!تلك الرسائل... إلى الأختين

 

 

 

 

التقيت عيسى مخلوف مرراً في باريس.

فزيارتي باريس، مذ تعرفت إليه، لا تكتمل إلاّ بلقائه.

هناك أشخاص تلتقيهم فتشعر أنك تعرفهم منذ زمن بعيد.

تلتقيهم بدفع داخلي يصعب تحديده، ولكنه تلقائي، سلس، لا عنت فيه ولا مشقة.

قد ينطبق علي ذلك الحديث النبوي القائل: الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف .

أعرف، أيضاً، أن للنفوس أبواباً لا تفتح لأي طارق.

فالنفس التي تفتح أبوابها في وجهك قد تغلقها في وجه غيرك.

علاقتي بعيسى مخلوف من هذا الطراز.

كل اللقاءات التي تلت اللقاء الأول كانت امتداداً طبيعياً له، كأن لا انقطاع ولا فواصل بين اللقاء الأول واللقاء الأخير.

الشخص الوحيد الذي بدأت علاقتي به جفاءً وتحولت صافية على مرّ الأيام وتغير الأمكنة هو غسان زقطان.

مع غسان أيضاً أستطيع أن أواصل حديثاً مرَّ عليه زمن وتبدلت أمكنة وكأنه حدث البارحة.

هل هذا بث في غير محله؟

قد يكون كذلك.

من بين لقاءاتي بعيسى مخلوف هناك لقاء حصل في غرناطة، حيث كنا مدعوين (هو وأنا) إلى مؤتمر ثقافي عربي واسع المقاصد والطموح ولكنه محدود الثمرات.

كنا نحن الاثنين بالقدر نفسه من التبرم حيال العناوين الكبيرة، الفضفاضة التي انعقد المؤتمر في ظلها، وبالانزعاج نفسه من الوجوه المستهلكة التي قد تكون جزءاً من تأزم الثقافة العربية لا من انفراجها.

وككل مؤتمر عربي كانت حواشيه وكواليسه أهم من منبره وردهاته.

كأن قدر الاجتماع العربي هو حاشيته لا متنه، ولقاء أشخاصه لا خطابه.

ورغم أن المؤتمر كان يعقد في قصر الحمراء وعلى تخوم الذكري الخمسمئة لسقوط غرناطة، فان قلة من المشاركين شعرت أنها تمشي في الممرات نفسها التي مشى فيها أبو عبد الله الصغير، وأقل القليل، من حفل، وهو يعبر باب البيرة، بتلك اللحظة الوجودية الثقيلة التي سلم فيها أبو عبد الله مفتاح مدينته إلى قاهريه لتحل عليه، إلى الأبد، لعنة تاريخ لا يرحم.

لا أدري من فكّر بذلك من الأكاديميين والمفكرين العرب الذين تعالت خطاباتهم في إحدى القاعات القريبة من جنة العريف .

ولكننا، عيسى وأنا، فكرنا بذلك.

كنا نمشي في قصر الحمراء كالمسرنمين. نكاد نسمع تلك الزفرات الثقيلة التي أطلقتها صدور المرتحلين عن منازل الطفولة ومرابع الذكريات.

وفي ليلة بلغ بنا الوجد أشده ذهبنا إلي حي البيازين ودخلنا بيوتاً وحانات صغيرة ونحن نترنح من الشوق إلى شيء ضائع. شيء لا نعرفه. لم تكن بالتأكيد تلك الأمجاد التليدة التي لم تكف كتب التاريخ العربي عن تلقينها، بإنشاء متماسك، صلف، للناشئة.

لا شيء من ذلك.

بالأحرى كنا في منتهي الخفة.

كان هناك حنين غامض... وخفي... يهزنا هزاً.

أتذكر عيسى، المسيحي، وهو يتلو بلا توقف، تقريباً، هذه الآية من سورة الانعام : ولما جنَّ عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي، فلما أفل قال لا أحبُّ الآفلين. إنها آية تصف حيرة إبراهيم وهو يبحث عن علاقة أكيدة للربوبة.

ستنطبع صورة عيسى مخلوف وهو يقرأ هذه الآية فيما يكاد، مثل متصوف، يطير من الخفة على تلة مقابلة لرابية الحمراء طويلاً في ذهني.. وسأحرّف مطلع الآية، من دون أن يدري، لتكون عنواناً لعمل شعري لي بعنوان كلما رأى علامة...

هل هناك مناسبة لتذكر عيسى مخلوف؟

نعم.

إنه كتابه الجديد "رسالة إلى الأختين"، الصادر، حديثاً، عن دار "النهار" في بيروت.

عرفت عيسى مخلوف شاعراً منذ عزلة الذهب (1992) وكاتباً ومترجماً منذ "الأحلام المشرقية" (1996)، ومازجاً الشعر والنثر في "عين السراب" (2000)، ولكنني أظن أن أياً من هذه العلامات في مدونته الكتابية لا يشبهه قدر ما يشبهه "رسالة إلى الأختين".

فهنا نجد عيسى مخلوف الشاعر والناثر والمثقف، واسع المعرفة، والمتأمل في مصائر الحب والرغبة والمُلك والفقدان. كل هذا محتشد، من دون تزاحم، في دفتي كتاب يقطر حباً وألماً وبوحاً خافتاً ورؤيا.

ليس هذا الكتاب ديوان شعر، ولا هو رواية، ولا كتاب رسائل (كما يوحي العنوان)، بل هو عمل أدبي يصهر هذه الأجناس، بطواعية وتنافذ حميمي، في سبيكة واحدة، لتعود الأجناس، كلها، إلى أصل واحد.

ولعلها أن تكون المرة الأولى التي يترك فيها هذا الشاعر والكاتب المشغول بسؤال الثقافة والحياة في العالم العربي، نفسه تبوح بمكنونها الداخلي.

فنقف على الرغبات واللواعج، الوقائع والأحلام التي تهتك قناع اللغة، لتطل عارية، حيناً، ومظللة بحكايات غيره، حيناً آخر.

لكن حكايات الآخرين التي يسردها الشاعر والكاتب، هنا، ليست سوى امتداد لحكاية الذات.

مع "رسالة إلى الأختين" نلاحظ أن شعراء جيل عيسى مخلوف غادروا، في عمل أو أكثر، القصيدة المتواضع على رسمها وفحواها، ليصلوا إلى الشعر من طريق أخرى... أو ربما ليوسعوا مدى القصيدة.

فهل كان مخلوف يريد الوصول، في هذا الكتاب النثري إلي شيء آخر غير الشعر، وهو الذي عرف من قبل الطريق إليه جيداً؟

أشك في ذلك.

فالشعر ظل، حتى في حِمي النثر، هو الغاية التي تسعي إليها رسائل هذا الكتاب.

الشعر،

ذلك الذي لا زيّ واحد له،

المتمرد الذي يكسر قيوده ويمشي خبباً إلى حريته.

 

أمجد ناصر

")القدس العربي"، 21 كانون الثاني/ يناير 2005(