الغياب الذي ينطق بالحضور

 

 

ليست "عزلة الذهب" مجرّد استعارة تضفي نوعاً من الروحية والأنسنة على معدن ثمين مختبئ كما كان البلاغيون القدماء يفهمون الاستعارة ويفسرونها، بل أن هذا التركيب يربط – في فاعليته الدلالية – بين التوحد والندرة على غير مستوى مما يعطي للديوان كلّه ذلك الطابع الحلمي الغامض الشفيف بما له من إيحاءات وظلال تمتد إلى خارج مشهد النوم أو الرؤيا أو اليقظة الشاردة.

ثمة شخص ما، في حفل تنكّري ما، يعيد أداء فعل ما، وتبدو المفارقة بين الوجه والقناع جزءاً من حضور أسطوري ينطق به الغياب ويستنطقه في آن. وهذا الجو السحري الذي يحيط بتجربة التعارف بين الوجوه (الحضارة/الغائبة) ينمو على حواف الأشياء ليمنحها دوماً ماهية جديدة، ووظيفة لم تألفها من قبل. كأن لوناً من التحولات يعتري مظهر الواقع حين تلمسه أنامل الرائي أو العرّاف فينداح عن جوهر مباغت أخّاذ، له من الضوء ما يخطف البصر نحو ما لا قرارة له، حيث النأي والتفرّد والاكتفاء باستدارة الذات حول نفسها في لذّة طاغية.

"ثمة قارات لم تُكتشف

ثمة دماء لم تجرِ مجاريها

ذهب وراء الذهب".

التداخل الملتبس بين كل غياب وحضور، للأنا والآخر والأشياء، يضيف مكاناً وزماناً جديدين إلى المكان الأول والزمان الأول، بل ربما كان يستبدلهما معاً "بزمكانية" خاصة من صنعه، وبقدر ما يتمّ التعرف على الموجودات نفسها في ضوء "الزمكان" المختلف تكتسب هذه الموجودات – عن جدارة – حيوية مختلفة تجعلها – على رغم فعل التعرف – تغتني أكثر فأكثر بوحدتها وندرتها واكتمالها المفارق.

إن مقولة بورخيس الموحية "كم هو مليء بالعزلة هذا الذهب" تحرك شفرة النصوص كلها في اتجاه "الاحتشاد بانفرادات الروح" واغترابها، على نحو صوفي رائق يصفي بنية الوجود أو يقطرها في ثنائية الحضور والغياب المتبادلين. وبين الوجه والقناع أو بين الرؤيا والصحو أو بين الانبثاق والكمون أو بين التعرف والتوحد، تجدد فلك العالم دورته في بهاء وحزن لا ينقطعان.

تتردد اللغة وتتذبذب بين ما قبل الأنا والهنا، وما بعدهما، كي تشي دوماً بالمسافة التي تفصل بين الذاكرة والحدس بيد أنها كذلك تجتاز تلك المسافة عادة عن طريق الحضور الفانتازي الذي يعوّض غياب الزمن والمكان والأشخاص. إنها تخلق خيال الحضور وتمثله وتؤديه وتنفجر احتمالات الواقع كلها من خلاله.

"صباح الخير/ أيها الزبد المتلوّن بالمواعيد/ بعد قليل يرتفع البحر إلى أعلى الصواري/ ويبدأ السفر".

على حين تتجسد الذاكرة هنا في "الماء الحزين المتدفق من طفولتنا"، يتجسد الحدس في "بعد قليل يرتفع البحر إلى أعلى الصواري ويبدأ السفر"، والمسافة الطويلة بين الطفولة واللحظة التي تلي الآن تظلّ مسكونة بغياب مؤرق لا يقطعه إلاّ "مدى يفتح مزاليج النهار على مزيد من الدم". هنا فقط يتحد ماء الماضي بماء الآتي في "الزبد المتلوّن بالمواعيد" حيث الطفولة نبع، والمستقبل القريب راية تتحد بالبحر نفسه لتبدأ الحركة إلى بعيد ("يبدأ السفر")... وأيضاً:

"متأخراً أصل

يتقدمني الزبد الذي يقتفي أثر الموتى في الرمل.

لا الأشجار تعرفني ولا الطير الشاهق.

لكني أعرفها: النخلة الزرقاء مركز الأرض

الندى مركب الصباح ماء الأنثى

الشلال قفزة الملاك".

أو:

لعلنا نطل على تجسدات الذاكرة في "يقتفي أثر الموتى في الرمل"، وفي "ضوء مسجى يتحرك تحته القتلة والمقتولون"، بينما نطل على تجسدات الحدس في "متأخراً أصل يتقدمني الزبد"، وفي "لتكن احتفالات تنكّرية يولد فيها الغسق لزجاً على عتبات المنازل"، "وإذ يهتدي البحر بي، أرفع الصواري..."، وبين الذاكرة والحدس يتمثل الحضور الفانتازي في:

"النخلة الزرقاء مركز الأرض

الندى مركب الصباح ماء الأنثى

الشلال قفزة الملاك".

