الخطر النووي من تشيرنوبيل إلى فوكوشيما: كيف نحمي التقدم البشري من نفسه؟

 



بينما كانت آلة القتل الإسرائيلية التي لا تهدأ تتحرّك في غزّة، يتبعها انفجار في حافلة ركاب إسرائيلية في القدس، وبينما كانت بقايا أنظمة الحكم الوراثي التي تتعاطى مع البشر بصفتهم عبيداً، تطلق النار على المتظاهرين المطالبين بالخبز والحرية والإصلاحات السياسية، كان الإعلام الغربي يتحدث عن الغيوم النووية العابرة للقارات والتي لا تستطيع الجيوش الجرّارة أن تصدّها. هذه الغيوم تقول لنا، مرّة أخرى، إنّ ثمة مشكلات في زماننا الراهن لا تقتصر على هذه الدولة أو تلك ولا يمكن طرحها إلاّ على مستوى العالم أجمع.
ما يجري في مجمَّع فوكوشيما النووي يدفعنا إلى إعادة طرح السؤال حول مخاطر استعمال الطاقة النووية، وحول الكوارث التي سببتها ويمكن أن تسببها في كلّ لحظة. يستتبع هذا السؤال أسئلة أخرى: ماذا يعني أن يبتكر العلماء والمتخصصون قوة لا يستطيعون التحكم بها وبنتائجها؟ ألا يتحوّل التقدم الذي يهدف فقط إلى المنفعة والسيطرة والربح إلى خطر يهدد كلّ شيء؟ هل يمكن أن يستقيم التقدّم العلمي والتقني في غياب رؤية إنسانية شاملة؟
صورة فوكوشيما اليوم تعكسها هيئة مبنى متصدَّع يبدو في ظاهره مبنى عادياً، قائماً في منطقة جغرافية محددة، لكن هذا المبنى المتواضع يتجاوز حدوده وينطوي على خطر كوني. يكفي أن يخرج منه خيط من الدخان حتى يزداد قلق المقيمين في اليابان وفي كل مكان. الخطر النووي، هنا، غير منظور ولا يمكن أن تلتقطه عدسة الكاميرا لكنه يتدفّق في الهواء. الهواء الذي يتنشّقه الإنسان والحيوان وجميع الكائنات الحيّة، يصبح اليوم، مثل البحار والمحيطات، مكبّ نفايات العالم.
المسؤولون عن المفاعلات النووية، ومعهم حكومات العالم الصناعي، لا يفتأون يطمئنوننا، تماماً كما حدث بعد انفجار تشيرنوبيل عام 1986. وهم يتحدثون عن حركة الريح التي ستحمل الذرّات غير المنظورة بعيداً عن طوكيو في اتجاه المحيطات البعيدة، وعندما تصل إلى القارة الأوروبية والأميركية يكون أثرها قد اضمحلّ ولا تبقى منها سوى نسبة ضئيلة جداً لا تؤثّر على حياة الإنسان. هل تكفي هذا التصريحات لطمأنة أهل اليابان ومعهم جميع المقيمين على سطح هذا الكوكب، ولضمان حماية الأجيال الآتية؟ هل ثمة اطمئنان فعلاً والدول الصناعية الكبرى لا تعرف، حتى الآن، ماذا تفعل بنفاياتها النووية المتزايدة عاماً بعد عام، ولا تعرف ما إذا كان طمرها تحت طبقة كثيفة من الإسمنت في باطن الأرض كافياً لتبديد مخاطرها لعقود ولقرون آتية.
اللوبي النووي
مع هذه الكارثة الجديدة، وهي من صنع الإنسان لا من صنع الطبيعة، برز دور اللوبي النووي الذي يتلاعب بالمعلومات والحقائق بما يتناسب ومصالحه الخاصة، على حساب حياة البشر بالطبع. «كل شيء على ما يرام» بالنسبة إلى المسؤولين عن الطاقة النووية، حتى عندما لا يكون ثمة شيء على ما يرام. الكذب في المجال النووي لا يقل أهمية عن الكذب في المجال السياسي، وهو جزء لا يتجزأ من وجوده. منذ حادثة تشيرنوبيل، سقطت مقولة الركون إلى الطاقة النووية، وسقطت معها إمكانية تدجين الوحش النووي. صحيح أنّ العلماء والمهندسين قاموا بالواجب وبرعوا في عملهم لكن هذا لا يكفي. الغاية السلمية لا تعود سلمية إذا كانت تنطوي على هذا القدر من التهديد، حين تكشف تلك القوة المتقدمة عن وجهها المرعب. استعمال الطاقة النووية لتدمير هيروشيما وناغازاكي لا يقل بربرية عن استعمالها لأهداف مدنية كما الحال في تشيرنوبيل وفوكوشيما. الطاقة النووية «السلمية» أو «المدنية»، كما يسمونها، هي أخت الطاقة النووية الحربية، وهما يخرجان من رحم واحدة. ألا يُستعمَل البلوتونيوم واليورانيوم، هنا وهناك، في آن واحد؟
