عيسى مخلوف: الصحراء شاسعة والماء قليل

 

 

كان هناك يعزف بأصابعه على حبات المطر. يراقص الكلمات ليغري الغيوم أن تتبعه قبل أن يبدّدها الوهم. كان يقف على الضفة العالية من الغربة، ينسج موسيقاه التي كانت تتساقط من تحت معطفه الطويل كقصائد «عشق» لا تشبع من ذاك الغناء... يقف عند الحدود الفاصلة بين الحلم الشهي والأرض التي تدور حول انفلات الحكايات والقصائد الشاسعة التي تفرّ منه إليه. عزف مقطوعته الأخيرة... بعد أن هطل المطر مبكراً في عينيه. أتسلّل إليه كامرأة تضع يدها على قلبها لتسمع في كلّ ذلك «رنين كلّ الأجراس» فيما هو يكتب: "رائحتكِ، أعرفها من بعيد. هل تظنّين أنّ صمتك قادرٌ على حجبها؟ هل أنّ عدم مقدرتي على الحركة في اتجاه ما كنتُ أترقّبه يستحقّ أن يكون سبباً لهذا البُعد؟ يبتعد أحدنا عن الآخر مثلما ينشقّ الفجر عن الليل، القشرة عن الثمرة، الطفل عن بطن أمّه، الينبوع الخارج من الأعماق في اتجاه السرّ الأعمق". لم يبقَ أمامه إلاّ أن يكتب كتاباً. أن يبتكر مكاناً يتّسع له ولأحلامه. حشدَ في كتابه جميع الأسماء والوجوه التي عرفها مثلما حشدَ نوح في سفينته الناجية من الطوفان نماذجَ من جميع الكائنات الحيّة.

 

أقف أمام الضفة التي كان يقف عليها. أصفّق له. أنثر لدى موسيقاه تلك «الرياحين» وأقول له «ذلك الحبّ حقيقة أو وهم؟ ينزل على سلّم الأيام. يقترب منّي ليقول: «الحب حديقة أوهام ينبغي الاعتناء بها»...

*

*  نترك خلفنا ماضياً كم تقاسمنا وصنع منا قلوباً جرحها الكثير من الألم، نترك العتبة ونظن بأننا غادرناها إلى ضفة نقفز إليها بكل ما يحمله القلب من صور ما زالت ألوانها تعيد ترتيب التجربة في داخلنا. نظن أننا تجاوزناها تلك "العتبة" لكننا نكتشف بأننا ما زلنا هناك... ماذا صنعت بك تلك التجارب؟ أما زلت تحملها في قلبك؟ أم أنها ما زالت تأتيك لتذكرك بشخص كان هناك؟

-  صحيح أنّ الماضي يرافقنا في الحاضر والمستقبل، لكن ينبغي التعامل معه ليس بصفته شيئاً ثابتاً ومحنّطاً، بل بصفته معطى نأخذ منه فقط ما يساعدنا على التقدم. ثمة عناصر من الماضي إذا ما تمسكنا بها نصبح وكأننا نتمسك بقيود وسلاسل... لي في كلّ مكان أذهب إليه شيء مني. وأنا نسيج مؤلف من هذه الأمكنة كلها، ومن بعض الأشخاص الذين نحملهم في قلوبنا كما الشجرة تحمل ثمارها. أما مكان الطفولة، والطفولة نفسها، فلهما دون شك وقع آخر. ألم يقل بودلير إنّ المبدع هو الذي يسعى إلى أن يعيش طفولته مرة ثانية. الطفولة، هنا، تعني الأسئلة والدهشة. العيش داخل الأجوبة الجاهزة والمتكاملة مرادف للنهاية. إنه الموت قبل الموت. الموت داخل الحياة نفسها.

