"لو كانت في يدي آلة موسيقيّة لعزفتُ عليها"

 

 

عيسى مخلوف شاعر وباحث وإعلامي لبناني يقيم في باريس. أصدر أخيراً عن دار "النهار" في بيروت مؤلفه “رسالة إلى الأختين” الذي لقي صدى جيداً لدى القراء، كما استقبلته الصحافة بحفاوة. هذا الحوار محاولة لإلقاء الضوء على تجربة الكتابة لديه:

 - 1 لقي كتابك الأخير "رسالة إلى الأختَين" خلال معرض بيروت للكتاب رواجاً وظلّ في عداد الكتب الأكثر مبيعاً حتى نهاية الشوط. هل لديك تفسير لذلك في الوقت الذي يتّجه القارئ إلى الكتب غير الثقافية؟

- قد تكون هناك أسباب عدّة للرواج الذي لاقاه الكتاب في معرض بيروت للكتاب، الأوّل هو حفل التوقيع الذي حشد عدداً كبيراً من الأصدقاء، والثاني هو الإعلان الباذِخ الذي خصّت به دار النشر الكتاب. وقد يكون هناك سبب ثالث: المقالات التي واكبت صدور الكتاب، وبدا أنّ أصحابها لفتتهم هذه التجربة. وربّما جاء رواج الكتاب أيضاً، من حيث المبيع، من باب المصادفة. لا نطرح هذه التكهّنات كلّها إلاّ لأنّ الكتاب في العالم العربي غير مرغوب فيه بصورة عامّة؟ وكيف لا نفاجأ عندما نلمح كتاباً لا يولد ميتاً؟ فمن المعروف أنّ الكتب الأكثر مبيعاً في العالم العربي هي كتب الدين والأبراج والطبخ لا الكتب التي تحمل همّاً جمالياً ومعرفياً. الكتاب يتيم في العالم العربي حيث نسبة القراءة هي من بين الأكثر تدنّياً في العالم. والحال هذه، يصبح الكاتب أشبه بالمغامِر المتهوِّر. ولا يعود السبب في ذلك فقط إلى نسبة الأمية المرتفعة عندنا، وقد أشارت آخر الإحصاءات الصادرة عن إحدى المؤسّسات الإقليميّة الحكوميّة إلى سبعين مليون أمّي، بل أيضاً إلى غياب الحاجة إلى القراءة حتّى عند المتعلّمين أنفسهم، وهذه مسألة أفدح. أي أنّنا نعيش، مجتمعات وشعوباً، في غياب القراءة، أي في غياب واحدة من أبرز وسائل المعرفة. وكيف يصحّ أنّ كاتباً مثل نجيب محفوظ الحائز على "جائزة نوبل للآداب" يعاني كتابه ويتعذّب قبل الوصول إلى ثلاثة آلاف قارئ فقط في حين يُقرأ أدباء نوبل بالملايين، حتّى في بعض دول العالم الثالث ومنها أميركا اللاتينيّة؟

العالم العربي لا يقرأ، ولذلك فأنا لا أصدّق معنى أيّ رواج لأيّ كتاب كان، ومنها كتابي في معرض بيروت الأخير للكتاب. أكثر من ذلك، أشعر أنّ الكتب لو تمّ وضعها في شوارع المدن العربيّة ومنحها مجّاناً لمن يريد، فإنّ أحداً لن يقترب منها. أحداً لن يقترب من المعرّي وفيرجيل ودانته وثرفانتس وكالديرون وبورخس، من رامبو وريلكه وهولدرلين، من كتب التاريخ والفلسفة ومن الكتُب الفكريّة والعلميّة غير الموجودة عندنا أصلاً، وإن وُجِدت فبلغة عربيّة تتعذّر قراءتها. وأتساءل دائماً عندما يجري الحديث عن المليون نسخة من "كتاب في جريدة" إلى أين تنتهي كلّ مواعين الورق التي تمّ استعمالها لطباعة تلك الكتب!

