'عين السراب' لعيسى مخلوف مترجماً إلى الفرنسية
تأملات الكينونة على حدَّي الوجود والعدم

 


نثر عيسى مخلوف قصيدة. ينضح نصه، على نثريته، بالصقل والأصالة ليمسي شعراً فائق الحسّ والنظرة المتألقة إلى العالم، مشحونة بدفقها الأثيري العميق الذي يجعل "الشيء" صورة برّاقة رهيفة.

إنه ما نقرأه لمخلوف في مؤلّفه الحديث "سرابات"(*) الصادر بالفرنسية في ترجمة جيدة لنبيل الأظن. ويشاء مخلوف الكلمة مرآة لروحه وإنسانه، هو المتجذر في أرضه، المتأصل في ترحاله، القادم من اختبارات الحياة وعلوم الأنتروبولوجيا. عيسى مخلوف كتلة من المشاعر العميقة التي شكلت في الأساس مهارته الشعرية، مضيفاً إليها معارفه، أو في تعبير أدق معرفته بالإنسان من خلال اهتمامه بأصوله وفروعه، وهذا جليّ في نصوص كتابه هذا.

أراد عيسى مخلوف أن يكتب نصاً، نثراً، حكاية عمرٍ، تأملا في الحياة، بيد أنه كيفما تحرّك نضح شعراً وإرهافاً ولمعاناً. صوره فاتنة بذاك الدفق الغزير لشاعرية مؤثرة يتكلم من جوف الجرح الإنساني فيبلغ الجوهر, متأملا في الإنسان وتاريخه، بلوغاً إلى تلك الكهوف البدائية في فرنسا حيث سبق لجورج باتاي أن تناول موضوعها. يتساءل مخلوف حول اللغز الذي يرافق الإنسان, ولا يدع ميداناً إلا يزوره بفكره وقلقه. فمن لوحة الكهف الفرنسي إلى لوحة رمبرانت والوصف الأخّاذ إرهافاً ورقّة للعجل المذبوح. ومن صورة إلى صورة, يصل الشاعر إلى قريته, مسقطه الذي يلاحقه رغم الافتراق في الروح والمخيلة، وإن في غضب أحياناً. والصور الأولى البرّاقة تظل ثابتة أبداً في وجدان الكاتب. الأم التي تلوّح له بيدها من الباب، واقفة عند عتبة البيت تودع ابنها، والعجل الذي يسوقونه إلى الذبح، مثل عجل اللوحة المشهورة، ويستوقف صراخه الكاتب فيتساءل عن معنى هذه الصرخة ولغزها، وهي ترمز إلى مأساة الإنسان والألم البشري والخوف من الموت، ليقول ان ثمة من في العتمة يقتلنا ويلتهمنا. هنا أيضا يمتزج في وعي الكاتب الإدراك الانتروبولوجي (وهو إدراك شعري)، والقلق الشعري، إذ يصف دورة الحياة وشروط استمرارها.

ذاك الجبل، جبله، يعود إلى ذاكرته وكتاباته كاللازمة في أغنية نرددها لأننا نحبّها. يعود إليه الجبل بمهابته وحميميته وبالسؤال العميق الذي يفرضه. فهو مكان الطفولة، أي الذاكرة، بما تختزنه من تاريخ فردي وجماعي. جبل هو مكان للعنف والصلاة، يستعيده في شغف جزءاً من كينونته مهما نأى عنه.

يلفت من ناحية أخرى اهتمامه بصورة المرأة في وضع الحَمَل. وليست المرة الأولى يكتب فيها مخلوف عن الحمل ومعناه، كأن مشهد البطن المستدير يعيده إلى الحالة الأولى لتكوين الإنسان والكون، أو الأرض تحديداً. وفي شاعرية جلية يصوغ الشاعر صوره الشفافة في أسطر نثرية.

هل يقارن مخلوف ترحاله بترحال أوليس، وقريته المعلقة فوق الجبال الشامخة بقرية ايتاك الأسطورية؟ حتى لو لم يكن ذلك قصده لحمّلناه هذا القصد. غير أن اهتمامه بالموضوع يبغي التركيز على السؤال الوجودي المحض، إذ يقول: "ومن نكون عندما نعود، بعد عشرين سنة؟". بل أتساءل كقارئة، على غرار ما يفعل الكاتب: هل يرغب حقاً في الاستكانة إلى مكانه الأول الذي اقتلعت منه جذوره، أم يؤثر، مثلما قال عن السيّاب، أن يعود بالأحرى إلى حيث لا آلام ولا انتظار وهميا لما لن يأتي أبداً؟ هكذا يقف الشاعر قلقاً ومتألماً إزاء حقيقته، حيال العدم والسؤال، محاولا إدراك المسافة الكامنة بين اللحظة الخاصة بمعنى ما ولحظة الغياب الأكبر، حيث لا عدم ولا وجود. يخشى عيسى مخلوف على الحياة من الجرح، وعلى الحلم من الانتظار، بل يخشى على الإنسان من الوهم، وها النور يشع بين الأسطر والكلمات الطالعة من عمق برّاق، كثيف وشفيف.

يفرغ عيسى مخلوف إلى نفسه مستغرقاً في تأمّل الذات الكونية وذات خرجت من ذاتها لتنعكس ألواناً على أسئلة الكينونة البشرية، أصولا وفروعاً إلى الولادة والموت، وسوى ذلك مما يؤرقه: "حتى الانتظار يموت" يقول مخلوف إذ يغوص عميقاً في ثنايا الكون والتكوين. يتأمل، يفكّر، يحزن ويكتب. إذن، حتى الانتظار يتبدد، ولا يبقى له طعم أو معنى مع مرور الوقت، وكل رغبة تندثر مع اندثار السبب والحماسة. ينتظر نهاية الحرب، نهاية المرض والمجاعة، نهاية الأمطار، والليل والنهار. ينتظر الحب والمواسم الخصبة (...) الليل الصوفي في الزرقة الكثيفة التي تجعل مناخ كل هذا الكلام الشعري صوفياً متألقاً كالحالة ذاتها. غير أنه، وبعد كل هذا الانتظار، يرى نفسه أمام الفراغ قائلا: "أقترب منها كما اقترب من هاوية. ثم لا شيء. لا شيء إطلاقا". إنها الحالة التي تنتظره في نهاية المطاف، العدم بعد الأمل الملون بتلاوين الوهم الذي أضحى واقعه، فكل شيء يموت ويذهب كأنه لم يكن.

إنها متاهة الشاعر إذ يرى نفسه من دون مخرج أو ملاذ. يقول: "جوع المتاهة التي لا تفضي إلى أرض وإلى شجرة (...) يسافر المسافر وحيداً (...) هَبني لحظة سكون بحجم الأرض والعالم". هكذا يختم عيسى مخلوف نصه، تائهاً في متاهة الغربة والتنقل والسفر، بعيداً عن "سكون" الأرض التي تركها وسكون الشجرة التي لا تسافر ولا تغادر.

لم يدع عيسى مخلوف موضوعاً إلاّ أثاره في صدق وعمق وألق، جاعلا من اللحظة التأملية بيتاً شعرياً، ومن الومضة الفكرية صورة صوفية.

 

(*)صدر Mirages في منشورات "جوزيه كورتيه"، باريس 2004. وكان صدر الأصل العربي تحت عنوان "عين السراب" في منشورات "دار النهار"، عام 2000.

 

صباح زوين

")النهار"، السابع من شباط/ فبراير 2004(