حين تضع الجماهير يدها على السياسة والثقافة

 

 

ثمة كتب تولد من جديد مع صدور كلّ طبعة جديدة منها. هكذا الحال مع كتاب «تمرّد الجماهير» للفيلسوف الإسباني خوسيه أورتيغا إي غاسيت الذي صدر في ترجمة فرنسية جديدة عن منشورات «لي بيل ليتر» الباريسية، وكانت صدرت ترجمة أولى في فرنسا عام 1937، أي بعد سبع سنوات من صدوره لأول مرة باللغة الإسبانية. نُقل هذا الكتاب إلى لغات عدّة وأمسى في العالم أجمع بمثابة المدخل إلى فكر أورتيغا إي غاسيت وأحد المراجع الفكرية الأساسية في القرن العشرين. وهو يمثّل محطة بارزة في تاريخ الفلسفة السياسية ويسهم، بصورة خاصة، في تعميق مفهوم الحرية الفردية وكذلك مفهوم الجماهير والأقليات والدولة، انطلاقاً من نزعة إنسانية تجعل نتاج مؤلفه امتداداً لنتاجات مفكري عصر الأنوار.
كتاب «تمرّد الجماهير» قرأته في لغته الأصلية مطلع التسعينيات، ثمّ أعدت قراءته، في الأيام القليلة الماضية، بترجمته الفرنسية. في القراءتين، على الرغم من الفترة الزمنية التي تفصل بينهما، هالني نفاذ رؤيته وقوّة تحليله. ولئن كان الكتاب ينطلق من الواقع السياسي والاجتماعي لمرحلة العشرينيات، فإنه يتجاوز تلك المرحلة ويستشرف المراحل اللاحقة وصولاً إلى حاضرنا الراهن. وهو، بهذا المعنى، ليس كتاباً سياسياً لأنه ينبش في الطبقات الأعمق السابقة للسياسة ويساعد على فهمها بجلاء نادر. إلى ذلك، نراه يضع «المثقف» في الجهة المعارضة للسياسي. نتاج المثقف، بحسب رأيه، يطمح (وغالباً بدون جدوى) إلى توضيح الأمور ولو قليلاً، فيما ينزع نتاج السياسي إلى جعلها أكثر غموضاً.
يتحدث خوسيه أورتيغا إي غاسيت عن صعود المد الجماهيري في أوروبا ووصول الجماهير إلى السلطة التي كانت دائماً حكراً على أقلية. وهذا ما يمثل وضعاً جديداً أوصلت إليه أنساق ديموقراطية في القرن التاسع عشر. وفي حين يرى المؤلف أنّ الأقلية تتألف من أفراد مبدعين ينتمون إلى حالة لا يمكن بلوغها من خلال الوراثة أو الشراء، ويؤسسون لما لم يكن له وجود من قبل، يقدّم صورة دقيقة عن الإنسان النمطي، أي عن طبيعة الجماهير نفسها وما يحركها ويتحكم بسلوكها. الكائن الجماهيري بصفته نتاجاً جامداً، وليد الكتلة والمجانَسة، لا يمكن تمييزه عن الآخرين وهو نسخة مكرورة عنهم.
الجماهير ليست الشعب. الشعب مكوَّن اجتماعي والجماهير ليست مكوَّناً اجتماعياً. مفهوم الجماهير، هنا، لا يخضع لقراءة أيديولوجية ولا ينحصر في الجماهير العاملة ووضعها على الطرف المقابل للأقليات المميّزة والمتخصّصة، لكنه يتناول مساراً تاريخياً جديداً لم يكن معروفاً قبل القرن التاسع عشر. كما أنه لا ينحصر في الدول الأوروبية وحدها بل يشمل العالم أجمع حيث النمو الديموغرافي المتزايد يشكّل تحدياً بالنسبة إلى أوروبا. إنّ تقسيم المجتمع بين جماهير وأقليات نخبوية ليس تقسيماً طبقياً، فبالإمكان إيجاد الجماهير والأقلية معاً داخل أيّ طبقة من الطبقات الاجتماعية المختلفة.
عنف الجماهير / الحوار أو البربرية 