*  كتبت "نسافر كما ينتقل المهرج من قرية إلى قرية، ومعه حيواناته تلقّن الأطفال أمثولتَهم الأولى في السأم. نسافر لنخدع الموت، فنتركه يتعقبنا من مكان إلى آخر. ونظل نسافر إلى أن لا نجد أنفسنا في الأمكنة التي نسافر إليها. لنضيع فلا يعثر علينا أحد"... سافرتَ إلى باريس وأقمت فيها، ماذا تركت في لبنان؟

-  سافرتُ أولاً إلى كراكاس في فنزويلا ريثما تنتهي الحرب وأعود... كنا نظن أنها لن تستمر أكثر من أسابيع معدودة، لكنها لا تزال مستمرة حتى الآن في بلاد النزاعات التي لا تنتهي. ثمّ جئت إلى باريس وتابعت دروسي فيها. كنتُ أولد هنا من جديد فيما الذين أحبوني وظلّوا هناك يحرسون المكان الأول، أكلهم العمر والانتظار. هكذا، إذاً، تركتُ في لبنان حديقة الليمون الفسيحة وأزهارها وعطورها، وتركتُ فيها امرأة محاطة بملائكتها وصلواتها، تلك المرأة أراها الآن وأنا أنطق بهذه الكلمات. في ما وراء الغياب النهائي والحاسم، أراها تتنزه بين الأشجار ومساكب الورد، وهي في اتحاد تامّ معها، تحت سماء دائمة الزرقة... سافرتُ إلى نيويورك أيضاً، ولا أزال أسافر في الداخل والخارج، عمودياً وأفقياً. ألا يقول أبو تمام: "فاغترب تتجدد"... هذا هو قدرنا: أن لا نكتفي بالمسافة التي أعطيت لنا، أن ندفع دائماً الحدود في اتجاه اللامحدود. منذ ألفين وستمئة سنة، تمنّت الشاعرة الإغريقية سافو أن تلامس السماء بذراعيها، أي أنها كانت تتمنى أن تتجاوز الشرط الإنساني وتوسّعه إلى أقصى ما يمكن...

*  ما الذي أخذته معك؟

-  أخذتُ معي، من الأهل والأصدقاء، هذا الفائض من الحبّ. أخذتُ أيضاً تربية خاطئة لا تعطي صورة موضوعية عن الواقع بل عما تفترض أنه الواقع. تربية مثالية في المطلَق... تصحيح هذه الصورة استغرق منّي وقتاً طويلاً. لكن هذا لا يعني أننا لا نحتاج، أحياناً، إلى بعض الأوهام نجمّل بها لحظاتنا العابرة... عندما خرجتُ من البوابة الكبيرة، ورأيت لاحقاً ما رأيت وعشت ما عشت، أحسست بما أحس به بوذا عندما خرج من منزل والديه...

* هل وجدت نفسك في الأمكنة التي سافرتَ إليها؟

- كلّ مكان نسافر إليه يصبح مدماكاً في صياغة العمارة التي تتحدد بها هويتنا الشخصية. كلّ كتاب يؤثر فينا هو هِبَة، وكلّ لقاء مهمّ، كنز يلمع أمامنا ويثري حياتنا.

*  تختم أحد نصوصك بالقول: "نضيع فلا يعثر علينا أحد"؟

-  إنه مجرد تعبير عن فكرة الموت التي يعيشها كل إنسان مع نفسه، بطريقته الخاصة، ولا يمكن أن يشاركه فيها أحد. وهي أيضاً أشبه بعُرْي وجودي لا يمكن أن نتقاسمه حتى مع أقرب المقرّبين.

*  نمتهن المهن، ولكن المهن هي التي تمتهننا لتعيد تشكيلنا كلما ارتبطنا بها وتكونت تلك العلاقة الوطيدة بيننا وبينها... عملت في الكثير من المهن، وتعمل حالياً مديراً للأخبار في "إذاعة الشرق" في باريس. ماذا حدث لك بعد ذلك التنوع في المهام؟

-  كل ما عملته من مهن كان تغطية لهروبي في اتجاه القراءة والكتابة. قليل هو الوقت المتاح لنا ولا يحتمل أن نبعثره في كلّ الاتجاهات. الصحراء  شاسعة والماء قليل...

