"عين السراب" لعيسى مخلوف 
الجهة الأخرى من الشروق وخداع الموت

 

 

كيف نصنع من الحياة، بطفولتها، وأرضها الأم، وحربها، وغربتها، وأسفارها، ويومياتها، وذكرياتها، وحاضرها، وثقافاتها، وأفكارها، وتأملاتها، وغوصها على الأعماق، عملاً أدبياً هو نصوص نثرية تستمد قوامها وعافيتها من قدرتها على مزج الذات الداخلية بما هو موضوع تحت يديها، وفي المتناول، وفي المكان الأبعد، ومن استقدام للشعر الحرّ والمرسل والمنثور ليكون متدفقاً، من حدود التصوف إلى حدود الجسد، ومن خبز الألم وزيتونه إلى نبيذ الخيال والتحليق، ومن الوجدان الأليف إلى التأمل الصافي، في إنصاف لهذه وتلك، وفي محراب اللغة التي تحتضن وترعى وتأخذ بالسياق؟

كتاب "عين السراب" لعيسى مخلوف الصادر عن "دار النهار للنشر" يتيح للقارئ هذا التجوال المتنوّع داخل حياة مشغولة برصد العالم وحركة الكون، في شراكة تكشف النقاب عن معنى أن تكون شاعراً وقارئاً ومتجولاً ومسافراً ومثقفاً في هذه الأزمنة الجائرة، بل معنى أن تشرب وأن تمتلئ وأن تزهر أغصانك وتحمل وتأتي بثمار كثيرة.

سنقول إنه كتاب السفر. فماذا يعني أن يسافر الكاتب بنفسه وتالياً بقارئه؟

لا يكتفي المسافر في هذا الكتاب بالتعرّف إلى الحالات والأمكنة وما يعصف بها، كما لا يكتفي بما تخبّئه وبما ينضح منها، بل هو أولاً وأخيراً مسافر داخل الذات يسائلها ويسبر أغوارها. وكم هي كثيرة وغفيرة اللحظات التي يظنها المرء "واضحة"، فإذا هي على عتمة حالكة وخفايا متداخلة ومعقدة، تنتظر من يرفع عن كاهلها حجر البقاء في السر والصمت. فلا شيء يقدّم نفسه بسهولة أمام العين. إذ ثمة حاجة دائمة إلى البحث عن ثغرة يمكن خرقها للولوج منها إلى أسرار الذات والحالات والأمكنة. هي ثغرة لا تكون أحياناً في المتناول، بل ثمة مشقات تتطلب رفع الأنقاض لتستطيع العين والروح والعقل أن تحتفي بما تراه. تصير الرؤية لا مجرد نوع من تلاقي الرائي بالمرئي بل شيئاً كأنه اندماج وتوحد وولادات "ثالثة". آنذاك، يصير الدخول محكوماً بالمصير الذي يؤول إليه، فدوره أن يذهب إلى الأنفاس الأخيرة وأن يبتعد وينزل عميقاً، وأن "يعرف" لكي ينشأ من ذلك تماس روحي يشرقط ويضيء ويجعل التجوال حالاً نورانية ومعرفية على حدّ سواء.

سَفَر يكتشف بالسرد ويحفر ويعرّي ويشرّع، وبه تكون الذات على مرأى وعلى مسمع، فكأنها متحف لحظات وتواريخ ينبئ بما كانته هذه الذات وبما هي عليه. وأيضاً بما قد تكونه في أحد الأيام. متحف لا يجمّد الأشياء بل يجعلها تمور بالحيوية والحركة والتحوّل، فتتخلى عن أحوالها الأولى التي تسبق التماس لتصير كائنات أخرى، جديدة، مختلفة، مغايرة، مليئة بجمالات وعذابات متآخية، ولا سبيل لها إلى التخلص منها لأنها سرّ ديمومتها الروحية والأدبية.

وفي هذا المعنى، يكون السَّفَر متعدداً ومتحولاً، لأنه ليس أفقياً بل هو عمودي لانشغاله بإضاءة كل المطارح التي تزورها النفس الإنسانية، وتروح تغتذي بها وتتشكل منها. وهو يكشف النقاب عما يكوّن القوة الدافعة والمحرّكة التي تستطيع أن تجعل الذات على تماس مع العالم الداخلي أولاً، ثم الوسيع ثانياً، بل تستطيع أن تجعلها على اصطدام، وأحياناً على استسلام، فينشأ من جراء ذلك تكامل هو تكامل المتناقضات التي تصنع الأدب.

