"تفاحة الفردوس" لعيسى مخلوف

الغواية كمعرفة إنسانية خلاّقة

 

لقارئ "تفاحة الفردوس"، الصادر لدى "المركز الثقافي العربي"، أن يتابع ما يثيره الكاتب والباحث والشاعر عيسى مخلوف من أسئلة في الفضاء العربي – الفرنكوفوني -العالمي، الذي يشكّل حدود حراكه. من هنا، في وسعنا أن نفهم الطابع الشمولي الطاغي على الكتاب، والموضوعات الكثيرة التي يجمع بينها سؤال هو فانوس ديوجين الذي يضيء لمخلوف آثار خطوات عربية على درب الثقافة العالمية الحالية.

وإذا كان السؤال -الأم يدور حول مفاهيم الحداثة وإشكالياتها الفكرية، وما أنتجه الواقع العربي من فهم لها، فإن هذا السؤال يتكاثر أفقياً وعمودياً، ناشراً نسله في كل الميادين، مستنطقاً الماضي والحاضر والمستقبل عن الفن وأشكال التعبير الأخرى بعد الشعر ودور المثقّف في كل مكان من لبنان والعالم العربي، إلى فرنسا، وحتى أميركا اللاتينية.

هذا السؤال التحريضي لا ينتظر إجابة أبعد من عنوان الكتاب، لأن مخلوف غير المنطلق من خلفية إيديولوجية تقول بتفوق وهمي، يفنّد بكثير من المنطق والإسنادات، لا سيما في الجزء الأول من الكتاب، العديد من الأطروحات، معتبراً "أننا نحتاج إلى ولادة أخرى، إلى أبوين آخرين بعيداً عن ذهنية التكفير والتخوين. نحتاج إلى شجرة لا تخفي بين أغصانها تفاحة، وتفاحة لا تخفي بذور الخديعة والشر والموت. نحتاج إلى حواء قادرة أن تقول بدون رهبة أو تردد: بيدي الاثنتين أطعمك التفاحة ولا خوف عليك". تلك الشجرة، شجرة المعرفة، التي تحرر الإنسان من الخوف ومن الجهل، وتالياً من العنف، من أجل بداية إنسانية جديدة. هل تكون هذه الولادة لحظة اصطدام الطائرتين ببرجي مبنى التجارة العالمي في 11 أيلول، التي يتخذها الكاتب منطلقاً لسلسة مقالاته ودراساته؟ يأسف مخلوف لأن هذا الاصطدام لم يحدث لأبراج الثقافة الراكدة والعاجزة عن مواكبة التطوّرات في عالم يلهث برئة واحدة. لذلك يطلق صرخته في مساهمة تحمل عنوان "أين سيرسو العالم بعد الانفجار الأميركي؟" ضمن القسم الأول في الكتاب الذي يعنى بتغيير المعنى الثقافي في العالم، منطلقاً من تساؤلات حول الثقافة عموماً، والثقافة العربية بشكل خاص، وذلك تحت عنوان "عندما تنخفض شمس الثقافة". في حين يتناول الجزء الثاني، "وجوه"، تجارب بعض أعلام الثقافة شرقاً وغرباً من رامبو إلى جبران خليل جبران وأسادور، إلى الإضاءة على ترجمة "ألف ليلة وليلة" للراحل جمال الدين بن شيخ وأندره ميكال ضمن سلسلة "لا بلياد"، إضافة إلى ترجمة متقنة لمسرحية "مهاجر بريسبان" لجورج شحادة. أما القسم الثالث والأخير، "القارة الجديدة"، فيلتفت إلى ملامح الأدب في أميركا اللاتينية، ومن ضمنها الملمح العربي البعيد مع أسماء عالمية كأوكتافيو باث، وغبريال غارثيا ماركيز، وبابلو نيرودا، وسواهم.