 - 2 نقف في الكتاب إزاء كتابة مختلفة أقرب إلى النص المفتوح. وفي الوقت ذاته يجد القارئ نفسه أمام رحلة ذات نظرة خاصة تجاه الفن والموسيقى والشعر وحتى الطبيعة. هل لك أن تضيء هذه النزعة؟

-"رسالة إلى الأختَين" كتابة تنفتح بل تنهل من الفنّ والموسيقى والشعر والفلسفة والفكر، وهي مأخوذة بهذه المكوّنات والعناصر التي تجعل من الحياة أكثر قابليّة للعيش. الإيقاع جزء أساسي من هذه الكتابة التي تمعن في الإصغاء إلى الطبيعة التي أشرتَ إليها أنتَ أيضاً، ولا تخفي انبهارها بها، لكنّها تدرك في قرار ذاتها أنّ وراء السحر الظاهر للطبيعة شيئاً من الإرهاب. لا أفكّر فقط في روعة البحار التي خرجت منها أمواج تسونامي، ولا في ذلك البركان الذي احتضن مرّة واحدة وإلى الأبد مدينة بومبيي الإيطاليّة، وإنّما أيضاً في تلك المنظومة المركّبة والمعقّدة التي تجعل الكائنات تتآكل في ما بينها ويفترس واحدها الآخر. تموت هي وينتصر النَّسل. السرعوفة تلتهم رأس الذكَر الذي يضاجعها لحظة ينتهي من إخصابها. تقتله فيما هي تقبّله. وهناك جراثيم تقتات من سُرُفات ولا تحيا إلاّ بموتها. إنّها دورة الطبيعة الغذائيّة، ونحن جزء منها. نقتل لنأكل، وثمّة مَن في الخفاء يقتلنا ويأكلنا.

 - 3يسيطر الجانب الذاتي على الكتاب ومع هذا لقي رواجاً كيف تفسّر ذلك. وما هي رؤيتك لعلاقة الخارج والداخل في الكتابة؟

- أحبّ أن أوضّح أوّلاً أنّ كتاب "رسالة إلى الأختَين" ليس سيرة ذاتيّة، لكنّه يفيد من تجربتي الشخصيّة إلى أقصى الحدود. الأنا المتماهية مع الآخر هنا هي الأنا الإنسانيّة، بإيجابيّاتها وسلبيّاتها. أو أنّها تطمح، على الأقلّ، أن تكون كذلك. الكتاب لا يتعاطى مع الأفكار السائدة كمسلّمات، وليس هناك من أحكام مبرمة يطلقها. هناك، مثلاً، رصد لثنائيّة الحبّ والحقد، الخيانة والوفاء، القتل والتسامح، بدون أن يتوخّى الكتاب إجراء محاكمات أو إسداء نصائح ووعظ أخلاقي. عندما سُئلت الكاتبة أغاتا كريستي عن أبطال قصصها المجرمين، أجابت أنّها تستلهمهم من أصدقائها ومن المحيطين بها...

في معظم كتاباتي، أسعى إلى الاقتراب من فهم هذا الإنسان الغريب، المدهش والمرعب في آن واحد. هذا الإنسان الذي هو نحن. تناولتُ ذلك عبر الأدب من خلال "عين السراب" و"رسالة إلى الأختَين"، مثلما سبق لي أن تناولتُ، عبر البحث المنهجي العلمي، الحرب في لبنان وكانت موضوعاً لأطروحتي الجامعيّة، وقد صدرت في باريس تحت عنوان "بيروت أو الافتتان بالموت". في هذا البحث لم أطرح علامة استفهام على العلاقة بين الطوائف، بين المسلمين والمسيحيين، وُقود تلك الحرب، بل كان السؤال الأساسي يتناول جوهر الإنسان وجوهر البشريّة ذاتها. من هنا جاءت قراءتي للحرب اللبنانية كمحاولة لفهم النوازع التي تدفع الإنسان إلى العنف والتقاتل والقتل. ولذلك وضعتُ الحرب في سياقها الإنساني العام وليس في إطارها اللبناني فحسب.

