' تفاحة الفردوس' لعيسى مخلوف

 

المثقف في اعتباره خلاّقاً وناقداً

 

 

هي تفاحة المعرفة، أصل الولادة الجديدة المبنية على التحرر من الخوف التي يدعو عيسى مخلوف إلى قطفها كبداية للتخلص من العنف. المقصود بالعنف هنا لا ينحصر فقط في مظاهره السياسية الدموية بل يتعداها ليطاول خصوصاً مجتمع الثقافة فنوناً وآداباً. تقدم المقالات والدراسات التي يجمعها مخلوف في كتاب تحت عنوان "تفاحة الفردوس - تساؤلات حول الثقافة المعاصرة"، الصادر عن "المركز الثقافي العربي"، إذا ما جرت مقاربتها متفرقة، مفاتيح أساسية للولوج إلى الموضوعات الثقافية التي تتناولها. أما مجتمعة فتضع قارئها في مواجهة مشهد ثقافي عالمي النظرة، عربي الإشكالية. ذلك أن مخلوف يدرج تساؤلاته هذه في قلب الحالة العربية الراهنة، التي ينظر إليها بدورها في سياقها العالمي الأوسع، بتغيراته الشاملة والمتسارعة. وهو ما يعبّر عنه في المقدمة التي تشكل العمود الفقري لهموم ثقافية قد تبدو للوهلة الأولى متشعبة ومتفرقة ولا يجمعها شيء إلاّ كونها تبحث في التربة نفسها، أي الأدب والفن والثقافة عموماً.

يقسم الكاتب هذه الدراسات والمحاضرات والمقالات المنشورة سابقاً ثلاثة أقسام. يُعنى الأول بتغيّر المعنى الثقافي في العالم، وهو المحور الأكثر استجابة للإشكاليات التي يطرحها في مقدمة الكتاب. أما الثاني فيضيء على تجارب بعض أعلام الخلق الأدبي والفني مثل جبران ورامبو وسواهما، مع احتفاظ كل مقال منها بخصوصية المقاربة الظرفية والأسلوبية، ويتناول الثالث بعض الملامح الأدبية والثقافية في أميركا اللاتينية.

في المقدمة إذاً، يعيد الكاتب ربط هذه الموضوعات بمشهد عالمي يعيش قطيعة شبه جذرية بين زمنين ومنطقين، طارحاً الإشكالية الأساسية التي سوف تجري على ضوئها قراءة المقالات. وهي إشكالية تتعلق بمدى مواكبة الفكر الراهن، في شقه العربي تحديداً، لزمن تنسحب تحولاته على الجوهر وليس فقط على مظاهره الخارجية. وهنا يشير إلى أحداث الحادي عشر من أيلول كنقطة انطلاق تستدعي توقفاً عند أسبابها وخلفياتها، إذ أنها لم تأت من فراغ بل هي مرتبطة "بسياق تاريخي أوصل العالم إلى ما هو عليه". سياق نشأ من استخدام السياسات العالمية للدين في غاياتها ومصالحها، والمحصلة التي تكاد تكون معضلة تحكم معظم القضايا الملتهبة حول العالم: بروز "قوة لم تكن معروفة في العالم" ناتجة من مركّب التشدد الديني والتطور التكنولوجي المتفاقم عندما يلتقيان في صلب تناقضهما الجوهري وتنافرهما الشكلي.

ويكمل الكاتب متسائلاً حول كيفية مواجهة العالم العربي بثروته النفطية، التغيرات السياسية العسكرية كما الاقتصادية التي تحل بالعالم، مشيراً بإصبع الاتهام إلى الثقافة العربية ومدى استيعابها أحداث الحادي عشر من أيلول، هي التي ظل تعاملها قاصراً وغير فاعل مع التطورات السياسية التي حلت بالمنطقة منذ الأربعينات إلى اليوم، حروباً وهزائم. وفي وقت تتكافل الأصوليات المتنامية والأنظمة التي تزداد رجعية وتجذراً في رجعيتها على "إهمال الموروث العقلاني في الحضارة العربية والإسلامية"، تكون النتيجة تواطوءاً مدروسا، أو غير مدروس، لا فرق، بين الغرب السياسي وأنظمة العالم العربي على إبقاء هذا الأخير "خارج العصر".

وفيما تحكم العالم اليوم وتتحكم فيه قوّتا التكنولوجيا والاستهلاك، يتساءل الكاتب عن دور المفكرين والفنانين والأدباء وطريقة تفاعلهم مع التغيرات العلمية والتقنية التي يعرفها العالم الحديث. يشير أولا إلى اللغة التي إن لم تتجدد فستظل عاجزة عن فهم ما يخرج كل يوم، أكثر، عن نطاق إدراكها: "نحن نعيش في عالم متغيّر. وأظن أن اللغة القديمة ما عاد في إمكانها أن تقول العالم الجديد الذي نعيش فيه". وإذ ينتقد تجاهل الخلق الأدبي قدرة بعض المظاهر التكنولوجية، كالتلفزيون والانترنت، على "الكشف وعلى تجسيد بعض الرؤى وإعطاء الحدس شكلاً"، يدعو بالتالي إلى إعادة نظر شاملة إلى اللغة تتضمن "تطويعاً كاملاً لتكون قادرة على نقل حركة وجودنا، فكراً وخيالاً وجسداً".

