«تفاحة الفردوس» أو مواجهة السلطات المتعددة... 

عيسى مخلوف يخوض آفاق الثقافة العربية

 

 


في كتابه الأخير، تفاحة الفردوس» الصادر عن «المركز الثقافي العربي» للعام 2006، يتناول المؤلف عيسى مخلوف قضايا كانت ولا تزال محورية وراهنة في الحياة الفكرية والأدبية والنقدية العربية على السواء. ومن هذه القضايا التحديات التي استجدت فباتت تواجه المثقف العربي، منها دور الثقافة والفن في مواجهة الأصوليات والسلطات، وتنامي سلطة وسائل الإعلام وأثرها السلبي في الجماهير والمبدعين، على حد سواء، ومكانة الفن في أيامنا هذه، وغيرها من الأمور.

ومن نافل الكلام أن المؤلف عيسى مخلوف هو أحد شعراء قصيدة النثر (أو بالنثر)، ممن لهم عوالمهم الشعرية الفريدة ("نجمة أمام الموت أبطأت"، و"تماثيل لوضح النهار"، و"عزلة الذهب")، وإبداعاتهم النثرية باللغتين العربية والفرنسية ("عين السراب"، "رسالة إلى الأختين") ودراسات ("الاحلام المشرقية"، "بيروت أو الافتتان بالموت" – بالفرنسية). وفي الكتاب الأخير، الذي نحن في صدده، يواصل المؤلف جانباً من إسهامه النقدي الذي كان اختط نهجه منذ الثمانينات إلى يومنا.

في القسم الأول من الكتاب، وهو بعنوان «عندما تنخفض شمس الثقافة»، يتناول المؤلف مخلوف ظاهرة الابتذال التي بلغت برأيه حداً صحّت فيه العولمة. وفيه بيّن المؤلف كيف أن التلفزيون، وهو الأداة الإعلامية الأكثر سطوة ونفاذاً إلى أوسع الجماهير في العالم، أمكنه أن يسطّح الأذواق المفترضة، بأن اختلق رعاته والقيمون عليه برامج «لوفت ستوري» -حكايات معيشة -تقوم على تصوير عدد من الأشخاص، «ممن لا تجمع بينهم معرفة سابقة»، وخلال إقامتهم في «منزل فسيح يطل على حديقة وحوض سباحة»، تلتقط الكاميرات الموزعة في مختلف أرجاء المنزل لحظات طعامهم ولباسهم واغتسالهم ودخولهم إلى المرحاض واتصالهم بأقربائهم وجلساتهم الحميمة مع اخصائهم. وكنّا عرفنا، نحن اللبنانيين، وعانينا من ترجمة لا تقل تسطيحاً لهذه البرامج، في ما سمي ببدعة «سوبر ستار»، وهو كناية عن تجميع عدد يتجاوز العشرين ممن جرى انتخابهم وامتحانهم لمظهرهم ولبعض الخصال العادية، ويخضعون للتصوير، على مدار الثواني، مدة إقامتهم القسرية في مكان معزول نوعاً ما، ويروح التلفزيون الذي سمّي بتلفزيون الواقع – ينقل تفاصيل حياة هؤلاء الأكثر من مملة، «حتى يطقّ شلش الحياء» على ما تقوله العامة، فيصير المتفرجون، وهم أغلب الجمهور اللبناني، متلصصين على القلة المصوّرة. ويخلص المؤلف من ذينك التسطيح والتعميم اللذين باتت تحسنهما قنوات الاتصال الجماهيري، لغاية جوهرية واحدة، وهي إخضاع الذوق الجماهيري لسلطة الإعلان التجاري، بغية الربح والربح وحده. أما الثقافة الجادة، في هذا السياق الضاغط الذي لا يفرّق بين شرق وغرب، فآيلة إلى أفول، أو أقله صائرة في موضع لا تحسد عليه، من حيث اضطرار أربابها إلى الدفاع عنها كل حين ضد منطق الابتذال المسيطر وحده وبلا منازع على عقول الجماهير، وبفضل التلفزيون.

وفي السياق عينه، يعرض المؤلف، وهو الذي اختار الإقامة في منفاه الباريسي، «تحديات الثقافة في الغرب»، وأول هذه التحديات بروز الواقع الافتراضي الذي بات ثمرة التقدم العلمي، ولا سيما في مجال المعلوماتية، والذي صار بمقدوره، بحسب غيورغي ساسارمان أن يصنع «ثقافة دنيا» بكاملها، في مقابل «ثقافة عليا»، إذ يفبرك روائيين ومغنين وموسيقيين وفلاسفة، عبر التقنيات التي يوفرها هذا العقل المصنوع والخلاق المارد والمبتذل في آن معاً، ويخلص الكاتب إلى أن المعلوماتية هذه، على رغم ضخامتها ونفعها الحضاري العميم، لن تبارح حدود الإفادة المادية منها، إلا في حال «قيام إنسانيات جديدة» تأخذ في اعتبارها قيم الشعوب ومثالاتها.

ومن ثم يتطرّق المؤلف عيسى مخلوف إلى دور «المثقف العربي في مواجهة الأصولية»، فيصف حال الإرباك والازدواجية والتخاذل التي تعتري المثقفين العرب، فيرى إلى هؤلاء نوعين: «الأول» يقلّد ما قرأه، و»الثاني» يمارس ما أملته عليه الثقافة التقليدية». إلا أنه يستثني من هذين النوعين بعضاً من المثقفين من أمثال محمد أركون ونصر حامد أبو زيد وغيرهما. ولئن كنّا تمنينا لو وسّع المؤلف استثناءه ليشمل المبدعين في كل مجال، وهم المثقفون الفعليون ما داموا يتجاوزون التقليد وموانعه وينتجون أعمالاً هي خلاصة التفكير في الذات وفي مجتمعهم العربي، فإنه قصد إلى الإضاءة على المشتغلين بالفكر من دون غيرهم، لوضع الإصبع على الجرح، كما يقال.

