تَقاسُم الصمت

 

 

"تَقاسُم الصمت" نصوص مختارة للشاعر اللبناني عيسى مخلوف، من كتبه 'عين السراب' و'عزلة الذهب' و'رسالة إلى الأختين' و'زرقة ما قبل الفجر'، صادرة حديثاً عن 'آفاق'، الهيئة العامة لقصور الثقافة، في مصر. 

لغة خاصة، الشعر والنثر عند مخلوف، وهما إتفاق تامّ، وكثافة ثقافية وشعورية غير عادية الحدوث. الكتابة عند مخلوف روحانية أولاً، وتفسح للفكر، ودائماً في طلاوة اللغة. قاموس مخلوف الشعري هو قاموس الإبداع وليس الإستعمال، والصور في كتابته تكتسب خصوصيتها منفردة، وليست ككتلة متراصّة. خصوصية عن طريق الخلق لا عن طريق العادة. ولعل عيسى مخلوف يمتلك في عبارته أكثر خصوصيات الأنوثة، بدون إدعاء أو ظل، وهي روحه نفسها خاضعة لأحابيل الرّقة.
في عوالم كتابة مخلوف لا يكون الناس وحيدين، حتى لو كانوا وحيدين فعلاً، ولكلماته وزن يُضاهي الأشياء التي يُشركها حواراته، وللطبيعة وجودها الباهر، ولها روابطها التقديرية، ويسعها أن تنوب عن البشر وأن تُرصّع عالماً خالياً منهم. لغة تتمتّع بسلامها الذاتي وتُعلي كل أهمية أخلاقية للّغة نفسها، لا كحالة نفسية أو تسجيل لموقف، بل كتمرين روحيّ وتنبؤ ثمين يتجاوز إشكالية تعريف النثر والشعر مجتمعين: 'نسافر حتى نبتعد عن المكان الذي أنجبنا ونرى الجهة الأخرى من الشروق. نسافر بحثاً عن طفولاتنا، عن ولادات لم تحدث. نسافر لتكتمل الأبجديات الناقصة. ليكون الوداع مليئاً بالوعود. لنبتعد كالشفق يرافقنا ويودّعنا. نمزّق المصائر ونبعثر صفحاتها في الريح قبل أن نجد ـ أو لا نجد ـ سيرتنا في كتب أخرى.  نسافر نحو المصائر غير المكتوبة. نسافر لنقول للذين التقيناهم إننا سنعود ونلتقيبهم. نسافر لنتعلّم لغة الأشجار التي لا تسافر. لنلّمع رنين الأجراس في الأودية المقدّسة. لنبحث عن آلهة أكثر رحمة. لننزع عن وجوه الغرباء أقنعة الغربة. لنُسرّ للعابرين بأننا مثلهم عابرون وبأن إقامتنا موقّتة في الذاكرة والنسيان. بعيداً عن الأمهات اللواتي يشعلن شمعة الغياب، ويرققّن قشرة الوقت كلما ارتفعت أيديهن إلى السماء'.
كتابة مخلوف، تدبير مُعجز لحياة تقتات من الشعر، والذكرى والدلالات والبداءة، وقوة الجذب التي تشّد الكاتب إلى جموع أزمنة في زمان، وما لا يّعد من الأمكنة في مكان، وتأخذ به برفق لكن بثقة إلى استلابه الخاص.
عيسى معلوف حاضر في كتابته وإن بضمير الغائب، وهذا جانبه الخصوصي والطقوسي، الطالع من الأعماق الميثولوجية ومن المراكمات الجمالية الفنية للشاعر، ويتغلغل في قارئه بشكل سريّ ومجهول.الأسلوب في آخر الأمر، هو سرّ الكاتب، ومخلوف يمتلك أسلوبه، ومرجعه ذكرى ما مُغلقة داخل جسد الكاتب وروحه. ما يقف ناهضاً وعميقاً في أسلوب مخلوف أيضاً، هو الحنان المبثوث في كل الصور، بما فيها الفقد والبُعد وحتى الموت.
تتعدّد المواضع الروحانية في نصوص عيسى مخلوف، لكنها لا تقع في فخ الديني المباشر أو الرعويالمنكسر. سوى أن كتابة طريّة، شفافة إلى هذا الحّد، متفكرّة ومحبة، أسيانة ومُغتبطة، لا تتوّفر سوى عن لغة 'مؤمنة' وإيمانها هو طبيعتها الحقيقية، طبيعة الكاتب نفسه المؤمن بالسلام والحب والجمال، يُسبغهُ على كل ما يُشاهده منه ويكتشفهُ، ويجعلهُ جميلاً أكثر بلغته. ذلك أن من مهام كتابة مخلوف ومن خصائصها، إفتداء الجمال، وتزيين القبح وإرباكه. هي النزعة الإنسانية التي تقود كلمات مخلوف،مسفوعة على الطبيعة أولاً، الغابات، الأشجار، اللوحات الفنية، الموسيقى، وحالات العشق حتى في مأساوية النهايات. لغة غير مهزومة، لكن قلقة دائماً، القلق الذي يُضاعف فتنتها.

 

 عناية جابر

(صحيفة "القدس العربي"، لندن، 21 حزيران/ مايو 2010)