تماهٍ لغوي بين الأصل والترجمة

 

كتاب الشاعر عيسى مخلوف "عين السراب" الذي يحوي نصوصاً تتفاوت بين الشعر والنثر, صدرت له ترجمة فرنسية أنجزها المسرحي نبيل الأظن وعنوانها "سرابات" (منشورات جوزيه كورتي). وكلمة ترجمة لا تنطبق كلياً على كتاب "سرابات" لأنه ابعد من ذلك. فكتاب الأظن هو إعادة كتابة بالفرنسية للجو الشعري الذي يسبح فيه نص مخلوف النثري, وتماهٍ مع فكره وحالاته وومضاته الصوفية وتشرّب زئبقي لنورانيته الشفافة.

بين النص الفرنسي والنص العربي عشق والتحام، مد وجزر تنضح بها صفحات سرابية وحقيقية تهز القارئ وتلمّع وجدانه بعين البصيرة النافذة. قرأت الكتابين معاً فكانت تجربة شائقة بالنسبة إليّ، اكتشفت من خلالها متعة القراءة للنص ذاته بلغتين جميلتين تحمل كل واحدة منهما خصوصيتها وعبقريتها وعمقها، حيث لم تجد المقارنة بينهما طريقها إليّ، إذ أحببت الكتابين بالتساوي وارتويت من كل منهما بالقدر ذاته. لفتتني لغة الاظن بأناقتها واستقلاليتها اللغوية عن النص الأصلي على رغم ولوجها العميق إلى "عين السراب" وأحببت بساطة أسلوبه ودقة تعابيره التي لم يبحث فيها عن الإبهار والاستفاضة اللغويين بقدر ما أراد الاقتراب من الأمانة في الترجمة فكانت النتيجة: فعل حب جميل حاضن ومبدع لم يفقد معه النص الأصلي أي ذرة من توهجه. كما فتحت هذه الترجمة أمام القارئ بالفرنسية أفقاً جديداً يتعرف من خلاله إلى تجربة فريدة ومميزة لكاتب بالعربية يختلط فيها أريج الصوفية بمتاهة الوجودية. ترى عمّ يبحث عيسى مخلوف في السراب؟ عن معنى وجود الإنسان ضمن الهنيهات الصغيرة والأسئلة الكبيرة حيث لا فرق بين الحياة والموت، بين الحقيقة والحلم، بين الأرض والسماء، حيث تصل الصوفية إلى أعلى درجاتها؟

كتابه الذي يشبه الشهقة قبل انبلاج الضوء والدمعة عند غيابه، يلغي الحدود بين النثر والشعر ويلغي حدود الكتابة في المطلق. إذ يخلق حالة لدى القارئ - على الأقل لديّ - تنبثق من قلب الحالة الشعرية المستفيضة رهافة والغائرة عمقاً والمشدودة وتراً. وهي الحالة نفسها التي تولّدت عند مترجم "عين السراب" الذي مسَّه الضوء.

"الرجاء واحد لا يتجزأ. شجرة واحدة هي شجرة الرجاء. خدعة تقاوم حقيقة اليأس المتعدد. بعيدة هي شجرة الرجاء، لا تنبت إلا في الأمكنة القصية دائماً". بين سفر وآخر حيث "نظل نسافر إلى أن لا نجد أنفسنا في الأمكنة التي نسافر إليها، لنضيع فلا يعثر علينا أحد"، يود الكاتب الابتعاد عن شجرة اليأس السامة فيبحث عنها في "الحب الذي لا يخفي شفرته الجارحة تحت جناحيه المبسوطين في عراء الزمن". لكن هل يلتقيه؟ "ذلك الطالع من وراء الأعمار ناصعاً ونقياً، كالذهب السابق لكل شيء حتى للأرض ذاتها"؟ لا سيما وان رمز الحب ينافسه اله الحرب والبغض منذ أزمنة العالم السحيقة. وبما ان شياطين الحرب لا تزال تنفخ سمومها في ذاكرة الكاتب ووجدانه، أطلق على صفحات كتابه "صرخات مدوية تخترق جدار العالم"، صرخات تمزق عين السراب ليطفو أنين الواقع على عيون الشاهدين على الموت. وليس أي موت بل ذاك الذي يسبقه أنين شبيه بأنين الحيوان المذبوح. ولكنْ، للموت وجه آخر "في ما وراء الأوجاع والآلام هناك حيث يرقد المطر المشتعل في أعلى الهواء. وهناك الصحوة البكر المجبولة بماء الآس والسوسن". وهو الموت الذي يجيء خاطفاً حاصداً وجه الحبيب الذي لا يغيب فعلاً "إذ ينغلق على السر... ويصبح هو نفسه العزاء". "فالوجوه ولا شيء غيرها، ما يشعل أطراف الريح والندى. هي ما تأكل وما تشرب، ما يعيش وما يموت فيك كل لحظة". هي تلك التي تلتقي معها على مستوى واحد من اللامحدود في أبدية اللحظة العابرة. تلك الوجوه تشبه "عين السراب" الذي لا يلبث أن يتغلغل فيك شعاعاً خلف شعاع فلا تنتهي منه في الصفحة الأخيرة لأنه كتاب لم ينته منه كاتبه بعد. فهو ترحال في صحراء التيه وجنة الضوء وماء الصمت الذي "يبدأ الآن والى الأبد". وكما "أن الكلام لا يتجاوز نفسه إلا مع أولئك الذين يبسطونه ممراً نحو الصمت فلا يعود غاية في ذاته", تجاوز كتاب "عين السراب" نفسه ليكون هو السفر والغياب والتوق واللقاء. وتخطى نفسه في لحظات السكون القصوى حيث تماهى الكاتب مع تجارب المتصوفين الذين اختارهم من الديانتين النصرانية والإسلامية, فجعل كلاً من الحلاج ورابعة العدوية والقديس فرنسيس الأسيزي والقديسة تيريزا الآبلية وسمعان العمودي ينطق بلسان تجربته من ضمن سياق "عين السراب" ومناخه التأملي المفتوح على الأبعاد كافة. كأن يسأل سمعان العمودي نفسه "من أنا لألجم ليل الأسرار... لأجعل المسافة بين الأرض والسماء واهية كخيط العنكبوت... لأسرّح روحي كما تسرح الغيمة الوحيدة المتأخرة عن سربها وروحي صغيرة كحبة حنطة"؟ أو يدع فرنسيس الأسيزي "يتابع طيرانه مترنحاً، فاتحاً أجنحته إلى أقصى إطرافها، منسكباً في الفضاء اللامتناهي".

بين "سرابات" نبيل الأظن بالفرنسية و"سراب" عيسى مخلوف بالعربية ينابيع جارية تبحث عن المصب في العين الثالثة حيث يتوحد المنظور واللامنظور في فضاء اللغة.

* بمناسبة صدور هذا الكتاب بالفرنسية نظمت دار "جوزي كورتي" أمسية أدبية وموسيقية استثنائية أحياها الموسيقي اللبناني عبد الرحمن الباشا مقدّماً خلالها مقطوعات لرخمانينوف وتلتها قراءات من الكتاب المترجم، بأداء الممثلة الفرنسية غبرييل فوريست. ووقّع المؤلف كتابه 

في نهاية الحفلة التي حضرها جمع من المثقفين والكتّاب العرب والفرنسيين.

 

ندى الحاج

")الحياة"، السابع من آذار/ مارس 2004 (