في "رسالة إلى الأختين" لعيسى مخلوف

طائر الكتابة يحلّق ولا يعود

 

في النشيد الأخير من كتاب "رسالة إلى الأختين" لعيسى مخلوف، الصادر له العام الفائت 2004 عن دار النهار، يأمر الشاعر الطائر بخطاب يقول له فيه "حلّق أيها الطائر"، بأن يخفق بأجنحته في كل الاتجاهات، ولا يهدأ. ونسأل: ما الطائر الذي يختم به الشاعر فصوله وهوامشه؟ لم يكن هذا الطائر شخصاً من شخوص الكتاب، ولم يرد له ذكر في التفاصيل. وما ظهر ثم غاب لكي يعود كهدهد سليمان. ونسأل أيضاً: أهو الطائر السجلّ الذي ورد في الذكر الحكيم "وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه" أي ألزمناه كتاب حياته...؟. ونرغب في أن نرجّح أن الطائر الذي قصد إليه عيسى مخلوف، هو طائر الكتابة... الذي ابتكره كاستطراد على الحياة... فمن حيث تنتهي فصول الحياة، يتواصل طيران الكتابة. ولعلنا نجد مبرراً لهذا الترجيح، في تتابع سياقات "رسالة إلى الأختين". فهي سياقات تتوالى بين فصول وهوامش. الفصول كناية عن رسائل يرسلها الكاتب إلى امرأة كانت بينه وبينها علاقات حب، لقاء ووصال، خصومة سأم وفراق... كأنه لقاء وقرب كأنه البعد... وهكذا، ثم تتحول الرسائل فجأة، مع نهايات الكتاب، من امرأة واحدة مخاطبة على امتداد الفصول، خطابا مباشرا، أو من خلال امرأة أخرى ذات قصة شبيهة بقصتها... تتحول الرسائل فجأة لتخاطب امرأتين أختين. من هنا العنوان "رسالة إلى الأختين". لكن دخول الأخت على السياق، لا يظهر دخولا جوهريا، بمعنى أنه لا يؤثر في الحبكة، أو الصيغة... وحتى في المعنى... إلا من باب التكثر أو الحبكة المركبة. فنحن لا نجد امرأة واحدة يتوجه إليها صاحب الرسائل بالكلام، بل نحن واقعون على ثلاث: امرأة وأخرى تشبهها وثالثة شقيقتها. هكذا يتأتى لنا من خلال القراءة. ولعل النساء الثلاث واحدة. فهن متشابهات أو متماثلات على كل حال. والتعدد لم يكن إلا من باب الحيلة الكتابية. فما صلة الطائر بكل ذلك؟

الفصول كما سبقت الإشارة، هي رسائل مرسلة على التوالي إلى امرأة. ولا يسميها الشاعر فصولا بل يكتفي بالترقيم. من بعد كل فصل أو رسالة، تأتي ما يسميه هو بالهامش. فعلى عدد الفصول وسياقات الرسائل، تأتي الهوامش. لكأن الفصل الصوت والهامش الصدى. في الفصول نعثر على مواد قصصية، أو سرد متقطع لفصول سيرة حب أو علاقات حب كانت، ثم تقطعت، ويستعيدها الكاتب منتقلا بين نوستالجيا الماضي (التذكر)، والتسجيل كما لو في مفكرة لحدثيات ووقائع واستطرادات، فهي هنا تقرّب العمل الإبداعي من سيرة ذاتية... لكن النَفَس القصصي السردي والتسجيلي الذي يغلب على الفصول المكتوبة بصيغة رسائل، ما يلبث أن يغادر، في الهوامش، إلى تأملية حرة وشعرية... فنعثر على هوامش هي قصائد صغيرة... وقد نعثر على قصيدة في جملة واحدة أو جملتين:

"أنظر إلى عينيك ولا أراكِ. مَن مِنا الغائب يا كثيرة العينين؟."

"يدٌ على الزرع ويد على الصاعقة. من يعطي إشارة للمطر كي يتساقط وللريح كي تنطلق؟."