إنه سَفَر مثلوم ومجروح وسعيد في آن واحد. هو سَفَر الحياة التي تكتب بعضاً من سيرتها وأحوالها. كأنما السفر هو نبذة شخصية تغرف من الماضي، من حياة ذاك الصبي والفتى الذي كانه عيسى مخلوف، آن عاش في قريته ومسقطه، وآن في كنف أمه وأهليه جميعاً، وآن الذكريات وخصوصاً ذكريات الطقوس، طقوس الأمكنة والحياة والموت والحرب والجروح التي تترك بصماتها ولا تزول رغم مرور الزمن، ورغم الندى والظلال اللاحقة التي تستر وتدمل لكنها لا تُنسي.

ينكتب كل هذا الذي كان ويحلّ في الطبقات الدفينة من متاهة الذات، لكنه يظل موجوداً بقوة فكأنه ينكتب الآن. لذا، عندما يستعيده الكاتب فهو يستعيده بتفاصيله، بدموعه، ببداهاته، بضحكاته، بحركاته، بإيقاعاته، وخصوصاً ببعده المأسوي الحار والمتدفق والحارق. كأن الكاتب لا يتذكر، بل يرى.

ترى أيّ قوة تمنح الذاكرة هذه القدرة على إحياء الماضي وجعله على المرأى، وعلى صفحة الوجدان المثلومة! ترى أيّ نعمة مجللة بالألم تمكّن الكاتب من أن يذهب إلى ماضيه لا لينتقم منه بل ليتصالح معه، وإنْ بجروح كثيرة. فلا مصالحة حقيقية إلاّ بفتح المكبوتات المؤلمة على هواء ذاك الماضي، حيث تلتقي الأزمنة والأعمار، فيصير الرجل طفلاً، والطفل رجلاً. هذا يعيش طفولته وذاك يكتبها بحبر ما فعلته الأيام. ما محته وما أبقته حياً وواضحاً.

لأجل ذلك، يمكن معاينة ما يأخذ ببعض النصوص إلى تلك الطفولات والأمكنة والمراتع الأولى، وهي نفسها أمكنة الفتوة والشباب التي أصابتها شظايا الحروب والإقتتالات فأصابت الذات الفردية وكسرتها، مثلما فعلت الفعل نفسه بالذات الجماعية مطلقاً.  

لكنه سَفَر ناضج أيضاً، يذهب إلى أعماق الحاضر حين حملت البحار الكاتبَ من الأرض الأم إلى فرنسا، ومنها، ثقافياً، إلى كل نواحي الأرض مطلقاً. هو سَفَر يتحرّر من الأحوال الأولى للمسافر، يتمرّد عليها، من دون أن يتنكر لها. فهي أساسه وتسكن في أعمق الطبقات، لكنه يتشوّق إلى تطلعات ورؤىً تتيحها الأمكنة واللغات وكيف يتلقى المرء الهواء الآخر الذي يلامسه، وأحياناً يخترقه بالعاصفة، باردةً وحارةً، وكيف يتشكل كل هذا رويداً رويداً، أو سريعاً وخاطفاً، لينتج الملتقى الذي يستقبل ويتفاعل ويتأثر فيصير جزءاً من هذا الكل الثقافي والإنساني.

فها هو السَّفَر الجديد الثاني - وهو أسفار عدة، داخلية، زمنية، عمودية وأفقية - يمدّ اليد ليقبض على أسرار، مثلما يرسل العين إرسالاً لتستلقي نظراتها على الأشياء والكائنات والكنوز والناس والطبيعة، فتفتح هذه طبقاتها ومستوراتها أمام الرحّالة الذي يريد أن "يعرف" وأن يزداد وأن يتراكم، مستعيناً بما اختبرته الأمكنة الجديدة هذه وبما تحفل به من جمالات حسية وروحية، وبما تتباهى به من قيم وعادات وطقوس ومعارف. يصير المسافر من جرّاء الجديد الكثيف والمتنوّع إنساناً "آخر"، تحت وطأة الإكتشافات والإضافات، حين، منفتحاً على الحضارات والثقافات، يعبّ منها ويجعلها زاده وماءه في الجوع والعطش. بل يصير هذا المسافر في تحولاته شخصاً موجوداً في الدائرة التي تتصارع فيها الحقائق، وتتلاقى فيها المشاعر، وتتآخى فيها الأفكار واللغات، وتتداخل هذه كلها لتؤلف بنية الحياة الجديدة ودلالتها، وسمفونيةً متناغمةً، متساوقةً، تصخب حيناً لترأف بالصمت حيناً آخر. وفي هذا وذاك، لا تكفّ عن التكافل والتوق إلى الأكثر.