كان اكتشاف الطاقة النووية ذروة ما توصل إليه الإنسان على مستوى التقدم التقني. إنه تتويج لجهود بدأت منذ آلاف السنوات. السادس من شهر آب 1945، ألقيت القنبلة النووية الأولى على هيروشيما وقتلت على الفور قرابة سبعين ألف شخص. في اليوم التالي، وفي ما وراء الخراب الهائل الذي سبّبته، تحدثت الصحف الغربية عن «ثورة علمية كبرى»، وعن «اكتشاف كبير لا سابق له في تاريخ البشرية». لكن هذا الاكتشاف العظيم حصد، بلمح البصر، أكبر عدد ممكن من البشر، بل وضع البشرية أمام عصر جديد وأمام مرحلة جديدة من تاريخها على سطح الأرض. لقد خان هذا الاكتشاف أيضاً المُثل العليا للإنسان والتي عبّرت عنها أطروحات بعض الفلاسفة والمفكرين الغربيين (في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر) ممن اعتبروا أنّ التقدّم العلمي سيساعد على حلّ مشاكل كثيرة وسيكون مرادفاً لحياة أفضل.
الكاتب الياباني الحائز على جائزة نوبل للآداب كنزبورو أوي، حذر، في مقال نشره مؤخراً في صحيفة «لوموند» الفرنسية، من الخطر النووي ومن وَهْم فعالية القوى الرادعة التي تنادي بها الدول التي تمتلك هذا السلاح. وتحدّث عن استهتار المواقع النووية بحياة البشر معتبراً أنّ تكرار الجريمة هو «الخيانة الأكبر لذاكرة ضحايا هيروشيما».
لا يأتي هذا الكلام في إطار دعوة إلى التخلّي عن فكرة التقدم العلمي وفقدان الثقة بها، وليس تعبيراً عن حنين إلى الجهل والتخلف، بل، إنه، على العكس من ذلك تماماً، حثّ على التعاطي مع مسألة التقدم من خلال نظرة تتنبّه إلى تعقيدات الموضوع وتنظر إليه من جوانبه المختلفة، والمتناقضة أحياناً، وتتعاطى معه كذلك وفقاً لضوابط إنسانية وأخلاقية. لكن كم تبدو هذه الأمنية مثالية نظراً إلى تاريخ الجنس البشري وحضاراته التي نشأت وترعرعت في كنف المجازر والحروب.
التقدم التقني والتكنولوجي لم يواكبه تطور على مستوى العلاقات الإنسانية، ولا زالت التكتلات التي تقام هنا وهناك غير كافية للحديث عن وحدة المصير الكوني، من الدول الثماني العظمى إلى الدول العشرين ومنهما إلى الدولتين العظميين، الولايات المتحدة الأميركية والصين. الحضارة هنا ليست معطى ثابتاً. إنها قشرة واهية يمكن أن تسقط في لحظة واحدة. حين تندلع الحروب في أي مكان من العالم، تبدو الحضارة كأنها عبء على البشرية وحدث طارئ. ولم تُغَيِّر العولمة شيئاً في هذا المجال.
يعتبر عالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران أنّ ثمة نوعين من العولمة بدآ مع اكتشاف أميركا في القرن الخامس عشر من قِبَل الأوروبيين. النوع الأول كان ولا يزال يربط بين أجزاء العالم المختلفة ولكن من خلال الغزو والاستعمار، أما النوع الثاني فهو الذي ولد في موازاة النوع الأول وتجسد من خلال الأفكار الإنسانية التي تعترف بالمساواة بين أبناء البشر وتنادي بالحرية وحقوق الإنسان، وهو يتمثل اليوم في منظمات غير دولية تتسم بطابع إنساني ومنها على سبيل المثال «أطباء بلا حدود» و«منظمة العفو الدولية» و«غرين بيس» وغيرها... ولهذه المنظمات كلمة تقولها عندما تنعقد المنتديات العالمية (بورتو أليغري، دافوس...) التي تبحث في المشكلات التي تتعرض لها البشرية اليوم وفي مقدمتها السلاح النووي وتردّي أوضاع البيئة تحت تأثير النمو التقني والاقتصادي الذي يسعى إلى حيازة الكمية على حساب النوعية مع كل المخاطر المترتبة على ذلك، من ارتفاع حرارة الأرض وتهديد البيئة إلى الأمراض التي تصيب الإنسان والحيوان.
بعد تشيرنوبيل وفوكوشيما ما عادت الطاقة النووية مصدراً لطاقة غير محدودة فحسب. عندما يتزعزع مفاعل نووي في مكان ما في العالم، كما الحال اليوم في فوكوشيما، يتأكد لنا أنّ التقدم لا يزال في بداياته وأن البحث العلمي، على الرغم من كل الخطوات الكبيرة التي أنجزها، لا يزال في أول الطريق. من هنا تتأتّى الحاجة إلى رؤية إنسانية تؤمن بأنّ الإنسان هو الذي ينتمي إلى الأرض وليس العكس. رؤية توجّه التقدّم وتبحث عن طاقات جديدة بديلة تأخذ في الاعتبار حاضر الإنسان ومستقبله أكثر مما يعنيها الربح الآني والمردودية المادية فقط.
الموجة العالية التي رسمها الفنان الياباني هوكوساي في القرن التاسع عشر، وهي تمثّل أحد رموز الجمال الفني في اليابان، إلى جانب تفتّح أزهار الكرز في الربيع، تبدو اليوم، أمام مثلّث الزلزال والتسونامي وتسرّب الإشعاعات النووية، كأنها خرجت من حدود إطارها الجمالي لتشكّل إنذاراً موجَّهاً إلى البشرية جمعاء.

 

عيسى مخلوف