هامش: ... "لا يحتاج الجسد إلى أجنحة لكي يطير ... أرى النسمة من بعيد. النسمة التي تقصدني تشق طريقها نحوي وتمسح العرق عن جبيني. وحدها المرئية في الهواء. تطالعني كما النيزك يبدأ من لا مكان وينتهي في لا مكان. طفل السماء هو. لا يولد ولا يموت. يستبدل الموت والحياة باللعب. كما ريشة عصفور مخطوفة هي الأخرى وتطير. تعلو وتهبط كدقات قلب مرتعش فوق هاوية…."

وعلى الرغم من تسمية الكاتب لهذه النصوص الملازمة للفصول والرسائل بالهوامش، إلا أنه يظهر أنها "الجوهر" أو "الأصل"... ولعلني لا أعدو ملاحظة الصواب لو اعتبرتها، لجهة تأمليتها المطلقة، وتقنيتها الشعرية، ولغتها الحاملة للاحتمالات، شبيهة بالنار بالنسبة لرماد الموقد، فالسرد والحكايات والرسائل، موقد آيل للترمد، أما الهوامش فنار القصيدة. فما صلة الطائر الأخير المأمور بمواصلة الطيران بكل ذلك؟

الكتاب بمجمله فن مركب. سيرة إحساسية (حب) تعتورها سيرة ثقافية وتتقاطع معها أو ترشح منها سيرة شعرية (في الهوامش). وثمة في الرسائل واستعادة المطارح والكلمات والأحوال، الأوصاف والمشاعر، وجع الرغبة في العودة. إنه بالضبط حاصل جمع "النوستوس" اليونانية وهو "الرغبة الموجعة"، إلى ال"ألغوس"، وهي العودة. إنه بالضبط، النوستالجيا... كما يقول هو في إحدى رسائله إليها. لكن هذه الرغبة المؤلمة في العودة لحب قديم، مخترقة بسيرة مركبة، بأطياف وخناجر وبقع داكنة وزاهية وهلمجرا... أحيانا يظهر لنا المشهد ما يشبه رسائل أخوين متشابهين لأختين متشابهتين. في أحيان أخرى يظهر كأن الرسائل مرسلة لامرأة ذات فصلين... فبعد أن أحبها، أحبت سواه على امتداد عشر سنوات، ثم طلبت لقاءه، وكشفت له عن رسائل (الآخر) إليها، وكأنه هو نفسه هو (الآخر) وكأنها هي نفسها، هي امرأة أخرى... وحتى أختها التي تبرز فجأة في الرسائل الأخيرة التي تتوجه للأختين معاً، ما هي بشخص آخر سوى (هي)... فالرجلان (العاشقان والمعشوقان) رجل واحد، والأختان امرأة واحدة. وتتكرر المشاهد والعلاقات والكلمات، كما تتداخل الأحاسيس (وهي على كل حال نقائض لا يعرف من خلالها حدود الرغبة واللارغبة، الحب والكره، الوصال والانفصال... الخ)... ثم ننتهي بإحساس أننا أمام سيرة رجل وحيد... وأن جميع الرسائل والعلاقات، الأخت والأختين، الرجل والآخر... جميعها تفاصيل من حياة وسيرة، من أجل "الكتابة"... فما هي صلة الطائر المواصل للطيران بما حدث؟ لا بد من الإشارة إلى أن النوستالجيا لا تبقى صافية في ثنايا الرسائل والذكريات والمحطات الوصفية أو التأملية. إذ غالباً ما تنكسر الرومانسية، ويحل محلها العنف... وأحيانا الرعب... القسوة عارية ومنتصبة كشوكة في السماء، ترشح من تأملات واستطرادات في الرسائل. وتماماً، وكما أمام عضة الوجع الأخيرة لعجل مذبوح في ساحة إعدام، وكما نظرة الحيوان في جوعه أقصى جوعه، يصرخ: "إنها الطعنة نخرجها من مكان فينا لنودعها في مكان آخر، من جسد نخرجها إلى جسد آخر، فلا تضيع بين جسدين"... وهو، بمثل هذه القسوة التي يلوح أنه يتبناها أحيانا، أو يجد فيها الحقيقة، يروي لها (أو يستعيد) في إحدى رسائله، عثوره في الشهر الثاني لوصوله إلى باريس، على كتاب يرقى إلى القرن الثامن عشر في مكتبة أحد باعة الكتب عند ضفة نهر "السين" عنوانه "سرُّ موت"، وهو يروي (وهو متخيل بالتأكيد)، قصة مخطوطة وجدها يهوذا الأسخريوطي تحت وسادة المسيح في الليلة الأخيرة، قبل العشاء الأخير. الرواية تدعي أن المخطوطة كتبها المعلم بخطه (على غير عهده في الرواية... في التعاليم الخطابية الشفهية). وماذا في المخطوطة؟ تعاليم أخرى مضادة. تعاليم القسوة لا الرحمة: "مملكتي ليست من هذا العالم وليست من أي عالم آخر. الإنسان أشرس حيوانات الأرض. اعبدوا رب المال. لا تتركوا شجرة إلا واقطعوها، ولا نهرا إلا واحرفوه عن مجراه، ولا ابتسامة على مبسم. من ضربك على خدك الأيمن فاضربه على خده الأيسر واطعنه طعنتين في قلبه. امعسه بقدمك كحشرة. المظلوم ينبغي أن يظل مظلوماً... وطالما الأمر كذلك، وحده الغني يدخل ملكوت السماوات."