  - 4 المكان محدّد وهو باريس، لكن المرأة متخيّلة. لماذا؟

- صحيح أنّ المكان المعلَن في الكتاب هو باريس، أي المكان الذي يتحرّك فيه الجسد. لكن في هذه الرحلة الأدبيّة تبطل الفواصل بين المدن والقارّات المختلفة. من لبنان إلى فرنسا ومن فرنسا إلى كانايما داخل غابة الأمازون على الحدود الفنزويلية- البرازيليّة، مروراً بالبندقيّة وروما وفلورنسا... ولئن بدأت الرحلة في باريس فهي لا تتوقّف عندها، كما أنّها لا تتوقّف عند زمن محدّد. يبقى أنّ السفر الأهمّ هو الذي يجري داخل الذات. وهل يمكن أن نتبيّن بعض ملامح هذه الذات بدون احتكاكها بعين الآخر؟

من هنا فالمرأة الموصوفة في الكتاب لها جذور في الواقع، في الكتب وفي الأحلام، وهي مجموعة نساء على السواء. أمّا المرأة التي أكتب لها الرسالة فليست امرأة متخيّلة كما ظنّ الكثيرون ممّن قرأوا الكتاب وكتبوا حوله. إنّها امرأة من لحم ودم. وهي من المكتنفات بالأسرار لفرط ما يَسطعنَ وضوحاً، ومن اللواتي يتمنّى المرء لو كان زوس ليتساقط فوقهنّ مطراً من ذهب... وتليق بهنّ عبارة إبن عربي: "المرأة محلّ الانفعال". ألا ترى معي كم هي جميلة هذه العبارة عن المرأة. وكم هو نادر الكائن الذي أوحى بهذا الكلام.

بعيدة هي تلك المرأة. كنجمة بعيدة في السماء لكنّها حاضرة. يحميها بُعدها عن نوافل الحياة اليوميّة، ويحمي دهشتها. جاءت ومضت، وبقيتُ أكتب لها كالكاتب الفرنسي جان بولان الذي ظلّ يراسل صديقه الأقرب حتّى بعد وفاة هذا الصديق، لأنّه خشي أن يتوقّف عن الكتابة لو هو توقّف عن مراسلته. الرسالة هنا هي الكتابة بما هي تَوق إلى التواصل مع الآخر. إلى الإحساس بأنّ ثمّة من يسمع النداء، لا كما يقول رامبو: "لا ينفع النداء، إنّهم لا محالة غارقون". ربّما لهذا الإحساس بعبثيّة الوصول والتواصُل أقفل رامبو باب الشعر وتوقّف عن الكتابة بعد أن وجد أنّ الصمت أكثر بلاغة وأدهى.

ثمّة كتّاب لا يكتبون ليصبحوا كتّاباً، بل ليبقوا على اتصال بما ضاع وانقطع منذ بداية العالم سعياً وراء التقاط ما يتعذّر التقاطه. ثمّة كتّاب يكتبون حتى لا يموتوا. ليس الموت بمعنى الغياب والفناء، بل الموت وهم على قيد الحياة، بل موت الحياة ذاتها.

 - 5 العنوان هو "رسالة إلى الأختين". لكن العمل يعني امرأة واحدة. هل في الكتابة تعويض عن بلوغ حقيقة ما؟

- حتّى الفصل التاسع عشر من الكتاب تتوجّه الرسالة إلى امرأة واحدة. إلى أخت واحدة لا إلى أختَين. وفجأة نكتشف الأخت الثانية ونكتشف أنّها كانت تشارك أختها قراءة الرسائل وربّما صياغة الأجوبة. لكن هذه هي الحكاية، والحكاية هنا عذر للذهاب أبعد منها. يلفت الكتاب أيضاً إلى أنّ الوقت الذي يستغرقه الحبّ أقلّ من الوقت الذي تستغرقه كتابة الرسالة. ولئن كان النصّ في ظاهره رسالة، فهو نصّ أدبي يتحدّث، كما ذكرنا، عن العلاقة بالآخر وبالطبيعة والوقت العابر وبالأحاسيس والنوازع المختلفة.

 - 6 هناك جهد ملحوظ في العمل على اللغة، بين لغة السرد ولغة الشعر، وهذا ما ميّز كتابك السابق أيضاً. هل يمكن أن تشرك القارئ في أسرار الكتابة؟

- أنت اختصرت الجواب بسؤالك: "العمل على اللغة"، هذه الأداة الصعبة التي إن لم تنغمس في حبر الذات والتجربة، تبقى مجرّد أصوات مشوّشة ومبهمة، ولا تجدي معها الفصاحة والبلاغة والبيان بل تزيدها خواء. ولستُ أدري كيف يعزف على اللغة من لا يمتلك كمنجة في قلبه!

في الكتابة، أسعى أن أكون خارج الشعر والنثر، ولو كانت في يدي آلة موسيقيّة لعزفتُ عليها...