سَفَر يكتشف الجسد والفن والفلسفة والشعر والموسيقى واللوحة. ويكتشف الإنسان وذاته خصوصاً. بل هو سَفَر يكتشف عوالم لا يتاح للكاتب إكتشافها من خلال الإقامة في المكان الأول، رغم غناها وكثافتها وعمق إنغرازها. ولأجل ذلك هو سفر يملأ فراغاً ويسدّ نقصاناً فيردم هوةً ويرفع جسوراً ويُنبِت أشجاراً ويحرّك هواءً ويفتح آفاقاً كانت لا تشرق عليها الشمس ولا يزورها الظل أو ضوء القمر. لذا هو سفر يلتهم بشغف وشهوة، هما الشغف والشهوة اللذان يستشعرهما من يريد أن يستزيد ويغرق. ولا بدّ للمسافر من أن يضاعف وزناته ومن أن يغرق لكي يعرف ويصير جزءاً نهائياً من هذا المكان الذي يسافر إليه ويسافر فيه.

وهو سَفَر ثقافيّ وشعريّ وفلسفي وصوفي، وفي الأزمنة، حيث تعلن اللغة خصوصيتها الإنسانية والروحية. وهذه مضافةً إلى تلك تشيّد مبنى الكتاب الذي يقع في أبواب وفصول، أولها "نسافر" وهي بمثابة مفتاح، ثم "المطر المشتعل في أعلى الهواء" و"رؤية الشمس" و"ذلك الخلاص" و"الإستغراق في الغناء" و"المدّ والجزر في حجر كريم" و"لحظة سكون".

من المسقط إلى باريس، إلى أوروبا، إلى مغارة لاسكو، إلى أميركا، إلى المكسيك، إلى هيروشيما، إلى مصر، إلى عوليس وجزيرة إيتاكا، إلى المتوسط، إلى الشرق، إلى آسيا، إلى اليونان وبلاد الإغريق، إلى الحلاّج ورابعة العدوية وفرنسيس الأسيزي وتيريزا الآبلية وسمعان العمودي، إلى المشهد، إلى المرأة، إلى المتاهة، إلى الكون، فإلى زمنَي الموسيقى واللوحة، وفي كل الأوقات إلى زمن الكتاب فزمن الطبيعة، تجوالات وإقامات يرويها مخلوف حيث يرى ولا يرى.

والكتاب "حكايات"، يقول عيسى مخلوف، "كنت أترقب أن يرويها لي أحد". لكنها ليست حكايات حقاً، أي أن الكتاب لا ينتمي إلى منطق القصص وإنْ كان يأخذ بالسرد ويلقي الضوء على "شخصيات" و"أبطال" في مقدّمهم "الأنا" التي تروي.

لكن "ما أرويه ليس إلاّ جزءاً مما لم أرَ. ولو رأيتُ لما رويت"، يقول أيضاً عيسى مخلوف، إذاً هذه "الحكايات" هي سفر "واقعي" وحقيقي يعزّزه الحلم ويمكّنه من الإرتفاع إلى حيث تصير الرواية محرّرةً من "الرؤية".

"يزعم" الكاتب أنه لا يرى، وهو يستطيع أن يثق بزعمه هذا وأن يمنح القارئ خَدَرَ إغماض العين والإستماع إلى "الرواية"، مع أن هذا السفر حسيّ أساساًً وليس مختلَقاً ولا واهياً. بل هو محض إبحار في أرجاء الذات والكون.

ومن هناك إلى أن يتحقق الطيران والتحليق، يؤتى للكاتب أن يسافر ويروي من دون أن يرى. كأنه يرى ويمحو ما يراه بعد أن يصير جزءاً من ذاكرته الروحية.

من النص الأول في الكتاب ومن على غلافه الخلفي نقرأ ما يأتي: "نسافر لنقول للذين التقيناهم إننا سنعود ونلتقي بهم. نسافر لنتعلّم لغة الأشجار التي لا تسافر. لنلمّع رنين الأجراس في الأودية المقدّسة. لنبحث عن آلهة أكثر رحمة، لننزع عن وجوه الغرباء أقنعة الغربة. لنُسرّ للعابرين بأننا مثلهم عابرون وبأن إقامتنا موقتة في الذاكرة والنسيان..."، مضيفاً "نسافر لنبلّغ الذين نحبّهم أننا لا نزال نحبّ، وأن البعد لا يقوى على دهشتنا، وأن المنافي لذيذة وطازجة كالأوطان".

فهل يكون السفَر لـ"نرى الجهة الأخرى من الشروق" و"نخدع الموت"، على قول المؤلف؟

يقول طاغور: "على المسافر أن يقرع كل الأبواب قبل أن يصل إلى بابه. عليه أن يهيم على وجهه عبر كل العوالم الخارجية لكي يبلغ أخيراً البيت الأشدّ حميميةً".

وهذا ما يفعله عيسى مخلوف في "عين السراب". وهنا بيته الأشدّ حميمية.

 

عقل العويط

")ملحق النهار"، 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2000)