في ضوء هذه المنطلقات، تعيد معظم مقالات المحور الأول طرح بعض جوانب هذه الإشكالية. تحت عناوين "إله الابتذال يحكم قبضته على العالم"، "تحديات الثقافة في الغرب"، "أين سيرسو العالم بعد الانفجار الأميركي؟"، "المثقف العربي في مواجهة الأصولية" و"أما يزال الفن ممكناً؟"، يضعنا الكاتب في مواجهة محاولات لفهم تغيرات العالم الحديث في كل مظاهرها الجديدة. وهي مواجهة تحتفظ بقدرتها "الصدمية" إذا جاز القول، وتفترض قطفاً سريعاً للقطات تخطف الفكرة خطفاً. إلاّ أن ذلك لا يلغي مطلقاً قدرتها على النفاذ إلى عقل قارئ سيجد فيها نقاط استدلال يركن إليها للتفكير في تقلبات العالم الجديد الناشئ من حوله. من هذه التقلبات نشير مثلاً إلى مسألة الواقع الافتراضي الذي صار في صلب الحياة البشرية اليومية وجزءاً لا يتجزأ منها، فارضاً نظرة جديدة ومختلفة للحياة، قائمة على أنقاض الاستيهامي والحسي مجتمعين. يستشهد مخلوف بالباحث الروماني غيورغي ساسارمان في موضوع الواقع الافتراضي ويعتبر في "تحديات الثقافة في الغرب" أن "الحديث عن ثنائية الواقع والخيال في أدب المرحلة المقبلة سيكون بلا جدوى. لن يعود هناك من فواصل بين الأدب في المطلق وأدب الخيال العلمي. سيتماهى الواحد مع الآخر ويصبح الأدب إذا بقي هناك من أدب صورة لمجتمع ممَكنَن ومصنّع إلى أقصى حد. يطرح هذا الوضع الكثير من الأسئلة، منها: ماذا يحدث إذا تلاشت الفوارق بين عالم واقعي وعالم افتراضي؟ إلى أين يمضي عصر الاكتشافات، وأي عالم جديد ينبني على أنقاض العالم القديم؟".

بمثل هذه الأسئلة وسواها يفتح الكاتب آفاقاً تدعو إلى التفكير في مستقبل العالم ودور الفن فيه. وهو دور يراوح اليوم بين قطيعة تامة وارتباك فعلي يعكسان عدم فهم حقيقياً للمتغيرات المتسارعة، بينما تشكل بعض التجارب الفنية محاولاتٍ تتعرض هي بدورها لسوء الفهم والتقدير، في حين لم يعد ممكناً تطبيق المعايير الثقافية نفسها التي كانت قائمة حتى النصف الأول من القرن العشرين أو بعده بقليل، كما يعتبر في "أما يزال الفن ممكناً؟" ويقول: "هناك تغيير لمعنى الفن اليوم، ولم يعد السؤال كيف نميّز بين الفنان الحقيقي والفنان المشعوذ، وما قيمة "خربشات" هذا الفنان أو ذاك منذ مارسيل دوشان الذي جعل من مبولة عملاً فنياً يعرض في المتاحف، وبعد أن نما للجوكوند شاربان على يد المحدثين الذين وعوا قبل غيرهم أن حداثتهم الجمالية وصلت إلى طريق مسدود".

إلا أن هذا "التغيير" لمعنى الفن بقي خارج إدراك البعض في عالم صار فيه التكفير الفني والأدبي جزءاً من منظومة كاملة قائمة على رفض المختلف الذي لا يتطابق والمعايير الجمالية الجامدة. وهو نهج يسلكه حتى أولئك الذين يشكون من التكفيرين الديني أو السياسي، أو من الإثنين معاً، فنراهم يتعاملون مع الفن كإله بديل مع كل ما تفترضه هذه الألوهة من قدسية تحتكر لنفسها القدرة والمعرفة والأسلوب الأحادي لتفسير أشياء العالم من حولها. ذلك كله انطلاقاً من أفكار مسبقة تقطع في أسلوب طرحها الجازم الطريق على كل إمكان للمناقشة، ولا تترك مجالاً لأي تأويل في مجتمعات لم تدخل مرحلة الفكر النقدي الذي يؤسس للتواصل الحقيقي بين الماضي والحاضر، ليصير الأول "كتلة مقدسة وملجأ للانغلاق والتقوقع".