نحن نعيش في عالم متغيِّر. وأظنّ أنّ اللغة القديمة ما عاد بإمكانها أن تقول العالم الذي نعيشه. كيف نكتب الشعر والنثر وكيف نمارس جميع أنواع الفنون التي يلعبُ فيه الحدس الإبداعي دوراً مهمّاً بدون الالتفات إلى ما فعله ويفعله الإنترنت والتلفزيون، وبدون التنبّه إلى الإنجازات العلميّة الباهرة. لا أتوقّف هنا عند كيفيّة استعمال هذه الإنجازات، وتوظيفها في الحرب أو في السلم، بل أشير إلى قدرتها على الكشف وعلى تجسيد الرؤى. يعني إعطاء الحدس شكلاً وجسداً.

آلة التصوير الفوتوغرافي التي تمّ اكتشافُها أواخر القرن التاسع عشر تركت أثرها على عين الفنّان التشكيلي ورؤيته للواقع ونَقل الواقع في اللوحة. لماذا لا يحدث هذا التأثير على مستوى اللغة؟ رامبو تحدّث عن ألوان الأحرف. الآلة تظهر لنا اليوم شكل هذه الأحرف وشكلَ الذبذبات الصوتية، بل تذهب أبعد من ذلك وتجعلنا نرى ولادةَ النجوم وموتَها. وتُدخلنا إلى طبيعة الخلايا والجينات، وتعرف ما في داخل الأرحام، قبل الوضع...

أمام التحوّلات الكبرى التي يعيشها عصرنا وأمام الكشوف العلميّة، ألا ينبغي أن نطرح السؤال مجدّداً على نظرتنا إلى الإبداع وعلى أساليبنا وأدواتنا التعبيريّة، وفي مقدّمتها اللغة. هذه اللغة التي تحتاج منّا إلى إعادة نظر كاملة وتحتاج إلى تطويع كامل لتكون قادرة على نقل حركة وجودنا، فكراً وخيالاً وجسداً.

أحياناً عندما أفتح أحد القواميس العربيّة أكتشف معنى أن تسافر، وأنتَ في باريس، من زمن إلى زمن آخر بلمح البصر. من القرن الحادي والعشرين إلى القرون الوسطى. أمس، فتحتُ المُنجد الأبجدي على فعل "طَمَحَ" وقرأتُ حرفياً التفسير التالي: "طَمَحَ طَمحاً وطُموحاً إلى الشيء. تاقَ إليهِ. وطمحَ طِماحاً وطموحاً طمحتِ المرأةُ على زوجها أي جمَحَت. وطمحتِ الدابّةُ أي نَشزَت وجمَحت". نعم ورد هذا حرفياً: المرأة بجوار الدابّة. المرأة والدابّة على السواء. وهذا المثل يَصدر عن ذِهنيّة، بل عن "ثقافة" لا تزال تجد صعوبة في التمييز بين المرأة والدابّة...

 - 7 يسير هذا الكتاب ضمن خطّ مسار "عين السراب"، أي الكتاب السابق. هل تعتقد بوجود مشروع كتابة طويل الأجل لدى الكاتب؟

- صحيح، يأتي كتاب "رسالة إلى الأختَين" كامتداد لتجربة "عين السراب"، وهو ينطلق بالفعل من الأسئلة الجماليّة والإنسانيّة ذاتها. هذه الكتابة بدأت منذ أكثر من عشر سنوات، أي بعد كتاب "عزلة الذهَب" الذي صدر في بيروت عام 1992... في السنوات الأخيرة، طالما تساءلتُ: هل يستحقّ نتاج إبداعي ما، مهما كان نوعه، أن يمتلك حياة بأكملها خصوصاً في الزمن الراهن؟ وهل يثنينا طرح هذا السؤال عن الكتابة؟ وكيف يمكن أن نجيب عنه عندما تتقلّص المسافة بين فعل الكتابة وفعل الحياة؟

أمّا عن "مشروع الكتابة" الذي تتحدّث عنه فيحضرني قول الشاعر الإسباني أنطونيو ماتشادو: "أيّها السائر ما من طريق/ تنوجد الطريق بمقدار ما نسير".

 

أجرى الحوار بشير البكر

)صحيفة "الخليج"، 11 شباط/ فبراير 2005)