عودةُ الفيلسوف الفاجر!

 

 

 

هذا الذي سجنه نابليون بونابارت وعدّ روايته "جوستين" نَدبةً في جبين الثقافة الفرنسية، وأمرَ بعزله كلّياً ومنعه من استعمال أدوات الكتابة، تَحتفي به باريس اليوم، بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لوفاته، من خلال معرضٍ ضخمٍ يُقام في متحف "أورسي". في هذه المناسبة أيضاً، تَعرض "مؤسسة الآداب والمخطوطات" مخطوط كتابه "120 يوماً في سدوم"، كما تتهّيأ دار"غاليمار" لنشرِ أعماله الكاملة ضمن سلسلة "لابلياد" الشهيرة.

إذا كان اسم الماركيز دو ساد ارتبطَ على الدوام بالجنس والفجور والفضيحة، فمن غير الممكن حصره في هذه الأقانيم الثلاثة. فهذه الشخصية الأدبية والفكرية، مركّبةٌ ومعقّدةٌ لا يمكن اختزالها في الصورةِ النمطيّةٍ التي سُجنَ طويلًا داخلها. دو ساد يعبّر عن طريقة تفكيرٍ مختلفةٍ عمّا كان سائداً في القرن الثامن عشر، وهو، بخلاف فلاسفة "عصر الأنوار" الذين بحثوا في ما يمكن أن يوحّد بين البشر، عملَ على بلوَرَة عالمٍ محكومٍ بقانون الرغبة التي لا تفتأ تُركّب الجّسد وتفكّكه في مسعىً دائمٍ إلى إيجاد مناخ إيروسي لم يسبقه إليه أحد. وإذا كان يلتقي مع فولتير وديدرو في نِظرتهما إلى الدين، فهو يختلف معهما في نِظرته إلى البشر، ذلك أنه ينظر إلى هؤلاء بوصفهم "قطيعاً رمته الطبيعة فوق كومة من الوحول، فأخذ نصفه يضطهد النصف الآخر"، بل أنّ البشر، حسب تعبيره ، الذي يلتقي فيه مع نظرية الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبس، "نمور وذئاب تنقضّ على بعضها البعض في عملية تدمير متبادلة".

ويضيف: "كلّ هذه الوجوه ليست سوى أقنعة، والأيادي التي تقترب منك وتصافحك ليست سوى مخالب مسنونة جاهزة للانغراز في قلبك". من جهة ثانية، نراه ينظر إلى القتلة والمجرمين الذين يسرحون فوق الأرض بصفتهم جزءاً من الطبيعة، مثل الحرب والطاعون والمجاعة.

لقد تجرّأ دو ساد على النفاذ إلى الجانبِ المعتمِ في النفس البشرية، وفكّرَ في موضوع الجنس وعلاقته بالعنف والموت قبل سيغموند فرويد، رائد علم التحليل النفسي. وقبل نيتشه، خلخلَ القيم المسيحية السائدة، وكذلك النظرة إلى الأخلاق والفضيلة والحبّ. يقول: "الحبّ بالنسبة إليّ هو الحقد، الأنين، الصراخ، العار، الحِداد، الحديد، الدموع، الدّم، الجثث، العظام، الندم. لم أعرف الحبّ خارج هذه المدارات".

ولئن كانت صفة السادية ترتبط باسم ساد، فإنّ النزوع السادي ليس من ابتكاره ولم ينتظر مجيئه لكي يُعلن عن نفسه. لكن ما فعله هو التعبير عن هذا النزوع بطريقةِ جديدةِ متفرّدةِ، إنطلاقًا من خلفيةِ فلسفيةِ لها موقفٌ من الإنسان والحياة والطبيعة.

أمّا الوحشيّة التي عبّرَ من خلالها عن أفكاره فلم تكن إلاّ صورة مختزَلة لوحشيّة الكون. دو ساد لم يوجّه سهامه فقط ضدّ المجتمع والمؤسسات والسلطة، بل أيضًا ضدّ الطبيعة نفسها، وضدّ العالم وقوانينه وقيمه وأخلاقه.كان يلعب مع العدَم لعبة أبقته قرابة ثلاثين سنة من حياته داخل السجون.