وإذ يعيد مخلوف إنتاج بحوثه المنشورة في جريدة "النهار" وملحقها الثقافي، إلى دراسات ومحاضرات ألقاها في مناسبات مختلفة، فإن القراءة الثانية لهذه الأعمال تكتسب أبعاداً جديدة في سياق يدلّنا على نسق تفكير متكامل. هكذا يتحدّث الكاتب، في مقال "إله الابتذال يحكم قبضته على العالم"، عن تجربة تلفزيون الواقع التي انطلقت في هولندا ثم فرنسا، ليتساءل: "أين هي ثقافة النخب الآن؟ الثقافة التي صنعت حتى النصف الأول من القرن العشرين، أو أكثر بقليل حتى الستينات منه، مجد الثقافات والحضارات الإنسانية عبر العصور؟"، خاتماً بشهادة للمفكّر الألماني أرنست جونغر: "لا أعرف هل الأرض التي نعيش فوقها تمضي فعلاً إلى حتفها أم أنها كالحيّة تغيّر جلدها فحسب؟"، مستكملاً السؤال نفسه في مقال آخر عن "تحديات الثقافة في الغرب"، حيث يتحدّث عن عملية "تصنيع الكائن" السائرة جنباً إلى جنب مع التطوّر التقني، مرتكزاً على عبارة "الاستعمار الثاني" التي أطلقها عالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران في وصفه لعملية تصنيع الصور والأحلام ونجوم الثقافة التي تضطلع بها وسائل الإعلام: "عندما تنخفض شمس الثقافة عند مستوى الأفق، تصبح للأقزام - حتى للأقزام - ظلال كبيرة" (كارل كراوس).

بعض الأسئلة المطروحة تبدو شديدة الراهنية والإلحاح، ولا تعوز المؤلف جرأة توجيه الاتهام إلى المثقفين أنفسهم محمّلاً إياهم مسؤولية تردّي الواقع الثقافي في العالم العربي، واصفاً ما يحدث كالآتي: "ننتصر لفكرة ونتخلى عنها غداً، ولا نحاسب أنفسنا ولا يحاسبنا أحد"، ناسباً إلى بعض المثقفين -النجوم جرم الاعتداء اليومي على الثقافة. ويتجلى غضب مخلوف في معرض حديثه عن المنع الديني لبعض الأعمال الأدبية، حين يعتبر أن الرد على التكفير جاء مليئاً بالخوف والالتباس كردّ "المتهم الذي يريد أن يبرر موقفه أمام قراءة تحريمية للأدب والانتاجات الابداعية كلها". طبعاً، نقتنع يوماً بعد يوم بصحة هذا الطرح، وخصوصاً بعد اشتراط نجيب محفوظ موافقة الأزهر على إعادة نشر روايته الشهيرة "أولاد حارتنا".

لكن أطروحات مخلوف تتخذ بعداً سجالياً، ولاسيما في دراسته عن رامبو، حيث يدحض ما ورد في دراسة لأدونيس، "رامبو -مشرقياً، صوفياً"، حول صوفية رامبو، معتبراً أن انتقاد رامبو، أو حتى نقضه الثقافة الغربية، لا يكفيان ليكون خارجها، متسائلاً بعد ذلك: "هل أن نيتشه الذي قتل الله خرج من الثقافة الغربية أم من أحد أنساقها؟"، ومعتبراً أن نقد البنى التي قام عليها الغرب لا يعدّ خروجاً على الغرب، بل تجاوزاً له من داخله. كي يخلص إلى أن الصوفي بوصلته واضحة، هي الله الذي يمثّل "الحياة الحقيقية"، أما رامبو فـ"الحياة الحقيقية غائبة" بالنسبة إليه.

في عالم يبدو كأنه "من مخلّفات الماضي السحيق"، يضع عيسى مخلوف جهد سنوات من التفكير في "تفاحة الفردوس" هذه، منتصراً للغواية حين تستحيل معرفةً، وللمعرفة منتظرةً طائراتها.

 

زينب عساف

")النهار"، 3 أيار/ مايو 2006(