تكريس القسوة ليس في هذه الاستعادة الثقافة التي يسوقها الكاتب نوستالجيا، بل تكريس لطبائع القسوة، ورسم لمملكة السيف والنار والغضب المنتصرة على تعاليم الأنبياء والرسل، والشعراء، معاً. يعزّز ذلك بشواهد ثقافية أخرى، يسوقها كجزء من مثاقفة الرسائل التي يرسلها (إليها)، تكرّس بل تمجد الوحش في الإنسان... القسوة المحض، هذا وقبل أن تسود وتنتشر فكرة الإرهاب La Terreur في العالم.

يستعيد لها فيلم دوغفيل Dogville للمخرج السينمائي الدانمركي لارزفون ترير... وفيه تظهر "غرايس" الضحية التي يلاحقها المجرمون، فتؤويها القرية، وتحميها منهم. تتحوّل (أي غرايس) فجأة إلى جلادة فتأمر بقتل جميع أبناء القرية الذين آووها، ولا تعفو إلا عن الكلب. قصة الفيلم هي العنف المتبادل. هي قتل الرحمة مرات عديدة ومن أطراف كثر. أهل القرية الذين قبلوا غرايس وآووها أولاً انقلبوا ضدها واشتركوا في اغتصابها جميعا وبلا استثناء. خادمتها المحبة السوداء خانتها وطعنتها. الطفل الصغير الذي تحبه وترعاه وتدرّسه طعن بها. الطفل هذا بطفولته يتحول لكائن مسخ. لذا، ارتدت "غرايس" على العنف بالعنف. يقول دوغفيل: "إن الشمس التي ستشرق ستفضح قبح المنازل والبشر". لكأننا هنا، نستعيد جحيم دانتي المكتوب على مدخله "أيها الداخلون اتركوا وراءكم كل أمل". بل لكأننا نصوّر، قبل إقامته، سجن غوانتانامو او سجن أبو غريب.

قلنا إن الرسائل نسيج قصصي أو سردي استعادي لحوادث حب وأوصاف، أماكن ولحظات... جنس وتأمل، نوستالجيا علاقات حب قديم متقطع منقض متجدد ومنته في آن. والى القسوة أحيانا التي أشرنا إليها، تظهر تقنية السرد انها تقنية مثاقفة... فهنا استعادات ثقافية متعددة ومتناوبة، بل مرافقة لمعظم الرسائل، فالرسائل حبلى بحمولة ثقافية.

