"قدّام باب السفارة..."

 

لنضال الأشقر وعيسى مخلوف البروفة على نار حامية والعرض سيفاجئ الجميع

 

 

ديد نضال الأشقر عنوان حار على تماس شرس مع الوضع النفسي للبنان، وبناء درامي مفاجئ جذاب بسلوكه طريق الكوميديا الموسيقية الغنائية بالأدوات البدائية في المتناول: جهة العنوان ومعه المحتوى، هو اختار المواجهة الصريحة مع موجات "الهجرة" التي تدفع بأهل البلد إلى الارتماء منكسرين عند عتبات السفارات وراء "فيزا"، يكادون يستجدونها شحادين.

أما جهة الشكل ومعه النبض الإخراجي، فهو بنى منصته على إيقاع موسيقي غنائي إيمائي راقص بالمادة المسرحية. أربعة عشر مؤدياً من أربع فتيات وعشرة شبان، يتوزعون من دون أن يلتزم كل منهم شخصية ثابتة، حوارات نص تتوازن فيه جميع حالات القول والفعل. جديد نضال الاشقر الذي يدين في كتابته إلى تعاونها الوثيق مع الشاعر عيسى مخلوف، يرتكز على فكرة تقول نضال الأشقر "إنها ساكنتها طويلاً، والظروف الراهنة عملت في جعلها موضع جدال ومعالجة أمام الهجرات المتلاحقة للشباب قبل البقية".

تربط نضال الأشقر رغبتها في إنجاز عرض من طينة قد تفاجئ أكثر من متابع لأعمالها في "مسرح المدينة" في كليمنصو، ومن ثم في الحمراء، لمناسبة مرور خمسة عشر عاماً على إطلاق "مركز مسرح المدينة الثقافي"، واتخاذها قراراً بافتتاح موسم 2008 - 2009 بعمل تفوح منه النبرة الاحتفالية إنما مع الحفاظ على العصب الفكري والنكهة الفرجوية المؤسلبة على تقشّف، الملازمَين لأي عمل صمّمته مخرجة من رعيل المسرحيين التاريخيين في لبنان. وهي ترى إلى موضوع "الهجرة" في شكله الحالي انه داء كورم خبيث أصاب بلداً "صار فبركة حروب"، كما انه "صار ساحة حرب للدني كلها" حتى صار "السكان البرّا ثلاث مرات أكثر من الجوّا". وهي ترى في الوقت عينه إلى نوع الكوميديا الغنائية، والنوع شائع أليف قريب في لبنان، انه الأفضل نظراً إلى الظرف الذي يوظَّف فيه، الميلاد الخامس عشر لـ"مسرح المدينة".

ليأتي الكلام واضحاً، أدل على أني تابعت عرض "قدّام باب السفارة الليل كان طويل" أمام منصة في حال قصوى من العري. أي على العظم كما يقال. على منصة خام في حال انتظار غلافها السينوغرافي لترتدي حضورها الدرامي. لهذا العرض دور "البروفه"، وهو مخصص بحسب المجريات أمامي لرفع درجة امتلاك المؤدين لفضاء المكان المحكوم عليهم عدم مغادرته. تم اجتماع هؤلاء بالمصادفة، جاؤوا إلى السفارة من اجل الحصول على فيزا بعدما قرروا الهجرة فوجدوا أنفسهم محاصرين في هذا الفضاء الضائع بين باب السفارة المقفل وشوارع المدينة المشتعلة فجأة بنار المقاتلين. أحسب عدد المؤدين على المنصة، أنهم أربعة عشر بينهم أربع فتيات. الجميع من الشباب. الجميع يرتدون اللباس العادي المريح، خلال التمارين. من حين إلى آخر تأخذ البروفة الطابع المعبّر للكوميديا الغنائية، في الأماكن المركزة خصوصاً على محتوى الحوار أو طراوة الغناء أو الإيقاع المحمّى للأبدان، وذلك كلما التصق المؤدون على نحو حميم في تلوين الشخصيات الموكل إليهم أمر تقمّصها بالخيبات والأحلام.

