"نجمة أمام الموت أبطأت"


عيسى مخلوف حامل تجربة وروح

 

 

أية صورة تختصر عيسى مخلوف، شاعراً، في مجموعته الجديدة "نجمة أمام الموت أبطأت؟". إنه السؤال الأول، يتبادر إلى المخيلة، حين ينتهي القارئ من المجموعة. ولعل الإجابة غاية الصعوبة، من كون عيسى مخلوف، الراسخ الجذور في انتمائه الشعري الحديث، شاعراً يؤسس، داخل مناخات متعددة الاتجاهات، ولم يركن إلى أشكال ثابتة، رغم صفائه الشعري ورؤيويته المشرقة.

عيسى مخلوف شاعر من رواد التجارب الشعرية الجديدة. ليس بعيداًً عن "اختبارية" الأشكال الشعرية (المادة الشعرية) التي تسود في الآونة الأخيرة، في وسط تجارب عدد من الشعراء الشباب الذين ينتمي إليهم عيسى مخلوف. إنه في الداخل. يؤسس من داخل الحركة، أصيلاً متأصلاً.

ما يجذبنا إليه أولاً، أنه في منأى عن جفاف الاختبار.

فلئن اختبر أشكاله وقصائده، يظل محافظاً على البريق الشعري، على "روحية" الشعر التي تخلى عنها الكثيرون، فوقعوا في الاختبارية ونسوه. عيسى مخلوف لا ينأى عن صفاء الشعر وشفافيته. إنه على ارتباط شبه مباشر في غنائية القصيدة العربية. ومهما حاول التخطي، أو التهرب فعلى اتصال سحري باللون الغنائي الذي يظهر جهاراً في أحيان، ويتوارى أحياناً أخرى، أو يتكثف وينسل بين الكلمات انسلالاً أبيض شفافاً. يحمل عيسى مخلوف في قرارة أعماقه، هذا البعد الغنائي الملوّن، به يواجه العالم ويواجه الأشياء ويواجه الشعر، ويكون (البعد الغنائي) طريقه إلى الشفافية الصافية. كأن عيسى مخلوف، يجيء شفافية القصيدة، أو بياضها، أو توترها، من غنائية شعرية متوهجة. ولنا للمثال، قصيدة "جثة ملاك"، التي كما أظن يرثي فيها الشاعر الإسباني لوركا بغنائية تقترب من غنائية بابلو نيرودا في قصيدته الشهيرة "أنشودة إلى لوركا".

كأن تلتقي القصيدتان في السيل الغنائي الصوري، وفي توحد الأنفاس الوجدانية، وفي التوجه والاسترسال الشعريين. إلاّ أنّ عيسى مخلوف، يرثي في لوركا صورة أي شاعر أو أي إنسان. ولو لم يشر إلى غرناطة في بداية القصيدة، لظننا أنه يتوجه إلى أي إنسان "مأساوي" خرج عن فرديته وتلبس بمعاناة الإنسان عامة.

قد تشكل الغنائية في شعر مخلوف، البعد الثالث، الكامن في خلفية القصيدة، في ما ورائيتها. إلاّ أنّ هذه الغنائية، في ما تحمل من ملامح طبيعية تتخلص من أسرها، وتتصفى بعيداً عن الانثيال الوجداني، وتتجلى صوراً وكلمات وإيقاعاً (داخلياً) وبياضاً وصمتاً وتوتراً. إنها غنائية "تلميحية" إيحائية، ترفد القصيدة وترفد الشعر بطابع جمالي صاف. كأن الشاعر يبدأ بها، ليتجاوزها، كما يبدأ شعره من الواقع الحسي ليتجاوز هذا الواقع ويحرره.

ولعل الغنائية في اتجاه آخر، تمثل "الوعي الأول" أي الوعي الأفقي في شعر مخلوف. إنها في معنى ما، انعكاس وجداني عميق، لما يثير الواقع في روحية الشاعر، أو أنها الأثر المتبقي، في مدى تفاعل الشاعر مع الواقع من حوله. كأن مخلوف ينطلق من إدراكه الحسي للأشياء. كأنه يدرك، منذ البداية، خطوط التوجه. لكن الإدراك هنا، مرحلة أولى، تمحي في باطنية الشعر، حين يأخذ الشعر في النمو والشكل. من هنا يجوز الكلام على واقع سياسي (غنائي) في قرارة شعر مخلوف (...).

هكذا الموقف الشعري لدى مخلوف، واضح منذ تحولاته الأولى. وهكذا الرؤيا الشعرية صافية التجلي، غير متناقضة، وغير متنافرة العناصر، رغم تنوّع الانتماءات وتنوّع أشكال الظهور، وتعدد أساليب التشكّل. فالمواقف الشعرية المتعددة، من الطبيعة والمرأة والموت، متآلفة، وإن "تبرّجت" أو "تزيّت" بأشكال مختلفة، من كون الشعر الذي يقدمها، غير خاضع، أحياناً كثيرة، لحركة التشكّل التلقائي، ولا يعتمد، إلاّ قليلاً، العنصر الفجائي المتوتر، أو الرعشة الغنائية المتطاولة أو الحركة الممتدة التي تلامس الحلمي وتمّحي في الصمت أو في البياض. شعر مخلوف، يقيم حواراً مع الأشياء والعناصر قبل أن يتجاوزها. ولا يتخطاها إلاّ من داخل هذا الحوار الأزلي القائم. إنه يحاول دوماً أن يظل على علاقة بالأشياء الحسية، والواقع، فلا يخربط من العلاقة إلاّ بعد أن يعيشها ويختبرها. فالعلاقة بالأشياء، مقدّمة لرفض الأشياء نفسها، وبداية لتجاوزها. إنها، في معنى آخر، علاقة جدلية، توفق بين الشيء وظله، بين المعنى وشبيه المعنى، بين الشكل ومادته. فالشعر هنا، وحداني التوجه، يساوي بين الأشياء المتنافرة، في التماثل الحلمي، فتنحل العناصر (أو تدعي انحلالها أحياناً) وتتشابك وتقيم نوعاً من العلاقات الجديدة، نوعاً من الحضور الجديد، حيث تمّحي الذاكرة، ويمّحي الزمن، ويتجلى الزمن الغائب، من خلال ملامح وعلامات مضيئة. الشعر هنا يضيء، وعلينا أن نرى، أن نلتقط: "شيء ما بين آونة وأخرى، أراه أو أصمت"، يقول مخلوف.