الذي يعتبر أنّ اللذة والألم متلازمان، وأن رؤية الآخر يتعذّب من شأنها أن توفّر متعة ما، هو نفسه الذي وقفّ ضدّ عقوبة الإعدام، وذلك قبل فيكتور هوغو الذي تميّز بموقفه هذا. يعدّ دو ساد أنّ القانون الأكثر ظلمًا وجورًا هو ذاك الذي يدعو إلى الحكم بالإعدام على أيّ شخص كان. كتبَ عام ١٧٨٧: "يُقَدّر عدد الذين قتلتهم الحروب أو المجازر المرتكَبَة باسم الدين بأكثر من خمسين مليون شخص. لكن، هل هناك ديانة واحدة تستحقّ أن يُراق من أجلها دم عصفور؟".

هذا الكلام يبدو آتٍ من مكان آخر، كأنه البَرق في ظلمة عالمه المفتوح على الدم والرعب. الماركيز دو ساد من الكتّاب الملعونين، وهو، حسب تعبير جورج باتاي، "فصَلَ نفسه عن الإنسانيّة".

من هنا فهو لا يكتب عن العالم ولا يستوحي منه بقدر ما يتقيّأ العالم! يرصد تجلّيات الشرّ من خلال كتابةٍ فجّة، نيئة، تكشفُ عن وجه الإنسان المأسوي المدمَّر وتتماهى معه. كتابةُ تعيد النظر في العقد الاجتماعي، وتخلخل قيم المجتمع، لكن بأدوات صادمة، عاهرة، وهاتكة.

هناك نتاجات أدبية وفنية كثيرة نابعة، قليلاً أو كثيراً، من ذاك الينبوع المظلم. لقد ترك دو ساد بصمات واضحة على الأدب والفنّ في القرنين التاسع عشر والعشرين، من بودلير وفلوبير وأبولينير وإيليوت إلى السورياليين الذين عدّوا نتاجه مرجعًا ورفعوا رايته عاليًا. في مجال الفنون التشكيلية، نذكر مثلًا غويا، رودان، دولاكروا، سيزان، بيكاسو وبايكن (نجد بعض لوحاتهم في المعرض). وفي الفنّ السابع، بازوليني وستانلي كوبريك ولارس فون تراير.

يبقى السؤال: هل من حضورٍ للماركيز دو ساد في العالم العربي؟ إنّ تعاطي الأدب العربي معه، بشكل عام، أدنى إلى صورة نمطيّة. عام 1992، نشرَ عبد القادر الجنابي في مجلته "فراديس" مراجعةً حول حياة ساد ونتاجه وأثبتَ نصّه المعنوَن "محاورة كاهن ومحتضر"، نقله إلى العربية سحبان أحمد مروّة. وفي عام 2006 صدرت عن دار "إشراقات" في ليبيا رواية "جوستين"، وقد نقلها عن اللغة الإنكليزيّة، للأسف، محمّد عيد ابراهيم.

أنسي الحاج ذكرَ إسم دو ساد لكن بصيغة عابرة: "لي اهتمام بالجوانب المثيرة في الانحرافات العصبية والعقلية والنفسية، والسكيزوفرانيا والبارانويا والسادية والمازوشية والهستيريا الجنسية وغيرها من العقد والمركبات ذات الحفيف الجمالي، ذات السطوة المخيفة".

الأسئلة التي طرحها دو ساد منذ مئتي عام لا تزال مطروحةً، وبالحدّة نفسها. بل إنّ مؤلّفاته التي ترسم صورة الكائن المدمِّر والمدمَّر الذي لا يتعب من ممارسة العنف، تطرح أسئلة جديدة باستمرار.

 

عيسى مخلوف 

(العربي الجديد، 28 أكتوبر 2014).