عيسى مخلوف
" كنهر يجرحه العبور... "

 

جامع أشيائه، عيسى مخلوف، في ديوانه الثاني "تماثيل لوضح النهار".

وهو جامع أشياء ذاكرته، وذاكرة أرضه، وذاكرة شعبه، وذاكرة حروب شعبه، وذاكرة هجراته.

وجامع وقوفه أمام الأسرار، وعبوره الوقت ودورانه المضي بين اللحظة وسقوطها، وبين الليل والفجر، وبين الجسد... وجرح تيريز دافيلا.

وجامعُ أشيائه وجد المزيج السحري: المزيج الشعري.

هذا المزيج النادر الذي تختبئ فيه سراً الرؤية واللغة.

وهذا المزيج الذي لا تُعطى نعمته لغير العرافين:

"ثمة أنقاض بين أفق وآخر/ تُشعل نارها/ لحظة يستيقظ الرماد بلا شاهد/ ويفوح عطر رغبتك على الأعمار/ أنت الأكثر إشعاعاً/ كيف يكون خلاصك من الواحد؟".

وهذا المزيج الذي يمد الذات -في المأساة -على الجماعة كلّها في صورة واحدة:

"يهنئني الملك كلّما عدت إلى عشيرتي ميتاً".

والذي يمد الذات -في المأساة أيضاً -على أشياء الأرض في صورة واحدة:

"كنهر يجرحه العبور".

"كنجمة وحيدة تقود الصيف/ إلى المهاوي".

والذي يختصر المكان (مكان الولادة والموت)، وشجرة العنف التي أصبحت هي شجرة العمر، في بريق خاطف -ما أجمل البريق الذي يلخص-:

"تنزاح إهدن عن ليلها. كلّ ما سوف يأتي مرميّ بسهم".

ثم أي احتفال هو الاحتفال بالجسد، الذي تهتز في حضوره الطاغي وتتداخل العناصر، عناصر الإدراك وعناصر الطبيعة:

"الجسد المضيء فوق أسرّة بيضاء/ محمولة إلى الأنهر/ أيها الجميل الطالع من رغباته/ من يمزج المتغيرات/ بين شفتيك/ والنهد المولود من شفتيك/ بين انفجار الأشجار/ حين تخونها الذاكرة/ وأعضائك في عتمة شهواتها..."

هو نفسه الجسد -الملجأ ضد هاجس الاندثار، والجسد -الحاضر الأخير أمام القفز في العدم:

"من كثرة احتكاكنا صمتاً، نشتعل في أمكنتنا. بدل أن نموت يُحدّق أحدنا إلى الآخر".

لقد صنع عيسى مخلوف مزيجه ودخل إلى رؤيته ولمس سره.

أنطوان الدويهي

)مجلة المستقبل العدد 421 في 16 آذار/ مارس 1985(