*  حينما تحب أن تسمع آخر أخبارك أنت، أين تجد تلك الأخبار؟

- آخر أخباري أستمع إليها في عيون الآخرين، وهي المرايا التي أتعرف فيها على بعض خفايا نفسي.

*  كتب أمين معلوف: "أصدقاؤك يصلحون لحمايتك من أوهامك لأطول فترة ممكنة"... أتحب أن تدعو أصحابك إلى وليمة من الأوهام، تلتهمها كلما سئمتَ رتابة الواقع؟ أتصدق أوهامك؟ من يحميك منها حينما تتعلق بها؟

-  ينبغي أن نعيش العالم الواقعي بعقلانية وبأكبر وعي ممكن، وأن نسهم في بنائه وفي إعطائه معنى. لكن، كما ذكرتُ منذ قليل، بعض الأوهام ضرورية ومكوّنة هي أيضاً لهذا الواقع، فلماذا نحتمي منها؟ أليس الحب، مثلاً، حديقة أوهام ينبغي الاعتناء بها؟

*  تغريك اللوحات التشكيلية والصور كثيراً... عمّا تفتش فيها؟

-  علاقتي المباشرة بالصور والمنحوتات واللوحات الفنية، كعلاقتي بالموسيقى، لا تحتاج إلى كلمات، وهذا أمر مدهش لشخص يعيش في الكلمات. ننظر ونمتلئ بما ننظر إليه، نسمع ونعبق بما نسمع. نتّسع ويتّسع المدى من حولنا. في الحكاية الأولى من كتابها "حكايات شرقية"، تتحدث مارغريت يورسنار عن فنان يدعى وانغ فو، تقول إنه "كان يحبّ صورة الأشياء أكثر من الأشياء نفسها". ربما تقول هذا الكلام لأن الصورة لا تتخلّف عن الموعد، وهي مفتوحة على احتمالات قراءة لا تنتهي.

*  ولماذا يبدو في مظهرك الخارجي تقاطعاً مع شخصية "الموسيقار"؟ أيمكن لما نحبه ونتأثر به أن يسهم في تشكيل ملامحنا ويطغى على مظهرنا الخارجي؟

-  هل رأيتِ ذلك حقاً؟ ربما لفرط ما أستمع إلى الموسيقى صرت أتماهى معها. كانت هذه هي رغبتي منذ الطفولة: أن أكون موسيقياً أو قائد أوركسترا. لكن الظروف حالت دون ذلك. وهذا ما أحاول تعويضه في ما أكتب. بعض الكتابات ترشح بالموسيقى وهذا ما أسعى إليه في تجربتي الخاصة. والكثير من النصوص التي أكتبها تأتي في سياق إيقاعات أستمع إليها، أو هي كائنة في تلك الأنهر الجوفية داخل الذات العميقة.

*  كتبتَ: "كيف يمكن أن نميز إنساناً عن إنسان آخر انطلاقاً من مظهره الخارجي فقط؟ كيف نفرّق بين القاتل والقتيل؟ القاتل الذي بيننا، وقد يكون في داخلنا، نطعمه ويطعمنا، يفرح لفرحنا ويحزن لأحزاننا، يتودد وينصب لنا الفخاخ في آن واحد"... كم قاتل فرح لفرحك وحزن لحزنك ثم اكتشفتَ بأنه نصب لك الفخاخ؟ هل من الممكن أن نحمل قاتلنا معنا أينما ذهبنا ونحن نعيش حياة القتيل؟

-  يفاجئني هذا الكائن المذهل الذي هو مزيج من دين وفن وبربرية، ولا أعرف كيف يجتمع هذا الثلاثي في إناء واحد! حين يُقتَل أي شخص في مكان من العالم، أنظر إلى يديّ كما فعلت اللايدي ماكبث... نعم، يظن واحدنا أنه يتلقى الضربات فقط، ولا ينتبه في الغالب إلى أنه، هو أيضاً، بوعي أو بغير وعي منه، يسدد الضربات... فينا يوجد القاتل والقتيل، وعلينا أن نظل يقظين متنبهين في كل لحظة. علينا أن نضبط أنفسنا أولاً.

