"عين السراب" لعيسى مخلوف
في البحث عن الوسط اللامرئي

 

 

"هو ليس هو. هو أنت. ينظر إليك وتنظر إليه. بالعين ذاتها. عين السراب".

السراب يعني مخيّلتك. لا ترى هنا إلاّ ما هو هنا. هناك وهنا مكان واحد. مكان بلا مكان. وإن لم يكن للمكان مكان فليس إذاً للزمان زمان. لا مكان لا زمان: هذه نقطة انطلاق الشعر. عيسى مخلوف هو، قبل أيّ شيء آخر، شاعر. شاعر يكلمنا عن المكان والزمان، سجننا، لكي يصل معنا وبنا إلى باب ما في السجن، إلى نافذة ما. النافذة أهمّ من الباب، لأنّ الباب، إن فُتح، لا بدّ أن يعيدنا إلى جدلية المكان والزمان، أي بمعنى آخر إلى نقطة الانطلاق. لا نقطة انطلاق الشعر التي سبق لي أن قلتُ عنها إنها ترفرف فوق قفص الزمان والمكان كطائر بلا دلالة، ذاك الطائر الذي يقول عنه جلال الدين الرومي: "إنه طائر الرؤية ولا يهبط على الإشارات".

هذه النقطة التي أعنيها الآن، هذا العصفور الآخر، في ارتجافة له خاصة به، هذه النقطة هي نقطة انطلاق الوجود. بين نقطة الوجود ونقطة الشعر مسافة ضئيلة، لكنها حقيقية. عمل الشعر هو في تقريب النقطتَين لكي تصبحا نقطة واحدة، أي أنه يقرأ الوجود بصفته لغة، بصفته آية. كانت مهمة اللغة العربية منذ القِدم، ومهمة الإنسان العربي منذ البداية، أعني منذ البادية – والكلمة هي من كلمات البداية – كانت مهمة اللغة العربية توضيح الآيات المتواجدة في الكون وفي اللغة، لأنّ اللغة مرآة الوجود وبينهما، بين الكون واللغة، رابطة لآية كما ينصّ على ذلك القرآن. نقطة انطلاق الشعر هي وحدها التي تحمل برهان الوجود لأنّ الإنسان عابر، واللغة أيضاً عابرة، ولكنها تستطيع أن تحافظ، إلى حدّ ما، على أثر العابر بصفتها معبراً، وإذا بالعابر ينظر إليها كظلّ له، طويل في الذاكرة. الكاتب، الشاعر، هو من يظنّ أنّ الظلّ أكثر ثقلاً في الميزان من الذات، لأنّ الذات أيضاً من طبيعة الخيال، من فصيلة الظلّ، من جغرافيا السراب. يقول شكسبير: "إننا وأحلامنا من نسيج واحد".

هذا هو الدرس الأخير لهذا الكتاب الصغير في حجمه، الكبير في معانيه، والذي أسماه عيسى مخلوف "عين السراب". عين لأنه في الوسط، لأنه ينظر، لأنه يوضّح. السراب لأنه ينصّ على ضياع، رحلة نحو اللاشيء، غياب. النظر إلى الغياب طريق من طرق الصوفية. ولكتاب عيسى مخلوف في بحثه عن الوسط، هذا الوسط اللامرئي وربما اللاموجود على الإطلاق-، نعم لكتاب عيسى مخلوف نكهة صوفية عندما يتساءل عن الممرات في الضمير وإذا به في التيه، من ممرّ إلى آخر. يسأل ويتساءل، ولئن كان ثمة جواب عن هذا التساؤل فكأنه جواب الهذيان... جواب لا يروي. إنها صوفية من نوع خاص: صوفية سلبية إن صحّ التعبير، إذ انها تجيب عن سؤال بسؤال آخر كهذا الصدى الذي عبّر عنه يوماً بول فاليري عندما تكلم عن فراغ لا يفتأ يدقّ "في مستقبل للروح كبئر غامضة، مظلمة ورنانة"

يمرّ عيسى مخلوف عبر رنين هذه البئر البعيدة المتواجدة حلماً في "عين السراب". رجل رمادي هو، ومعه كلّ أشخاصه – أنت وأنا وهو وهي وكلّ هؤلاء معنا وأولئك – يمرّ ولا يلتفت، حاملاً جرحه باسمنا جميعاً، وربما يحمل أيضاً شيئاً من فرح في ضميره لأنه يعلم أنّ هذا الجرح هو من براهين الإنسانية في الإنسان. يمرّ رجل رمادي اسمه عيسى مخلوف، كاتب وشاعر، وفي قلبه، باسمنا جميعاً، إشراقات ودموع.

 

"القدس العربي"، العاشر من أيار/ مايو 2001، والكلمة، في الأصل، بالفرنسية، وكانت مداخلة في لقاء أعده "المنتدى الثقافي اللبناني"

 

صلاح ستيتية

)في باريس بمناسبة صدور الكتاب).