الهجرة يأس يحجبه أمل ما. أفتش بالعين عن نضال الأشقر فأجدها منتصبة بقامة كأنها استعادت العشرين من عمرها في الصفوف الأمامية للمسرح بعدما غادرت قفزاً منصة الإخراج المنصوبة وسط القاعة: حيث هي، وكما تتصرف، تظنها قائداً لاوركسترا من أربعة عشر مؤدياً وبأجسادهم طبعاً. تذكرت فجأة منظراً شبيهاً، وبجمال ما أراه، للمخرج ريمون جبارة يتفاعل بكل أعضاء جسده مع فريق عمله في تمرين لعرض "صانع الأحلام" (1986) خلال "أيام قرطاج المسرحية". في ما بعد تحدثت مع نضال الأشقر عن تلك اللحظة فقالت أنها تكتب العرض بأكثر من قلمها: "هو يخرج كامل التكوين حتى انني أرى مع كتابة الحوار باقي العناصر التي تغلّفه من ألفه إلى يائه". وتذهب إلى استحضار الشريك في كتابة النص، إلى عيسى مخلوف، لتؤكد كم متينة وخصبة ثقتها بموهبته: "انه الوعد بجيل جديد من الكتاب المسرحيين"، "ولحسن الحظ" تضيف نضال الأشقر، أن هناك من هم ذوو طينة أمثال عصام بو خالد وربيع مروة وهشام جابر ممّن يتكفّلون شق الطرق إلى مسرح يفرض حضوره".

أما عن فكرة "الهجرة" وهي الركيزة وكامل التحولات إلى اصغر التفاصيل للعرض، فهي كما تقول نضال الأشقر: "فكرة قديمة كنت انتظر الفرصة الملائمة لأقوم بإعدادها وإخراجها"، وجاء الوقت المناسب عندما أصابت الهجرة الشباب المتعلم ("يحمل شهاداته ويهاجر،" قالت) بعدما كانت بدءاً تصيب "رجال الكشّة". "أخبرتُ صديقي القديم عيسى مخلوف بالأمر وبتصور أولي للمسرحية كنت كتبته، فجاء رد فعله: "إنها فكرة جيدة، لماذا لا نكتبها معاً؟". ولذيذٌ الأسلوب الذي يتكلم فيه كل من الاثنين عن كتابتهما معاً لنص "قدام باب السفارة". جهة نضال الأشقر: "نسرق الوقت بين عمله في "إذاعة الشرق" وبين عملي في المسرح. نتبادل الأفكار، نضحك، وقد ضحكنا كثيراً، نحزن، نكتب، نصوغ الأغاني والمشاهد". وجهة عيسى مخلوف: "كانت الكتابة معاً تجربة ممتعة. ومن زاوية ما، كنا نحن الاثنين نروي حكايتنا. كنا نروي هجرتينا لأنفسنا ونفاجأ بها كأنها حكاية الآخرين، وهي بالفعل حكايتنا وحكايتهم على السواء"، بحسب ما كتبه عيسى مخلوف في نص لم يُنشر بعد عن عمله مع نضال الأشقر.

البروفة لا تزال دائرة، مدة تقديمها في حالتها الراهنة، أي من دون الغلاف السينوغرافي، قيد التحضير من الفريق التقني، لا تتجاوز الثمانين دقيقة. ولا احد من الموجودين على المنصة يفكّر في مغادرتها، ذلك أن ثمة خطراً يتهدده وباقي الفريق الذي جاء وراء فيزا: الحرب في المدينة. عرض البروفة على إيقاعه الصاخب تحت عناوين الكوميديا الغنائية: "أردت هكذا أن أقدّم إلى أصدقاء مسرح المدينة عملاً بمستوى حبي لها وإخلاصهم لمركز ثقافي يناضل كي يستمر"، تقول نضال الأشقر قبل أن تدل على الأهمية التي لعنصر الشباب في بناء عمل هم صانعوه وهم حكاياته. للعمل على المنصة في حالته الراهنة ثلاث ثوابت: عدد المؤدين الأربعة عشر، النموذج المختصر لشباب لبنان المضروب بضيق الأفق وداء الهجرة. المكان المقترن بصيغة "الملجأ"، في إشارة ربما، إلى الجغرافيا اللبنانية، والمكان عبارة عن فضاء فارغ قرب السفارة التي جاءها المؤدون طلباً للفيزا. فكرة الهجرة ثالثاً، كحلم فردي لكل من المؤدين، وكداء جماعي وقدر وطني.

