الكتابة في مواجهة الغربة والموت!

 

 

 

 تكتب إيلين سيكسو بشراهة. بغزارة نادرة تكتب وباندفاع شرِس لا يهدأ. تكتب لتؤكّد لنفسها أنّ الأرض ما زالت تدور حتى بعد أن يرحل عنها أقرب المقرّبين إليها. تُراوغ الموت وتضع قسوة الكتابة مقابل قسوة الحياة فيصير للمنهَك المحطَّم قدرة على الوقوف في قلب العاصفة.

كتابان جديدان للكاتبة الفرنسية صدرا مؤخّراً عن دار "غاليليه" الباريسيّة، يؤكّدان هذا التوجّه، الأول "ماتت أُومير"، والثاني "تَمَرُّد الغبار". وإذا كان هذا الأخير يحتوي على قراءة في أعمال الفنان التشكيلي الجزائري عادل عبد الصمد وعلى مراسلاتها معه، فإنّ الكتاب الأول يحكي عن احتضار والدتها وعن مشاركتها لحظات النهاية، ويأتي في سياق كتبها التي تنطلق من الذات لتلامس العام. في هذا الكتاب أيضاً تحضر الأرض الضائعة والمدن البعيدة والجراح الغائرة. تحضر الجزائر ويحضر الغياب. يتبدّى، شيئاً فشيئاً، كيف أنّ بلوغ الموت نفسه- تماماً كما الصمود في الحياة- يلزمه قوّة. النهاية نفسها، حتّى النهاية، يلزمها عزم البدايات. وهكذا فإنّ كلّ كتاب من مؤلّفات إيلين سيكسو يحتوي على كتبها كلّها، وهناك اسمان يتردّدان فيها كلازمة: إيفا التي هي والدتها، والجزائر، تقترب منهما "كي تقترب من نفسها".

سيكسو المولودة في وهران عام 1937، درست في "الليسيه" الفرنسية في الجزائر العاصمة، قبل أن تصل إلى باريس حيث تابعت تحصيلها العلمي وانكبّت على التأليف. نتاجها يتحرك فوق رقعة واسعة من الأساليب وأنواع التعبير الكتابي، من الرواية والشعر والمسرح إلى الفلسفة والبحث والنقد الأدبي. وقد نالت عام 1969 "جائزة ميديسيس" عن رواية بعنوان "في الداخل" تنطلق فيها أيضاً من سيرتها الذاتية ومن أسئلتها الوجودية. من جانب آخر، عُرفت سيكسو بتعاونها في "مسرح الشمس" مع أريان منوشكين التي تمثّل مَعلماً أساسياً في تاريخ المسرح الفرنسي المعاصر، كما عُرفَت بدورها البارز في الحركات النسائية العالمية. ومن هنا فإنّ عملها ككاتبة ينضوي تحت لواء العلاقة النقدية مع المجتمع ولا ينفصل عنها، وهذا ما منح معنى خاصاً لعملها إلى جانب صديقها الفيلسوف الراحل جاك ديريدا، ولتحرّكها ضمن تَجَمُّع "استعلام/ سجن" الذي أسسته مطلع السبعينات مع الفيلسوف الراحل ميشال فوكو.

كتاب "ماتت أومير"، يأتي امتداداً لكتاب آخر صدر منذ خمس سنوات تحت عنوان "إيفا تتبدّد". الكتابة، هنا وهناك، مرادفة للألم الذي تختصره العبارة الآتية: "لم أكن أكتب، كنتُ أقرض أوجاعي". لكنّ الكاتبة تسعى، أحياناً، إلى تدجين المعاناة: "أقف حائلاً دون الألم الشاسع. أحتفظ فقط بإحساس عارم تمنحني إيّاه هذه البرهة المحدّدة من الوقت". وحين تنظر إلى وجه والدتها تجده "طاعناً في السنّ وتلتمع فيه، في آن واحد، فُتوّة أبديّة". لكنّها سرعان ما تضع على لسانها هذا التساؤل: "كيف يمكننا أن نعيش ما ليس هو الحياة؟". الكتاب لا يروي فقط سيرة الأيام الأخيرة للوالدة وصراعها مع الشيخوخة وتَحلُّل الجسد، بل سيرة الكاتبة نفسها أيضاً، وهي ترافقها إلى نهاية الطريق وتتركها مرغمةً هناك. إنها سيرة الفراق الذي يفصل فجأةً بين كائنَين لا يريد أحدهما الانفصال عن الآخر.