ومن البداية، ومن الرسالة الأولى المرسلة (من باريس...)، تظهر صلة الكاتب بالصوت، الغناء والموسيقى. يكتب: "صوت كاتلين فيرييه عن يميني وهي تنشد "الآلام بحسب القديس متى" لباخ، يأتي من ركن بعيد في الصالة". هذه المثاقفة، التي لا تغيب عن أية رسالة من الرسائل، تتنقل بين القراءة، والسينما، الموسيقى، والرسم، والنحت... وسائر الفنون والمعارف... ويستطرد الشاعر أحيانا استطرادات طويلة، في وصف لوحة أو تمثال، وفي عرض كتاب أو التعليق على فيلم سينمائي. وهو ما يسمُ الكتاب بطابع الذاكرة الثقافية، أو السيرة الثقافية للكاتب. فمن حيث انه يبدأ رسالته الأولى متحركا بالموسيقى الدينية لسبستيان باخ ليستعيد ذكرياته (معها) وبعض أوصافها، فإنه يدخلها أيضاً، أو يدخل معها، في ملاحظات عن الرسم والنحت والسينما والكتاب... ينقل لها مقتطفات من كتب كان قرأها بمفرده أو قرأها معها. يحدثها عن النحت والحجر وتاريخ الحجر، وعن ماء الحجر، الماء الأسير في الحجر. يحدثها عن أسرار كتاب "الحجارة" لروجيه كايوا، وعن الألم في وجه منحوتة إغريقية قديمة في متحف اللوفر، عن الكئيبة التي لا تبكي ولا تنوح منذ ألفي عام... وفي كل حال، يستعيد لها لوحة "العرّافة" لكارافاجيو، التي تمثل أصابع يد تلامس باطن يد أخرى كأنها تقرأها، بل هو يسقط تلامس الكفين لكارافاجيو، على لمسة يده ليدها، فيسقط الفن على الحياة. ويستعيد من خلال سياقات لونية وتشكيلية، محطات من الرسم، من بطون المتاحف أو من ألبومات ولوحات الرسامين... من "المينوتور الجريح" لبيكاسو التي تحيل إلى رامبرانت، إلى لوحة "المطرة تقتل الثور"، ومن منحوتة المرأة الحجر التي تمسك بالطائر فوق ثديها، إلى الرسم الممثل رجلاً يبسط يده اليمنى فوق وجه امرأة نائمة (على غرار ما فعل هو وهي...) ... وكأنه يسقط المنحوتات التي أحبها، واللوحات التي عرفها، والأفلام والمسرحيات والكتب التي عمرت حياته وذاكرته، على المرأة الرسالة...

وهذه الاستطرادات الثقافية المتنوعة قد تطول أحيانا، كما يفعل في استعادته المفصلة لأوبرا "الفتاة الصغيرة بائعة الكبريت"، فهو يستعرضها من خلال تشريح ثقافي لخلفيات هذه الأوبرا التي قدمتها فرقة شتوتغارت الموسيقية بقيادة الموسيقي الألماني هلموت لخنمان، ويصل فيها إلى موقف نقدي حول "موسيقى الصدمة"... فيكاد يضيع سياق الرسائل، والقص. من خلال تتابع الرسائل بحمولتها والهوامش ببرقيتها، يظهر لنا أن الرسائل هي الحياة. العيش ومشتقاته. الحب وحدثياته وملابساته. وأن الهوامش الشعر والكتابة.

وهنا نعود للسؤال الأساس الذي استعدناه مراراً عن دلالة الهامش الأخير في هذه الكتابة المركبة: من سيرة وقص وشعر، وهذا الهامش يقول: "حلّق أيها الطير. حلّق عالياً. في كل الاتجاهات. تابع خفق أجنحتك ولا تهدأ. لا تهدأ أيها الطير."

ونظن أن هذا الطير هو الكتابة، موضوعة في مواجهة (الرسائل الحياة)... فمن حيث تنتهي الرسائل والحب الحاملة له، تتابع الكتابة الطيران كطائر. وهو طائر من خيال على كل حال، شبيه بالطائر الذي تحدّث عنه رسول حمزاتوف، في كتابه "بلدي"، وقال إنه رآه في منزل رامبرانت طاغور. فقد كتب حمزاتوف تحت عنوان "من دفتر المذكرات": "رأيت في كالكوتا، في بيت رامبرانت طاغور، طائراً مرسوماً. هذا الطائر ليس موجوداً على الأرض، ولم يوجد عليها إطلاقاً، انه ولد وعاش في نفس طاغور. انه ثمرة خياله. لكن، طبعاً، لو لم ير طاغور أبداً طيوراً حقيقية، طيوراً على هذه الأرض، لما استطاع أن يخلق صورة طائره البديع."

 

محمد علي شمس الدين

")السفير"، 11 شباط/ فبراير 2005(