"تفاحة الفردوس" لعيسى مخلوف 

نحو شجرة أخرى؟

 

 

لا خوف من شجرة المعرفة، على الأرض كانت أو في السماء. تحرير الإنسان من الخوف، كتحريره من الجهل، بداية التخلص من العنف. بداية لإنسانية جديدة>. هذه ليست كلمات عيسى مخلوف، هذه عيسى نفسه، الشاعر والناثر والمترجم، المثقف ربيب الجمال والحنو، وقد صدر كتابه: <تفاحة الفردوس>، تساؤلات حول الثقافة المعاصرة، عن <المركز الثقافي العربي> ومحتوياته تتناول جزءاً من الدراسات والمحاضرات والمداخلات التي كتبها مخلوف على مدى سنوات طويلة، لا سيما السنوات الأخيرة، وينقسم إلى ثلاثة أقسام أساسية: القسم الأول يعنى بتغير المعنى الثقافي في العالم وينطلق من تساؤلات تطول الثقافة بعامة، والثقافة العربية بخاصة. القسم الثاني يتناول بعض إعلام الثقافة، شرقاً وغرباً، كما يتناول ظواهر ثقافية وفنية مختلفة. أما القسم الثالث والأخير فيلتفت إلى ملامح من الأدب والثقافة في القارة الأميركية اللاتينية، ومن ضمنها الملمح العربي الوحيد.

الثقافة العربية، في ملامحها القريبة والبعيدة، همّ عيسى مخلوف في بحثه أكثر فأكثر، بلا انقطاع، ومن دون قناعات جاهزة لا تصنع شيئاً ولا تلعب دوراً خاصاً، بل في الخوض المنتقى والمختار لهدف عظيم، وفي الطوية الطيبة جداً، الذكية والجميلة تماماً، حتى لا تعود الثقافة العربية مقتولة، ومرمية في مساحة جرداء.

المقالات عموماً، لا تفعل شيئاً هائلاً. ما يكتبه عيسى ينقذه أولاً هو نفسه، من شجاعة ما يكتب، ومن قوته على كل الأخطار التي تهدد روحية الثقافة في كل مكان، في العالم العربي تحديداً، لمّا تشع بضوء مزعج، فيكتب مخلوف في حيرته حيال النقص الناجم عن فقدان الحقيقي، والرائع، والغني، والعامر بالأشياء. يكتب مخلوف في الثقافة العربية التي لا تني تضمر إلى نار موقد صغير بعد توهج، ويقف لها العنف بالمرصاد، ولا يريد لها بعد أن تشتعل.

سوف لن نأتي هنا تفصيلاً، على تنوع ما كتب مخلوف في <تفاحة الفردوس>، غير انه الجذر الواحد في حاجتنا كعرب، يقول مخلوف، إلى ولادة أخرى، إلى أبوين آخرين بعيداً عن ذهنية التكفير والتخوين. نحتاج إلى شجرة لا تخفي بين أغصانها تفاحة، وتفاحة لا تخفي بذور الخديعة والشّر والموت! نحتاج إلى حواء قادرة أن تقول بدون رهبة أو تردد: بيدي الاثنتين أطعمك التفاحة ولا خوف عليك.