جاء تعاون نضال الأشقر وعيسى مخلوف في كتابة الحوارات وكلمات الأغاني مفيداً للحيوية النضرة لنبض نص يجمع في طراوة مطواعة – وللكوميديا الغنائية متطلباتها – الخبرات المتراكمة بين ارتجال وتأليف للمسرحية نضال الأشقر والشفافية اللبقة للجملة بالمحكية كما يحبكها الشاعر والأديب عيسى مخلوف. عملياً وخلال متابعتي للبروفة ليلة الخميس 2 الجاري، ساعد عري المنصة من كل أدوات الغلاف السينوغرافي في أن أتلقى بصفاء تام أداء كل من الأربعة عشر مؤدياً، أكان من بين الممثلين والممثلات أم المغنين والمغنيات ام من بين عازفي الموسيقى الحية الأربعة. تتحدث نضال الأشقر عن حنين لم يفارقها يوماً إلى أغان لم تعد على لسان احد تعود إلى أيام طفولتها: "هي محفورة في ذاكرتي منذ الطفولة وأزمنة جدتي وأمي"، لتضيف برقة مفاجئة "وقد استعدتها كما في ذاكرتي". "أما باقي الأغاني أي التي صغت كلماتها ضمن سياق النص بشراكة عيسى مخلوف، فهي تدين بموسيقاها إلى خالد العبدالله".

ولا شباب اليوم من دون دور لموسيقى الراب المتمثلة في البروفة بمؤديين، ادوار عباس وناصر الدين الشربجي المزيك.

اختارت نضال الأشقر بناء عرضها الجديد على طلاق جزئي مع ركائز عروضها السابقة، فالتقت "أكثر من مئة شاب وشابة" كما تقول، لتبقي " عشرة منهم" زائداً "اربعة موسيقيين يواكبون العرض بصورة حية". أي أنها أرادت لجديدها منصة شابة محتوىً وشكلاً، عصباً ونبضاً، حركةً وإيقاعاً، فإلى إحاطة نفسها بفريق شاب أغرقت ذاتها، تخيّلاً أولاً، لموضوعها وبناء ثانياً لمنصتها، في عالم راهن لكأنه خطفها من عمرها الى درجة اعترفت "بأني كنت أشعر خلال عملي على إخراج المسرحية كما لو أنّ عمري ثماني عشرة سنة". ومن ثم، وضمن الجو عينه، انحازت إلى منصة تشي بخفر قوي الى الواقع مع ترك فضائها حراً ليتأقلم بطلاقة سينوغرافية مع رواده المحاصرين بحرب الشوارع. لنص محاصر منصة فارغة، ولشباب واقع في فخ الملجأ فضاء متحول بمن يفجر مساحته، ولعالم من دون أفق صور فوتوغرافية وأشرطة متحركة غرافيكية لإحياء مكان لكأنه نهاية زمن وانفجار حلم وسقوط وطن.

• • •

ظة مغادرتي المسرح بعد انتهاء البروفة، شعرت كمن فيه ثقل، لم يتركني العرض على راحة على رغم انجذابي إلى محتواه ومتابعتي بلذة أكيدة منظر المؤدّين ودوران النص وصدى الأغاني من الموروث اللبناني خصوصاً في نفسي، وأنا مثل المخرجة ابن جيل وابن ذاكرة ومن حولي مهاجرون.

نزيه خاطر

)صحيفة "النهار"، الثامن من تشرين الأول 2008(