وهذا ما نلمسه في شكل أوضح في بحث تحت عنوان "رامبو، رحلة الشرق والغرب" الذي يفتتح المحور الثاني من الكتاب. يعتبر الكاتب أن "حداثة الشاعر العربي فردية ومعزولة، بينما حداثة رامبو جاءت مواكبة لتحولات كبيرة كانت تشهدها المجتمعات الأوروبية، ومن ضمنها المجتمع الفرنسي، في القرن التاسع عشر"، قبل أن يضيف: "هل تفتح الثورة العلمية والمعرفية أمام الحلم، وضمن كيفيات استعمال محددة، آفاقاً جديدة غير معروفة، ويصبح كوبرنيك ونيوتن واينشتاين، هم أيضاً، من مؤسسي رؤية شعرية جديدة؟".

في "جبران ابن الإنسان"، نجد أصداء لهذه الفكرة تلفت إلى إمكان مقاربة الزمن الجديد بطريقة مختلفة. ينقل الكاتب مشادة كلامية نشبت بين جبران وطاغور في حفل أقيم في أميركا، عام 1920، لتكريم هذا الأخير. ففي حين اعتبر طاغور أميركا "بلداً جشعاً متهالكاً على المادة"، واجهه جبران بقوله إن "الروح قد تتجلى في الآلة، وان المادي والروحي ليسا بالمتضاربين". كأن جبران مع كل رومنسيته حسم الجدال الناتج من تغيرات العالم الحديث منذ ما يقارب القرن، فيما لا نزال في مطلع الألفية الثالثة نتخبط في التأويلات والمناظرات التي لا تغني بقدر ما تشكل مضيعة للوقت في زمن لا ينتظر أحداً.

أما مسألة اللغة الجديدة التي ذكرناها آنفاً فيمكن أن نلمس تردداتها في "شهرزاد أو تأنيث العالم"، وهو بحث كتب في مناسبة الترجمة الجديدة لحكايات "ألف ليلة وليلة" التي صدرت عام 2005 لدى "غاليمار" الفرنسية ضمن سلسلة "لابلياد". وكذلك، وفي شكل أكثر وضوحاً، في "حول ترجمة مهاجر بريسبان لجورج شحادة"، حيث يتحدث الكاتب عن تعامله مع اللغة والتحديات التي واجهته أثناء نقل مسرحية شحادة إلى العربية، متسائلاً عن "كيفية تطويع اللغة والإفادة من اشتقاقاتها وإمكاناتها، وجعلها انعكاساً فعلياً لوجودنا وثقافتنا وحركة أجسادنا والعمل على رفعها إلى مستوى العصر".

المحور الثالث، "القارة الجديدة"، يفتتحه الكاتب ببحث تحت عنوان "اكتشاف أميركا بين الواقع والأسطورة"، راوياً إبادة سكان تلك الأرض الأصليين على أيدي شعوب تحركها مطامعها ويدعمها تفوق تكنولوجي سيسمح لها بإلغاء حضارات بكاملها. من التاريخ القديم، ينتقل في "الادب الأميركي - اللاتيني: حدود الإبداع والسياسة" ليعرض لبعض اتجاهات المشهد الأدبي المعاصر في أميركا اللاتينية. أما في "أدباء أميركيون لاتينيون من أصل عربي" فيصوّب أكثر، متطرقاً إلى الخصوصية العربية في إنتاج أدباء يتحدرون من أصل عربي.  

لا بد من الإشارة أخيرا إلى أن هذا الربط بين مجموع المقالات، أو بعضها، وإحالته على المقدمة، قد يبدو للوهلة الأولى على شيء من الافتعال، من حيث أن لكل منها منهج معالجة مختلفاً عن الآخر بحكم الظرف الذي كتبت فيه. إلاّ انه يكتسب "شرعيته" مما يبقى بعد القراءة، والذي يتخطى كل موضوع بموضوعه ليرتكز على خط بياني ينتج منها، كما أنه يجد بعض مبرراته في التقسيم الذي أجراه الكاتب نفسه لمقالات كُتبت في أوقات مختلفة وموضوعات متشعبة، متفادياً إيرادها كرونولوجياً بحسب تاريخ صدورها الأول.

"تفاحة الفردوس"، مجموعة مقالات وأبحاث يطل فيها عيسى مخلوف من موقع المنخرط في هموم زمنه الثقافية لا المتفرج الحيادي. من هنا هذا الشعور الذي يتركه الكتاب بأنه يتحرك مشفوعاً بما هو أكثر من السؤال العرضي بل السعي الجاد إلى إيجاد زوايا جديدة للنظر إلى إشكاليات الزمن الراهن، من خلال عمل موثق ينطلق من أمثلة على ارض الواقع الثقافي، ولا يكتفي بإطلاق الأفكار اعتباطاً. كتاب مفيد ضمن الحدود التي يضعها لنفسه والرؤى التي يعالج انطلاقاً منها موضوعاته المختلفة.

 

سيلفانا الخوري

")ملحق النهار"، العدد 740، الأحد 14 أيار/ مايو 2006(