"أنحتُ حروباً بأحجام صغيرة

أنحر الندى على مرأى من الصباح".

والعجيب أن الفعل الماضي الذي يشير إلى الذاكرة، والفعل المستقبل (سوف يكون كذا) الذي يشير إلى الحدس، يكادان يتقلصان تماماً أمام الفعل المضارع والفعل الأمر مما يدلّ على استحضار الماضي دوماً في الآن وتمثيله أو عرضه بوصفه حاضراً، والشيء نفسه يمكن أن يقال بالنسبة إلى الآتي المتنبأ به، كأن الغياب (الماضي والآتي) ينطق الحضور بصورة دائبة، ويبلوره، ويعدد من أبعاده عبر كلّ الأزمنة.

إن اللغة في "عزلة الذهب" تنوس بين ما "كان" وما "سيكون" من خلال استقطابهما معاً، إلى ما تكونه هذه اللغة الآن، في لحظة اتحاد تشكيلها بتشكل المشهد الفريد لواقع فانتازي يؤدى على مسرح الكون الشاغر الممتلئ.

يتجلى نموذج التغريب الأدائي فيما يعرف باسم "التصدير" حيث يتمّ إبراز الأشياء المألوفة بصورة غير مألوفة عادة لتصبح في ذاتها علامات مستقلة دالة.

إن ابتعاد الشيء عن مجرى توقعاته، وعن وظيفته المعتادة، يسلبه كل آلية معهودة ليجعل منه نتوءاً بارزاً في بنية العرض، ومن ثم فإن الوجود المادي للشيء يزداد كثافة وحضوراً، وقد تحدث هفرانيك عن "التصدر" حين تحدث عن "الاختلافية الوظيفية" فقال إنه يكتسب أعلى درجات وجوده في لغة الشعر.

وفي "عزلة الذهب" يتبدى التصدر واضحا،ً أيما وضوح، في ظاهرتين أسلوبيتين: التوازي والتكرار، في تركيب الجملة الشعرية، والمقلوب في نوعه الذي يتصل بموقع الألفاظ في التراكيب (استبدال الكلمة بأخرى ليست من حقلها الدلالي، والتقديم والتأخير).

وعلى حين تؤدي الظاهرة الأولى إلى شكل من أشكال التوكيد الدلالي الناتج عن الإثارة الانفعالية المضاعفة، فإن الظاهرة الثانية تؤدي إلى تبادل الأدوار بين المسند إليهم قادحة شرارة الدهشة والعجب.

يقول عيسى مخلوف:

"أما هي، دليلة الظلمات، فكانت بكّاءة وبكت".

إننا هنا بإزاء أداة تفصل بين الشيء ونفسه، فيما توحد بين الشيء ونفسه، وهذه هي الفلسفة الدرامية للتغريب، حيث يظل الوعي يقظاً دائماً في مواجهة ما يتوق توقاً إلى احتوائه داخل مجاله، بيد أن ذلك يتخلق عبر إثارة انفعالية مضاعفة في اتجاهين بهدف توكيد ما يقع في كل اتجاه على حدة. إنها "عزلة الذهب" مرة أخرى حيث الاتصال/الانفصال الذي يلوذ بقانونه كل ما يجري تحت سطح الواقع المرئي.

أما عن ظاهرة "المقلوب" فهي تلوح جلية في أمثلة كتلك:

"مرفأ يولول بين النسوة".

"تلهو الشجرة بالعصافير".

"أي غصن إذا ما حطّ عليه الطير يطير".

هكذا يتم التبادل في الأدوار بين المرافئ والنساء أو بين العصافير والشجر أو بين الغصون والطيور فيحدث انقلاب وظيفي مدهش يجدد فاعلية الكون على نحو لم نعتده قبل ذلك، ويجاوز ضرورة الأشياء إلى إمكاناتها، وهذا هو البعد الأصيل في تركيب الصورة الشعرية، حيث يصبح المجاز والحقيقة شيئاً واحداً في كل استعارة.

"عزلة الذهب" محاولة جمالية فريدة في البحث عن إيقاع أسطوري صاف يحتوي الغياب بوصفه حضوراً والحضور بوصفه غياباً. وذلك عن طريق إبداع الزمان والمكان من جديد، وصهر الواقع في جسد المنام. الشاعر يشي برغبته الكامنة في ابتكار ما يملأ فراغ الأبعاد حين يغلب ظنه على يأسه أو يحدوه الأمل أكثر مما يحدوه اليقين فيقول:

"لعلّ شجرة تنبت فجأة فتمنح شكلاً للخواء".

 

وليد منير

")الحياة"، الأول من آذار 1993، العدد 10976(