كتب مخلوف في <وجوه>، عن رامبو وجبران وأسادور واستوقفني عميقاً ما كتبه في <شهرزاد أو تأنيث العالم> منطلقاً من خلال الترجمة الجديدة لألف ليلة وليلة والتي صدرت عام 2005 في فرنسا عن دار <غاليمار> الباريسية ضمن سلسلة <لابلياد> وتحمل توقيع كل من الباحث والشاعر الجزائري جمال الدين بن شيخ، المتخصص في الأدب العربي في القرون الوسطى، والمستعرب الفرنسي أندره ميكال، الكاتب والمتخصص في الحضارة العربية والإسلامية. يستعرض الكاتب بعدها كل من خاض في مناخات ومقاربات وخلاصات عن "ألف ليلة وليلة" منتهياً إلى لقائه الأول ببورخيس في العام 1980 في فندق <الفندق> في شارع <بوزار> في باريس بين السان جيرمان دي بري ونهر السين: <في هذا اللقاء جلس بورخيس على حافة السرير. ارتدى سترته الرمادية وحمل عصاه السوداء وراح يتحدث باسبانية تتداخل فيها بعض العبارات الفرنسية، بصوت يتهدج بما يشبه الضحك المكتوم. ذاك الصوت الذي بدا لي وقتها كأنه يجوس المكان ويتلمس كل ما حوله. تحدث عن الاندلس، عن الشعر والعمى، عن مكتبة والده وقراءاته الأولى، وتحدث في الأخص عن <ألف ليلة وليلة> وعن الشرق، ليتساءل <ما إذا كان الشرق اليوم موجوداً بالنسبة إلى الشرقيين أنفسهم>.

رغم تساؤلات عيسى مخلوف في كتابه <تفاحة الفردوس> وقلقه وارتباكه، فهو نفسه في صميم التصدي لكل علامات الاستفهام التي يطرحها على الثقافة في ملمحها العربي، من دون الوقوع في هاوية التبسيط، بل محاججاً عبر هضمه لأفكار رموز أدبية عظيمة، شرقية وغربية من جهة، وعبر تسليط الضوء على الراهن المفخخ بالعنف، وتناصره شريحة واسعة من المثقفين هي وريثة طيّعة لكل هذه الخيبات التي نشهد.

في إبداعات مخلوف شعراً ونثراً وفي مداليلها، ما يبعده عن حمل خيبات الراهن وعنفه كلعنة يمضي بها. في زاده الإبداعي رغم حنوه وشفافيته، حس تمرد واضح على كل ما هو زائف في الثقافة، غير متبلور بشكل قاطع. يكتب مخلوف في تعرض الثقافة العربية لخطر حقيقي وداهم من تأثرها ببعض الطروحات العنفية التي لا يمكن التقليل من شأن خطرها، أقله تقوقع المبدعين داخل محليات وإقليميات بالمعنى الأكثر ضيقاً، والعكوف داخل هذا العالم على تقليد الذات من دون الإطلالة على العالم الرحب. تجاوز هذا الخطر يتوقف على مدى قدرة المبدعين على مزيد الحفر في ينابيع الإبداع، مقدمين الجديد والشجاع والمختلف، غير هيابين الطروحات الإيديولوجية الرخيصة، والضيقة. كتاب وثيقة لذوي القلوب والعقول الكبيرة.

في <تفاحة الفردوس> الصادر حديثا لعيسى مخلوف، ثمة دينامية الأسئلة، غير الرازحة تحت زمن كتابتها، الملحاحة والمحاججة وتمد إصبعاً جريئاً إلى مكمن العلة في تردي الواقع الثقافي في العالم العربي، إلى المثقفين أنفسهم في تذبذبهم وبالتالي تذبذب نتاجهم حيال طروحات غير مدنسة بالخوف، بالحيطة والحذر وحيال غضبة الأسياد الجدد للثقافة ابتداءً برافعي ألوية تحريمها، وهؤلاء أقله يشتغلون في العلن، وفي العلن تأتي فتاويهم وتشريعاتهم، فيما الأدهى، ما يحاك للثقافة من أهلها أنفسهم، حين شاغلهم ليس الارتقاء بها، بل الاستسهال وأدنى الحضيض.

أحببنا "تفاحة الفردوس" لاهتمامه بإخضاع كل شيء، كل نتاج أدبي وثقافي إلى قوة الانجاز الداخلي للمثقف، إلى الهدف والمعنى لما حدث ويحدث للثقافة. لذلك ربما، تظل ندرة من المثقفين الحقيقيين، وحيدة دائماً، تقريباً.

 

عناية جابر

("السفير"، التاسع من أيار/ مايو 2006)