*  يقول أدونيس: "قل دائماً: لا، ربما لا تليق كلمة "نعم" إلا بذلك الزائر الأخير: الموت". متى قلت "لا " ودفعت ثمنها باهظاً؟ أتقول للموت "نعم"؟ أم أنك تخشاه؟

-  ثمن الحرية باهظ... أنظري إلى ما يجري في العالم العربي اليوم. على المستوى الشخصي، أعتبر أن فعل الكتابة هو، في حد ذاته، تعبير عن رفض أيضاً، رفض للسائد ولما هو جامد ومغلق. إنه محاولة فتح الآفاق واستدراج الأمل. أما الموت فلا ينتظر مني أن أستقبله بكلمة نعم أو لا، ولا يحتاج إلى كلامي المتلعثم. هو يأتي فقط ويأخذ ما يريد. وأنا أقبل بذلك دون خوف، ليس جبناً وإذعاناً بل لإدراك مني أنني مبرمَج لأكون داخل دورة الحياة والموت، أي داخل هذا اللغز الكبير الذي يتجاوزني.

*  في أغنيته الخالدة "Hello" غنّى Richie Lionel: "مرحبا... هل أنا ما كنت تبحثين عنه؟ أستطيع أن أرى ذلك في عينيك، أستطيع أن أرى ذلك في ابتسامتك، أنت كل ما أردته يوماً، وذراعاي مفتوحتان على اتساعهما، لأنك تعلمين تحديداً ما تقولين، وتعلمين تحديداً ما تفعلين، وأريد بشدة أن أقول لك: أحبك"... لماذا يصعب علينا، أحياناً، أن نخبر من نحبه بأن القلب يحمل له الحب؟ أيموت الحب حينما لا نفصح عنه؟

-  ربما، خشية أن يأتي الفقد والغياب. خشية أن نخيّب أمل الآخر أو يخيّب هو أملنا. لكن، في الوقت نفسه، حين لا نفصح عن الحب فإنّ شيئاً فينا هو الذي يموت... حين تأتي لحظة الحب، ننسى ما تخبئ وراء جناحيها ونتبعها. كأنّ الجرح الذي فيها هو جزء منها. أكرر دائماً عبارة دوستويفسكي: "عندما تقول لأحد: "أحبك"، هذا يعني أنك تقول له إنه لا يزال على قيد الحياة".

*  لمن قلت: "مرحبا... هل أنا من كنت تبحثين عنه"؟

-  كلّ يوم أقولها، ولا مَن يَسمع... (ضَحِك).

*  كتب نزار قباني: "إني خيرتك فاختاري/ ما بين الموت على صدري أو فوق دفاتر أشعاري/ اختاري الحب أو اللاحب فجبن ألا تختاري/ لا توجد منطقة وسطى مابين الجنة والنار"...  ماذا يفعل "الخوف والجبن" حينما يدخلان "وطن العشق"؟ في خيارات الحب أتوجد منطقة وسطى؟ أم أن الحب حالة تستلزم منا قراراً أكيداً وشجاعة في العيش من أجله أو الموت فيه؟