يقول أورتيغا إي غاسيت إنّ «ما يميّز الحاضر هو أن النفس الوضيعة التي تعرف أنها سطحية ووضيعة، تتجرأ وتؤكد على حقوق الوضاعة وتفرضها في كل مكان». تفرض الابتذال بصفته معياراً وقيمة. "الجماهير تضرب صفحاً عن كل ما لا يشبهها. كل ما هو متألق، فردي، متخصص ومتميز. كل من ليس مثل الجميع، ولا يفكر مثل الجميع، معرّض للنبذ والإقصاء".
الإنسان العادي، المحدود المعرفة، والذي منه تتألف الحشود هو الإنسان الملغى والمعطَّل. إنه، بالنسبة إلى أورتيغا إي غاسيت، صورة «للجماهير الزاحفة التي تتدخّل في كلّ شيء ولا تتدخّل إلا بصورة عنيفة». وهي لا تمتلك آراء نظرية حول ماهية الأشياء وكيف ينبغي أن تكون. تسوقها المعتقدات الجاهزة والعادات والتقاليد. تتعاطى مع المكتسبات الحضارية كمعطيات ثابتة لم تحدث بفعل الإبداع والتراكم المعرفي. كأنها موجودة هنا منذ الأزل تغرف منها ما تحتاج إليه بدون أن تتساءل عن طبيعتها وكيفية التوصل إليها وحدود التعامل معها. الإنسان/ الجماهير لا يبدع بل يعيد إنتاج ما أبدعه الآخرون. ينسخ آراءه في المجالات كلها، في السياسة كما في الآداب والفنون. لا يحتاج إلى التفكير ومن خصوصياته أنه لا يصغي. ما الحاجة إلى الإصغاء ما دام يملك جواباً على كلّ شيء؟ يحاكِم ويقرِّر. امتلاك الأفكار المسبقة لا يعني التفكير ولا يعني الثقافة. لا ثقافة إذا لم تكن ثمة قواعد وقوانين يمكن الآخر أن يستعين بها أيضاً، وإذا لم يكن ثمة مبادئ لشرعية مدنية يمكن الركون إليها. لا مكان للثقافة حيث لا احترام لبعض القواعد الثقافية التي تحكم الحوار. حين ينتفي الحوار يبقى ثمة احتمال واحد: البربرية. هذا ما وعاه فلاسفة عصر الأنوار وفي مقدمتهم فولتير وديدرو. وهذا ما يفسر صعود الحركات الفاشستية التي عرفتها المجتمعات الأوروبية لاحقاً. والحال هذه، الثقافة ليست حقيقة مطلقة والحقيقة لا يمكن أن تكون حكراً على أحد.
يقول فرنسوا جاكوب في كتابه «لعبة الممكنات»: «ليست المصلحة وحدها هي التي تدفع الناس إلى التقاتل، بل أيضاً الدّغماتيّة أو المبادئ المبرمة القاطعة. ليس ثمة أخطر من اليقين بأننا على حقّ. لا شيء يسبّب دماراً أكثر من التشبّث بحقيقة ينظر إليه بصفتها حقيقة نهائية ومطلقة. جرائم التاريخ كلّها هي نتاج تعصب ما. كل المجازر تم اقترافها باسم الأخلاق والفضيلة، باسم الديانة الصحيحة، باسم النزعة الوطنية المشروعة، باسم السياسة الملائمة والأيديولوجيا الصائبة، أي، في اختصار، باسم معركة ضد حقيقة الآخر».
ضمن هذا الأفق، يصبح السعي إلى الحوار بما هو الشكل الأعلى للعلاقات الإنسانية، أمراً جوهرياً. غير أن الإنسان/ الجماهير يشعر بالضياع إذا ما ارتضى الحوار. لذا فهو يفرض آراءه بالقوة ويلجأ إلى العنف، منطقه الوحيد.
لا يمكن إعادة الاعتبار إلى كلمة إنسانية إذا لم يخرج الإنسان من قطيع الجماهير الذي تحركه النوازع والغرائز واندفاعاتها العنيفة، وإذا لم ينضو في التجمعات المدنية القائمة على إرادة العيش المشترك واحترام الاختلاف. من المعروف أنّ كلمة حضارة تجد منبعها بالعربية في كلمة حضر، وتطالعنا في أوروبا في فكرة «سيفيس»، أي مواطن. وهل تستقيم الحضارة كحالة ثقافية واجتماعية بدون المواطنة، حقوقاً وواجبات؟ وهذا ما يحيلنا على مقولة الفيلسوف الألماني شوبنهاور الذي يعتبر أنّ «الكائن البشري هو، في العمق، حيوان متوحش ومرعب تم ترويضه وتدجينه فقط في ما اصطلح على تسميته الحضارة». والحضارة لا تلغي العنف لكنها تعمل على كبحه وتقدم اقتراحات أخرى أقلّ مأسوية للجنس البشري.