في وسط هذه الجدلية القائمة، بين الأشياء وظلالها، بين الصورة والصورة المعاكسة، يبدو شعر مخلوف، في أحيان غالبة، كأنه يقول اللحظة الشعرية العمودية، ولا يحققها إلاّ قليلاً. فاللحظة الشعرية تبحث عن اللحظة العمودية في شعره. وكأن شعره يدور حولها، يصفها، يقولها أكثر مما يحققها أو يجسدها. واللحظة العمودية، هي الأكثر اتساعاً وعمقاً، يصل خلالها الشعر إلى الفعل الشعري المؤسس، فيصبح الشعر الحلم نفسه، والضوء نفسه والعدم والفراغ والصمت. إنها اللحظة الخارجة عن الكلام، والخارجة عن الشعر، لحظة الامحاء الكلي أو الانخطاف الكلي، تتحرر فيها الأشياء من ثقلها وتخرج عن جاذبية الوجود، لتترامى في اللاوجود أي في العدم الخلاّق، فتصبح الأشياء حضوراً آخر، ولا تبقى ملامح لحضور آخر.

والسرّ في شعر مخلوف، أنه لا يتخلى أبداً عن تلك اللحظة الشعرية العميقة، دون أن يصل إليها ودون أن يحققها دوما. كأن شعره يصب في هذا الاتجاه: في البحث عن اللحظة الأزلية المضيئة. من هنا، يستمد هذا الشعر حضوره البهي، وربما أهميته. شعر دائم القلق، دائم التحول، دائم الاختبار. لا يخضع لحركة واحدة أو لتوجه واحد. في معنى آخر لا يكرر نفسه، ولا يكرر أشكاله. فيغلب التنوع على القصائد. كما يغلب التنوع في المناخات. وتتعدد الأساليب، ويتحول الشعر قطفاً جميلاً، من داخل الرؤيا الواحدة الصافية، المتعددة.

من هنا، يصعب تحديد هوية عيسى مخلوف الشعرية. انه الشعر متنوعاً. انه الشعر مفتوحاً على الغرائبي كما على الحميم، على الحلم كما على الحس، على اللاوعي كما على الواقع. كأن شعره يتوتر أحياناً، فيتحول إلى اللغة التشنجية التي يعتبرها بروتون غاية في الشعر، ويتراخى (شعره) حيناً فيغرق في غنائية متوهجة، ويلجأ حينا آخر إلى الصمت أو إلى البياض، فيقطف الصور المرهفة قطفاً، ويتحول البياض إلى حضور أصيل، إلى لغة باطنية، إلى "ماهية أصيلة للحياة الباطنية" كما يعبّر كيركغارد. هكذا عيسى مخلوف في صمته يحقق انسجام الأشياء في إصغائه إليها وفي صمته أمامها. هكذا ينوّع في الشعر، كما ينوّع في اللغة. كأنه يبحث عن الشعر الشعر، لا عن القصيدة الثابتة. إنه يحاول أن يحرر الشعر من ثباته. شعر عيسى مخلوف، كل التجارب الحديثة. كل التيارات. يحولها ويضيف، مهما اتسعت الإضافة ومهما ضاقت. عيسى مخلوف، صوت أصيل يطل بين الأصوات الشعرية الجديدة، التي تآلفت في الآونة الأخيرة، لتشكل تياراً جديداً، دخل مرحلة التأسيس، وبدأ تجربة جديدة في تطوير الشعر العربي الحديث. وأهمية عيسى مخلوف في الموجة الجديدة (لو درسنا شعراءها واحداً واحداً) أنه صاحب تجربة أصيلة ومعاناة أصيلة وشفافية حافية ومخيلة خلاقة تمكنت من غزو الأشياء، واقتحام منابتها وجذورها الأولى، والكشف عن عريها الأزلي. مخيلة قدرت أن تخترق الأشياء لتعيدها، من خلال الشعر، إلى مادتها الأثيرية الأولى. أهمية مخلوف أنه يحاول الوصول ولا يدّعي.

إنه الجنون، شعر مخلوف، وإن بدا جميلاً. إنه الوحشة المضاءة. إنه المنفى، كلّ المنفى، الخارجي والداخلي، ملء ما في المنفى، من رعب وخوف وتمزق. إنه الشفافية التي تغسل الأشياء من مادتها وتطلقها في فضاء الشعر. شعر مخلوف شعر يحاول الوصول، عبر اختبارية الوصول. إنه شعر يحقق ذاته، بعيداً عن أي ادعاء شعري.

 

عبده وازن

")النهار"، 11 أيلول/ سبتمبر 1981(