-  قبل الإجابة عن هذا السؤال، اسمحي لي أن أقول إنّ شعر نزار قبّاني، في جانب منه، يعكس الذهنية الذكورية المهيمنة التي يرزح تحتها عالمنا العربي. نزار قباني شاعر مهم استطاع بلغته البسيطة وشاعريته النافذة أن يدخل الشعر إلى كل بيت عربي، لكن نزار، على غرار عدد كبير من الشعراء العرب، ينظرون نظرة استيهامية إلى المرأة، فهي في نظرهم إما أن تكون قديسة أو عاهرة. إضافة إلى التركيز دائماً على قوة الذكر وشهرياريته. أليس هو القائل: "وبنيتُ أهراماً من الحلمات"؟ أما سؤالك فتحتاج الإجابة عنه إلى كتاب... باختصار شديد، الخوف والجبن لا يتماشيان لا مع الحب ولا مع شيء آخر. أما إذا كان الحب "حالة تستلزم قراراً أكيداً وشجاعة في الحياة من أجله أو الموت فيه"، ففي هذا الكلام ما يذكّر بمسرحية "روميو وجولييت". لكن، هل لا يزال ثمة من يموت حباً؟ الحبّ حرية، وتوافق بين شخصين. في بعض مناطق العالم، ومن ضمنها العالم العربي، لا تزال المرأة ضحية النظرة الدونية إليها، واختزالها في جسد ووظائف بيولوجية فقط، وضحية ما يسمونه "جرائم الشرف"، حين تساق كالماشية إلى الذبح... الموت، هنا، لا يشبه، بأي حال من الأحوال، موت العشق، أو الفناء، بلغة المتصوّفة. أو الموت الذي تحدث عنه، وبأي روعة، أبو نواس: "أموتُ ولا تدري وأنتَ قتلتني"...

*  ماذا يفعل بكَ الحزن؟

-  أحاول أن أجعل منه لحظة إبداع، إذا كان حزناً خفيفاً يشبه تساقط الرذاذ وراء النافذة، أما إذا كان مباغتاً جامحاً فغالباً ما يدفعني إلى الصمت، أو إلى الموسيقى فأستمع، مثلاً، إلى باخ أو موزار في معزوفات ترتفع إلى مواضع تنتفي فيها ثنائية الفرح والحزن... يقول أكثر الكتّاب يأساً في القرن العشرين، وأقصد به فرانز كافكا، في يومياته: "لا تدَعوا الكآبة تأخذكم بعيداً". لأن الحزن إذا بلغ حداً كبيراً قد تصعب علينا العودة منه. في حالات كهذه، من الأجدى أن نتذكر النؤاسي فيواسينا، ونتذكر عمر الخيام...

*  حينما تريد أن تفرّ من نفسك وتهرب من الحصار، أين تذهب؟ ومن تجد في تلك العزلة؟

-  أين المفر وكيف نهرب؟ من يدلّنا على الطريق؟ لا نكون وحيدين دائماً عندما نكون وحدنا! عندما يشعّ فينا الآخر، يولم لنا ولائم الدهشة ونتلألأ بحضوره البعيد. تلك العزلة هي، على نحو ما، عزلة الذهَب.

*  كتبتَ: "كم أتمنى أن أستيقظ صباحاً، ذات يوم، ولا أجد العالم"... ماذا ستفعل إن ذهب العالم؟ أتطيق تلك الوحدة؟

-  ربّما كنت أريد في لاوعيي أن أقول: كم أتمنى أن أستيقظ ذات صباح ولا أجد هذا النوع من العالم القائم، منذ البداية حتى اليوم، على العنف ونبذ الآخر والحروب. أقول في نفسي أحياناً: صحيح أنّ الإنسان يعيش تقدماً تقنياً وتكنولوجياً كبيراً، لكنه، بنوازعه العنيفة وقدرته على القتل، لا يزال في مرحلة العصر الحجري ولم يتجاوزها بعد.

*  أيهما تفضل أن تعيش معها: المرأة الجميلة حتى إن كانت "مسطحة"؟ أم المرأة الذكية والحقيقية حتى إن لم تكن جميلة؟ أيمكن أن يكون لجمال المرأة علاقة وطيدة بقبول الرجل لها حتى إن لم يتوافق معها فكرياً وروحياً؟