الشكل السياسي الذي شهد على إرادة العيش المشترك والذي يشير إليه أورتيغا إي غاسيت في كتابه هو الديموقراطية الليبيرالية. هذه الصيغة ذهبت أبعد ما يمكن في قبول الانفتاح على الآخر والتعامل معه. ووفّرت إمكانية العيش داخل حيّز واحد للذين لا يدينون بالمبادئ والمعتقدات والأفكار نفسها. يشكّل هذا التوجّه، بحسب المؤلف، حدثاً عظيم في التاريخ الإنساني، لأنه يتيح فرصة العيش تحت سماء واحدة للجميع، حتى للأعداء، وبدون أن يشعر أحد بأنه مهدد بالإقصاء والقتل أو التهجير.
أن تحكم مع المعارضة تمرين صعب ويتناقض مع نوازع النفس البشرية الطبيعية لدرجة يتساءل معها الفيلسوف الإسباني عما إذا كان بالإمكان الحفاظ على هذه النعمة على سطح كوكبنا، لا سيما أن عدد الدول التي تتبنى هذا النوع من الحكم ضئيل جداً ولا يفتأ يتضاءل. في معظم دول العالم هناك الكتلة الواحدة المتجانسة التي لا تقبل الاختلاف فتفرض قوانينها الثابتة وتمارس السلطة الشاملة المطلقة التي لا تفسح مجالاً لا للاختلاف ولا للمعارضة. لا تقبل أن تتعايش مع من يخالفها الرأي، بل هي تكره كل ما لا يشبهها حتى الموت.
بعض ما استشرفه أورتيغا إي غاسيت منذ ثمانين عاماً تم تأكيده في العقود القليلة الماضية عبر العلوم الإنسانية والعلوم الوضعية والتطبيقية وعلم البيولوجيا. فهو لاحظ كيف تتقدم الحضارات وتنقلب على نفسها بل وتنقض منجزاتها بما يشبه الانتحار الجماعي. المنجز، إذاً، مهدد باستمرار وليس معطى ثابتاً. لا ينكر المؤلّف واقع التقدم لكنه يصحح المفهوم القائل إنّ التقدم أمر أكيد ودائم. كان يعي ذلك من خلال الأسباب الظاهرة المتمثلة في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وأيضاً من خلال الجانب السيكولوجي العميق للنفس البشرية ولنوازعها الأشد غموضاً والتباساً. وإذ يقترب من هذا الحقل فهو لا يعزو نمو الحضارة وأفولها إلى صراع بين إيروس وتاناتوس، بين غريزة الحياة وغريزة التدمير والموت، كما فعل فرويد في كتابه «قلق في الحضارة».
مفهوم أورتيغا إي غاسيت يتناقض مع حتمية التاريخ. كلّ شيء ممكن في التاريخ والتاريخ مفتوح دائماً على كل الاحتمالات. ثنائية الفردي والجماعي، الشخصي والتاريخي، هي في الكون الكيان الوحيد الذي يتألف جوهره من الخطر، لأنه مصنوع من التغيّر الفجائي غير المتوقَّع ومن المأساة.
نظر الفيلسوف الإسباني، في تحليله لظاهرة الجماهير، إلى ماهية مزدوجة تجعلها شبيهة بوجهي جانوس في الأسطورة. وجهان لكائن واحد: وجه الانتصار والفوز ووجه الدمار والموت. هنا لا نقارب التاريخ فقط بل نذهب أيضاً أبعد من التاريخ، نحو ما يمكن تسميته ميتافيزيقا التاريخ، وهذا ما قد يساعد على فهم أعمق للإنسان ولسيرورة وجوده وتناقضاته.
أكفان الماضي
يقول أورتيغا إي غاسيت إنّ الثقافات القديمة تستتبع حملاً ثقيلاً يتألف من أنسجة جافة ومن رواسب سامة تربك الحياة، ويصبح الركون إليها من المظاهر المولّدة للعنف، لأنها تستمر بصفتها قواعد وقيماً متداولة. وبعد أن برهنت عن فقدانها الكامل لأي معنى، يظل ملايين البشر يتقيدون بها وبأحكامها، أي انهم يعيشون حياتهم بأكملها في ظل مؤسسات ميتة، يدافعون عنها ويموتون من أجلها وبسببها في آن واحد.
