من أقصى العمر، إلى أقصى الجمال

 

اللبناني عيسى مخلوف شاعر بامتياز، باحث بالمعنى الشعري عن شعرية الوجود، مترجِِم من طراز حميم يمس كل ما يترجمه فيحوله إلى نزهة في جنينة الانخطاف .- "رسالة إلى الأختين" -، ديوانه / نصوصه / مأدبته الجديدة الصادرة عن "دار النهار" ببيروت نهاية العام الماضي. لم يضع للكتاب تجنيساً ما، هو جنس كتابة خاص به، من سلالة الكتابات التي تظل معلقة بين الأهداب والضلوع؛ «نرى معاً ما لا يراه كل منا على حدة». تصورت أنني سوف أقرأ رسائل من أختين إلى الراوي. أختان حقيقيتان وليستا ملتبستين كهاتين الأختين. إنها أخت واحدة بثياب المعشوقة النفورة الفاتنة، حتى ليخيل إليّ، ان بعضنا حين يكتب عن تلك المرأة أو ذلك الرجل يختار أشق الحدود وأخطرها، من حدود الصبيانية وشطط القلب وذلك الخطر الذي لا ندري أننا نتعرض له إلاّ حين نصل إلى نهاية الطريق، عندها نشاهد الهاوية ونظام القلب وتفاصيل المغرمين التي لا تحصى، لكنها تسجل أمامنا نصوصا لا تنسى كهذه التي بين أيدينا. في صفحة 11، يرى الراوي حلما تباغت لغته حقاً فيكتب هكذا: «رأيته وتيقنت أننّا ما لم نبلغ الحرية التي في أحلامنا سنظل في الأسر». مخلوف يتنفس ويرجّ ما حوله بالشعر، إذا تحادثنا بالهاتف يصمت شعراً واذا ما التقينا فهو يصغي بالشعر. مخلوق أثيري، أفكر أحياناً أنه حين تمت ولادته ألقت عليه أمه مقاطع من "نشيد الإنشاد" مضافاً إلى حليبها الكريم. في هذا الكتاب يجيء إلى كل مكان بالشعر ويذهب إلى أي مكان بالشعر، أما عنوان الكتاب فهو ذريعة لكي يكتب عن عاشق وراو وهي بينهما. امرأة مغوية واحدة لها أخت تراها في منامها مخفية في لحمها، شديدة الضوء في الصفحات: «كل هذا الليل ولا سبيل إلى النوم». «تلك العيون ككاتدرائيات من دمع». لا اسم في الكتاب، جميع الأسماء مختارة للحب الذي يأخذ منحى الفقد والمرارة. هو الراوي لا يتذكر، إلاّ انه يعيش أمامنا الضحك وسيل الدموع، ثمالة الحب وفوضى الأجساد حين تتلاطم في جميع الجهات. إحدى الأختين كانت على علاقة بأحدهم، الراوي موجود لكي يسجل يومياتها وهو يقطّر أنيناً. بهاجس صوفي يكتب عيسى مخلوف، تصوف النصارى والمسلمين، تصوف الهنود الحمر ورواة القصص الحارقة الذين ينبّهون الموتى قبل الأحياء. يسجل الشاعر قصصاً وحوارات في الكتاب، ينحني على الألم ويعلي من شأنه لأنه آخر الملاذات. يلعب مخلوف كما يشاء كالراقص على حبل رفيع في أية حركة مباغتة قد يحضر حتفه، لكنه يواصل الشدو ونحن نريد المزيد. يصف محبوبته: «كانت قبلتنا الطويلة الأولى آنذاك. قلت بعدها: «ثمة طعم منيّ في فمك». يتكئ على كبده حين تقول له الحبيبة: «عشر سنين أمضيتها مع رجل آخر. أحببته: تقول. لكن ما الذي يدفع امرأة إلى أن تروي لرجل كانت تحبه قصة حب مع رجل آخر؟». ولكن، من هنا يبدأ تقهقر الزمن أمام رجل ذاهب وآخر آفل. امرأة بين رجلين. الرجلان لا يمتلكان هذه المرأة، لا في الماضي ولا في هذا الحاضر الذي يروي فيه الراوي ويدون النصوص. «ستقولين لي: أريد حكايتك أنت معها، لا حكايتها مع سواك. لكن أليس في حكايتها مع سواي شيء من حكايتي؟ أليست كل هذه الحكايات جزءاً من حكاية واحدة؟». نحن هكذا، لا نستطيع امتلاك أنفسنا فكيف لنا بامتلاك الغير؟ من يستطيع أن يمتلكنا؟ «الغريب في الأمر أن بعض ما كتبه الرجل في علاقته بها يعكس تماماً الحال التي عشتها أنا نفسي أحياناً إلى جانبها». مقلقة ومربكة الكتابة عن ذلك الثالوث الملتبس بخسارة أحد الأطراف وما سيتركه من جراحات على الثلاثة سوياً. الراوي المتعلق بالمرأة - الأولى - هي، هي لا غير. يتحدث عن ماضي تعلقها بغيره وها هي أمامنا في النص تستوقفنا المكاتيب التي كانت تتبادل بين الجميع وقبل أن يمضي القارئ إلى الفراغ الأبيض من جراء علاقة يتواطأ بها الجميع، رجلان وأخت واحدة، وكأنها تعمل دوبلاجاً عما سوف تترجمه لأحدهما لكي تحتفظ بواحد منهما، الممكن من أحدهما، مما بقي من كبرياء وغفلة الآخر: «لكن يبدو أنها كانت تنكر أمامه دائماً تعلقها برجل آخر غيره». اللافت أن الرجلين يكتبان بلغة واحدة، وإذن، هل اخترع الراوي رجلاً آخر بجواره لكي يقاتله، وترك للمرأة أختاً لكي تناكده بها؟ الراوي يروي أنها تخون الرجل الأول ومعه هو :«حتى حين يكون واحدنا لصيق الآخر، يمضي كل منّا في اتجاه. حتى حين يكون واحدنا داخل الآخر نمضي. نمضي ونحن في داخله. نقبّله ونمضي». «فجأة وبدون إنذار، يصبح القريب هو الغريب، يصبح العاشق عبئاً». هكذا، تتضاعف أعباء هذه النصوص حين تذهب بنا من أقصى العمر إلى أقصى الجمال.

 

عالية ممدوح

)جريدة "الرياض"، 16 تموز/ يونيو 2005(