غير أنّ سيرة الفراق هذه توازيها سيرة الفراق مع الوطن الأمّ. تتداخل السيرتان في واحدة: الجزائر في مرحلة الاستعمار، السياسة والحروب وجدران الحقد، فيتشظّى الوطن ومعه تتشظّى الولادة. يستحيلُ الوليدُ نُثارَ كائن. تضيع الطريق المؤدّية إلى البيت، وهل من بيت للعنكبوت خارج لُعابه؟

في كتاب آخر بعنوان "إلى هذا الحدّ من القُرب"، تَجول إيلين سيكسو في أروقة الماضي وتنبش في طبقات الذاكرة. تتوقّف عند الفترة الدقيقة التي كانت تعيشها الجزائر في الخمسينيات والستينيات من القرن الفائت. عودة إلى السنوات التي أمضتها الكاتبة بين وهران والعاصمة، تقترب فيها من مملكة الذكريات لعلّها تساعدها على جمع ما تشظّى بين المدن والأوطان والهويات المختلفة، لدرجة أصبحت معها الهوية الفردية جرحاً سرّيّاً وعنواناً آخر للغربة.

الفَرد الغريب ها هنا، ليس "الغريب" الذي وصفه ألبير كامو في روايته الشهيرة، ولا "الغريب في دياره"، حسب تعبير توني موريسون، ولا "خارج المكان" وفق إدوارد سعيد في سيرته الذاتية. الغريب هو المنفيّ. وكلمة منفى، هنا، لا تنحصر في معناها الجغرافي بل تتجاوزه، لتتّخذ المعنى الذي حدّده جان بول سارتر حين قال إنّ المنفى الحقيقي هو "حين يضيّع الإنسان مكانه في العالم".

لا يكفي مكان الولادة ليكون وطناً. هكذا تصبح الجزائر، بالنسبة إلى سيكسو، "رغبةً مثالية في مملكة بلا حدود". والجزائر تخترق نتاجها بأكمله، ففي كتابها "مانهاتن" هي نقطة انطلاق: "شواطئ الجزائر حيث تجد أنهاري منابعها". وفي كتابها "الحبّ ذاته في صندوق البريد"، هي فعل ولادة: "كانت هي الجزائر العاصمة. الجزائر العاصمة. أصرخ بصوت عال. الجزائر! لهذا الاسم قوى خارقة". وفي كتابها "أحلام المرأة المتوحّشة" (و"المرأة المتوحّشة" هو اسم منحدَر في العاصمة)، تكتب حنينَها إلى وطن هي داخلَه: "عندما كنت مقيمة في الجزائر، كنت أحلم دائماً في الوصول إلى الجزائر".

تعرف إيلين سيكسو أنّ الكلمات لا تكفي لاستعادة فردوسها المفقود أو حتى لقَوله. قد تكون الكلمات فنّاً لإيجاد ملجأ، وقد تكون هي نفسها الملجأ، فتحاول أن تمدَّها، توسّعها، تُقَطّعها، تتلاعب بأحرفها فتدمج في ما بينها حيناً، وتفرّقها حيناً أخر، ممّا يجعلنا أمام نصّ اختباري، حرّ ومبتكَر، له خصائصه ومميّزاته داخل ما يُكتَب اليوم بالفرنسية.

 

عيسى مخلوف

 

("العربي الجديد"، 6 يناير 2015).