الثقافة التي تسجن نفسها في الماضي ولا تعطي الحرية الكاملة في التعاطي معه، نقداً وتحليلاً، هي ثقافة جامدة لا تتقدم. «المستقبل هو الذي ينبغي أن يحكم الماضي ومنه نتلقى الأوامر». هذا ما يشير إليه المؤلف، ويطرح، في الوقت نفسه، أسئلة جوهرية على مستقبل التقنية واستعمالاتها ونتائجها المحتملة. يستشهد بالفيلسوف سبنغلر ويراه متفائلاً في هذا المجال حين يقول إن مرحلة حضارية جديدة ستعقب الثقافة ألا وهي التقنية. يعتقد سبنغلر أن التقنية يمكنها أن تعيش وتستمر حتى ولو اختفى الاهتمام بالثقافة. بينما غاسيت يعتبر أن التقنية علم والعلم لا يستقيم بدون الاعتماد على مبادئ الثقافة غير النفعية. ويخلص إلى القول إن الاهتمام بالتقنية وحدها لا يضمن شيئاً ولا حتى التقدم.
الجماهير لا تعرف كيف تم التوصل إلى الإنجازات الكبرى. تفيد من المكاسب الحضارية وتجهل خصائصها ولا تتضامن مع مصير العلم. من يفيد من مكاسب الحضارة بدون الاهتمام بحمايتها يعرّض التقدم للخطر، لأن الحضارة لا يمكن أن تستمر هكذا وحدها، فهي ليست ناجزة وفطرية كالطبيعة. لحظة غفلة واحدة وينتهي كل شيء.
يسقط الإنسان اليوم لأنه لا يستطيع الاحتفاظ بمستوى التقدم الذي أنجزه. يسقط أيضاً حين يفصل بين التقنية وجميع مرافق الحياة الأخرى، بل حين يهمل تلك المرافق. وإذا كان الفيزيائيون والكيميائيون وعلماء البيولوجيا يقعون في مكان آخر غير الذي يقع فيه الفلاسفة، فإنّ الفلسفة لا تدافع عن نفسها ولا تحتاج إلى من يحميها. تحرص فقط على حماية الطابع غير النفعي لها والذي يحررها من التبعية للجماهير. تعرف أنها، كالشعر والمسرح والفنون الجميلة بعامّة، مهمّشة. وهي لا تعيش بالفعل إلاّ بمقدار ما تتساءل وتحاسب نفسها وتثير حولها الشكوك، وقد بدأت تشكك حتى في وجودها نفسه؟
عندما صدر كتاب أورتيغا إي غاسيت «تمرّد الجماهير»، لم تكن الشاشة الصغيرة قد غزت العالم بعد، ولم يكن رأس المال وضع يده على كل شيء في العالم بما في ذلك الثقافة، وهذا ما استشرفه أيضاً الفيلسوف الإسباني من خلال كتاب بعنوان «إزالة الصفة الإنسانية عن الفن»، وفي خلفياته أيضاً يرثي الحداثة التي نهضت على العقلانية والعلمانية والنزعة الإنسانية وقد أفرغت من محتواها واستنفدت وظائفها. وهو يحثّ على إعادة إنتاج الحداثة بصيغ جديدة تتلاءم وتحوّلات العالم وتساعد على الوقوف أمام المدّ الجماهيري الأعمى الذي لا يأخذ في الاعتبار الإنسان والبيئة والإبداع وقيمة الحياة على الأرض. وكم تبدو هذه الدعوة ملحّة اليوم مع ترسّخ قوانين الاستئثار والهيمنة التي ترعاها توجهات الدول العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية والصين.
كتب خوسيه أورتيغا إي غاسيت كتابه «تمرّد الجماهير» ليتحدث فيه عن عصره، عن واقع أوروبا بين الحربين العالميتين، فإذا به يتحدث عن عصرنا ويساعدنا على فهمه، ويضع أمامنا احتمالات الخروج من الكوارث المعلنة. 

 

 

عيسى مخلوف 

")السفير" 31/01/2011)