-  سؤالك الذي تضعين فيه صفة "سطحيّة" بجانب "المرأة الجميلة" وصفة "الذكاء" بجانب المرأة غير الجميلة، يستتبع سؤالاً آخر: ألا يمكن العثور على امرأة جميلة وذكيّة في آن واحد، وعلى امرأة غير جميلة وغير ذكيّة أيضاً؟ لا مجال في هذا الحيز الضيق أن أتناول موقف الرجل من المرأة عموماً... النظرة السائدة إلى المرأة في مجتمعاتنا هي نظرة تعمل على تشييئها، أي على اعتبارها مجرد شيء يمكن التحكّم به واستعماله عند الحاجة. المرأة، بهذا المعنى، تابع وملحق، وليست كائناً قائماً بذاته... الجمال ليس معطى ثابتاً، ولا يمكن النظر إلى كائن حيّ كما ننظر إلى الجماد مثلاً. أفضّل أن أعيش مع المرأة التي تقبل بي كائناً قريباً ومختلفاً في آن واحد. لا تعنيني امرأة الجمال الجاهز، ذكية كانت أو لم يعط لها أي ذرّة من الذكاء. تعنيني المرأة التي يتكوٌن جمالها أمام عينيّ يوماً بعد يوم، والجمال ليس من طبيعة جسدية فحسب. هذه المرأة تصبح جميلة ولا تستطيع الأيام انتزاع جمالها منها...

*  كتبت: "سنمضي، هذه المرّة، ولن نعود. لن نقول وداعاً للّذين رمقونا بعيونهم ونحن نَعبُر، وملأوا من أجلنا أجملَ الكؤوس. سنترك وراءنا بنفسجَ الجبال ونفتح الطريق أمام البراعم. وحين تمطر فوق النجمة الأولى يبدأ نهار آخر". لماذا نختار أحياناً أن نمضي ونعبر الجسور دون وداع لكل الأشياء التي كانت جزءاً منا وللأشخاص الذين كانوا في حياتنا؟ وماذا عنك...

-  أحياناً لا يكون قرار الذهاب قرارنا... فماذا نفعل؟ نترك شمس "النهار الآخر" لأولئك الأشخاص ولتلك الأشياء... هناك كلمة عالقة على طرف اللسان نظنّ أننا نملك كلّ الوقت لنقولها، وحين يداهمنا الوقت، وبسرعة يداهمنا، نعرف أنه قد فات الأوان... يقول بروست إنّ الذين نبني لهم حياتنا يتخلّفون عن الموعد... والصحيح أيضاً في حالات أخرى، أننا نبني حياتنا لأشخاص نتخلّى عنهم عندما يصلون إلينا، ونظل ننتظرهم كل العمر.

*  متى تتحوّل البيوت التي نسكنها إلى بيوت باردة موحشة؟ ومتى يكون "البيت" وطناً؟ كيف هو شكل وطنك؟

-  البيت الذي أسكنه يشبهني، وهو مليء بلوحات ومنحوتات لعدد من أصدقائي الفنانين، إلى جانب الموسيقى والكتب. البيت الحقيقي أجده في الكتابة التي توفر لي شيئاً من الحرية والحماية. يقول المسرحي الفرنسي لوران تارزييف: "الكلمات أفضل المنافي". وهذا صحيح بالنسبة إليّ. تعطيني الكتابة أيضاً إمكانية التواصل مع الآخرين. القراءة والكتابة نافذتان مفتوحتان على العالم، الداخلي والخارجي على السواء... أما الوطن الحقيقي فهو بالطبع خارج الأوطان التي تدّعى حمايتها السياسة والجيوش. الوطن الحقيقي غير موجود، ونحن في مسعى دائم إلى إيجاده. لا وطن للكاتب، إبن هذه الأرض. هكذا أتخيله وهكذا أحب أن يكون...

*  ما هو السرّ الذي لم تقله يوماً لأحد؟

-  السر الذي تسألينني عنه هو السرّ الأعظم الذي لا يمكن أن نبوح به ونحن أحياء. وحده السيّد الموت سيتكفّل بمهمّة البوح هذه. وحده يستطيع أن يقول لاحقاً ما يتعذّر علينا الآن قوله.

 

 

أجرت الحوار عبـير الـبراهيـم

(صحيفة "الرياض"، السبت، 1 فبرابر 2014)