وفي القسم الثاني من كتابه، تناول المؤلف عيسى مخلوف بعضاً من الأعلام المؤسسين في الأدب والفن، العربي والأجنبي، ولا سيما رامبو وجبران خليل جبران وأسادور وشخصية شهرزاد في كتاب «ألف ليلة وليلة»، ومسرحية "مهاجر بريسبان" لجورج شحادة. ففي هذه الأبحاث تناول المؤلف مكانة رامبو في الأدب العربي والغربي على السواء، فأكد على إطلاق الأخير رؤية للحداثة شاملة، نهل منها شعراء الغرب، أواخر القرن التاسع عشر، ونسج الشعراء العرب المحدثون على منوالها. وأهم ما أنجزه رامبو، بحسب المؤلف دوماً، دعوته إلى «تحرير الحواس والطاقات» و «ربطه الزمني بالماورائي»، وإفادته من التصوف الشرقي الإسلامي من أجل النفاذ إلى العالم الباطني والخفي. واستند الكاتب في ذلك إلى بحثين تناولا رامبو بالدراسة، لكلا الشاعرين صلاح ستيتيه وأدونيس، وكانت له تعليقات مفيدة على ما خلص إليه الشاعران الباحثان.

أما بحثه عن «جبران ابن الانسان» فقد عالج فيه مخلوف صورة جبران الإنسان، ومدى التزامه بعصره وقضاياه، وقد اتبع فيه المنهج الاجتماعي المعروف، إذ انطلق من توصيف للبيئة الاجتماعية وللتفاوت الطبقي الذي كان قائماً، أواخر القرن التاسع عشر وبداية العشرين، وصوّر انعكاس ذلك على نزعة الرفض لدى الأديب جبران خليل جبران، ومواجهته سلطة الاكليروس القامعة والمهشمة للقيم والمبادئ السامية التي تدعو المسيحية إليها. ولئن كان الكاتب موفقاً في ربطه بين ثورة جبران على الاقطاعَين السياسي والديني وبين المعضلة الطائفية وواقع المجاعة والاستعباد اللذين عانى اللبنانيون شرهما – وهذا ما فصّله العديد من الدارسين من قبل، ولا سيما خليل حاوي في كتابه «جبران خليل جبران في إطاره الحضاري وشخصيته وآثاره» – فإنه ترك الإيحاء بأن جبران كان فريد عصره في مقارعة رجال الدين والإقطاعيين، في حين أنه شكل نبرة متميزة في كوكبة الأدباء، من مثل أمين الريحاني ومارون عبود وميخائيل نعيمة، وقبلهم فرنسيس المراش وأحمد فارس الشدياق، وبطرس البستاني وأديب اسحق وناصيف اليازجي وجرجي زيدان وغيرهم الكثير ممن تأثروا بمبادئ الثورة الفرنسية وسعوا إلى ترجمتها كتابة وسلوكاً، من دون أن يفوتنا الاستخلاص الصائب، مع المؤلف، بأن جبران صاحب النبي، بقي رائداً ومجدداً في مجال كتابته وأسلوبه.

وفي بحث آخر، «شهرزاد أو تأنيث العالم»، يعرض الكاتب مخلوف صورة شهرزاد كما تمثلت لدى كل من جمال الدين بن شيخ وأندره ميكال، ناقلَي «ألف ليلة وليلة» إلى الفرنسية، وماري – لاهي – هوليبيك، والذين أجمعوا على اعتبار شهرزاد رمز الأنوثة المخلصة والمدركة والمعلمة، والعاملة على كسر غلاظة الرجولة، حفظاً للحضارة بأسمى صورها.

على أن المؤلف لم يشأ المرور على شهرزاد من دون حديثه عن «ألف ليلة وليلة» كما يراها بورخيس، إذ اعتبرها الأخير كتاب الأسرار جمعاء، بل كتاب الكتب والواقع، بملئه، من حيث استوحى العديد من أقاصيصه بل مجموعته القصصية «كتاب الرمل».

وفي القسم الثالث من الكتاب، وهو بعنوان «القارة الجديدة» يعالج المؤلف جانباً من الأدب الأميركي – اللاتيني، الذي تسنّى له معرفته عن كثب – كونه ملماً باللغة الاسبانية، وناقلاً منها إلى العربية – ولا سيما الكتّاب من أصل عربي، من مثل رضوان نصّار ومحفوظ ماسيس وغريغوريو منصور وخوان خوسيه ساير وغيرهم.

ويلقي المؤلف أضواء كاشفة على أعمال هؤلاء، راصداً تجربة الغربة والمنفى في كتابتهم، والتنوع في أساليبهم ورؤاهم وعوالمهم. وينتهي إلى إبداء أسفه من «أن غالبية أعمال الأدباء المتحدرين من أصل عربي غير مترجمة إلى العربية».

كتاب «تفاحة الفردوس» لعيسى مخلوف دعوة إلى معرفة الذات العربية نفسها، وهو إسهام جدير بالتوقف عنده، في وعي مكانة الفكر والنقد العربيين وسط العالم وتحدياته الكثيرة.

 

أنطوان أبو زيد

("الحياة"، 30 حزيران/ يونيو 2006)