حين لا تعود قوّة الطاغية كافية لحمايته

 

 

هناك من يتساءل بنبرة تدّعي البراءة: لماذا كلّ هذا الحراك في العالم العربي؟ انظروا إلى تونس ومصر. راقبوا ماذا حلّ بهاتين الدولتين العربيتين بعد اقتلاع زين العابدين ومبارك. هل تجدون أنّ الوضع هناك الآن أفضل ممّا كان؟ 

أصحاب هذا التساؤل يؤيدون استتباب الوضع القائم. ولفرط خوفهم مما سوف يأتي (وهو خوف على المكتسبات الخاصّة والمصالح)، فهم يباركون الديكتاتوريات القائمة ويحرصون على بقائها... 

الجميع يعرف أنّ الثورات العربية لن تنتهي بسقوط الديكتاتوريين العرب الواحد تلو الآخر. فما خلّفه هؤلاء من كوارث يحتاج، بغية الخروج منها، إلى وقت طويل وإلى جهود عظيمة. لقد عملوا، بآلة القمع التي يتقنونها، على تدمير أجيال بأكملها، وعلى إفقار بلدانهم في جميع المجالات، كما عملوا على تكريس الجهل والفقر، وهما اليوم العدوّان الأساسيّان للثورة ومن أكبر التحديات التي تواجه العالم العربي في مرحلة ما بعد سقوط الطغاة. (أربعون بالمئة من الشعب المصري تحت خطّ الفقر، وهناك أكثر من مئة مليون أمّي على امتداد العالم العربي، وهذا ما يوازي ضعف معدّل الأمية في العالم. أما معدّلات الأمية بين النساء فتقترب من نسبة الخمسين بالمائة.( 

هذا التراجع التعليمي والثقافي انعكس بصورة سلبية على الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي وترتّبت عليه نتائج خطيرة. وهكذا فإنّ أنظمة الاستبداد العربية لم تنجح إلاّ في مسألة واحدة فقط: نشر التخلّف وتغذية التطرّف الديني وإيجاد الظروف الملائمة لنموّه. أليس الفكر الديني المغلَق هو أيضاً الوجه الآخر لهذه الأنظمة التي لا تقبل الاختلاف وتواجه بالتخوين والعنف كل من ينتقدها ويعارضها؟ 

لقد برهن الزعيم العربي أنه قادر على نحر بلد بأكمله من أجل ساعة إضافيّة واحدة في السلطة. ويكفي أن نستمع إلى خطابات الرؤساء العرب لنفهم أيّ ويل حلّ بشعوب المنطقة منذ نصف قرن حتّى اليوم. يكفي أن نشاهد الأحذية الثقيلة للجنود كيف تمتطي رؤوس المتظاهرين السلميين لندرك ماهية النظام العربي وطبيعة فهمه للإنسان وللحكم. لكنّ الذين نزعوا الأكفان مطالبين بحقّهم في الخبز والحرية كشفوا عن المقلب الآخر للقتل، وقالوا للعالم إنّهم يحلمون بأوطان أخرى لا تُبنى بالهمجيّة والانتقام

لحظة التحوّل التاريخية هذه تؤسس لمرحلة جديدة. إنها مرحلة استعادة الإنسان لإنسانيته المسلوبة. في هذا السياق، تأتي وقفات التضامن مع الشعوب العربية الثائرة والمنتفضة، ومن ضمنها وقفة التضامن مع الشعب السوري التي دعا إليها مثقفون لبنانيون. غير أنّ هذه الوقفة كانت عرضة لتفسيرات ممرّغة بوحل البازار السياسي اللبناني ولاتهامات بعض المثقفين بالتخلّي عن خطّ «الممانعة» العتيد، ممّا اضطرّ المسرحي روجيه عسّاف إلى كتابة بيان يطرح فيه مجموعة أسئلة منها: «إذا ندّدتُ بسحق الحكومة الصينيّة للمعارضة، فهل يعني ذلك أنّني عميلٌ للإمبرياليّة الغربيّة؟». ولئن بدا السؤال وكأنه يغازل البديهيّات، فإنّه موجّه إلى الممانعين بقصد طمأنتهم، وهم لا يطمئنّون. فمنذ متى كانت الممانعة مرادفاً لسحق الشعوب ومنعها من التعبير عن نفسها بحرّية؟ وكيف تعمد هذه الممانعة إلى التنكيل بالشعب فيما تدّعي حمايته من العدوّ والدفاع عنه؟ أم أنه يصبح في نظرها - ما ان يطالب بأبسط حقوقه في الحياة -، هو العدوّ؟ 

في 12 تشرين الأول عام 1936، وقف الفيلسوف والشاعر الإسباني ميغيل دي اونامونو في جامعة سلمنكا الإسبانية، وكان رئيسها آنذاك، وألقى كلمة تهجّم فيها على الديكتاتورية في بلاده. كان يحضر اللقاء ممثلون عن فرانكو وعدد من رجال الكتائب الإسبانية الذين يرتدون القمصان الزّرق ويطلقون، بين الحين والآخر، صيحات: «فيفا لا مويرتي» (يحيا الموت). كان حاضراً في ذلك اللقاء أيضاً الجنرال خوسيه ميّان أستراي المصاب بعاهة جسدية

قال اونامونو وهو يلتفت إليه متحدّياً الموت: «الجنرال يعاني من عاهة مثل ثرفانتس الذي أصيب في معركة ضدّ الأتراك، لكنّ الجنرال لا يملك العظَمة الفكرية التي كان يتمتع بها ثرفانتس. ولكي يعوّض عن ذلك، ضاعفَ عدد المشوّهين من حوله. كان يريد أن يبتكر اسبانيا سلبية، على صورته، لأنه يتمنى أن يراها مشوّهة ومقطّعة الأوصال ».

الجنرال خوسيه ميّان أستراي ليس مجرّد اسم وإنما صفة تنطبق على جميع الذين يمتهنون القتل لكنهم لن يعيقوا حلول الربيع، وهذا ما يؤكده لنا أولئك الذين يرسمون بدمائهم الحدود التي لا يمكن الحقد أن يتجاوزها، ولا فيض القوّة الوحشيّة. الذين تجاوزوا الخوف تخلّصوا من الصمت، وهم يدركون أنّ في الصمت، أحياناً، مقداراً من الموت يفوق الموت نفسه

 

عيسى مخلوف