغيبيات وفرضيات خاطئة؟ الفكرة المطْلَقة تفتح باب الطغيان، وتؤسس للصراعات، وهي أساس الحروب منذ البداية.

أنساق العنف لا تتمثّل فقط، كما الحال اليوم، في أنظمة الاستبداد وحركات التطرف الديني والرأسمالية المتوحّشة. لقد طالعتنا أيضاً في النازية والفاشستية، وكذلك في الأنظمة التي ادّعت الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي والصين وفيتنام وكمبوديا. اليوم، في زمن العولمة والتقدم التكنولوجي، يتشظّى العالم بقدر ما يتوحد، وتصبح تسمية "قرية كونية" دون معنى. سهولة الاتصال بين قارة وقارة لا تعني، بأي حال من الأحوال، سهولة التواصل. الآلة تساعد على الحوار لكنها لا تكفي لتحقيقه...

في زيارتها لمتحف "اللوفر" وتقويمها الخاصّ لبعض الأعمال الفنية، كما في معظم أعمالها الروائية، تؤكّد توني موريسون على موضوع واحد: الاغتراب داخل الوطن وداخل الذات، وهو اغتراب ينمو ويكبر في غياب قبول الآخر وعدم احترام الاختلاف. تعبّر الكاتبة عن هذا التوجّه من خلال نبرتها المميّزة، المعمَّدة بعذابات الإنسان الأسود والعارفة بتاريخه. إنها سليلة هذا التاريخ وضميره الحيّ في آن واحد. ولئن كانت تساؤلاتها تنطوي على كآبة وجرح، أي على حقيقة العالم الذي نعيش فيه، فهي أيضاً تساؤلات ترشح بالأمل، كأنّ قدَر الكاتب أن يظلّ تلك النافذة المطلّة على شعاع سيأتي لا محالة.

 

 

عيسى مخلوف