: عيسى مخلوف عن ترجمته لـ"مهاجر بريسبان" المعدّة لمهرجانات بعلبك

يسافر جورج شحادة عميقاً في النفس البشرية بين المادة والماوراء

 

رغم المسافات الجغرافية بيننا استقبلته في حديقتي الصغيرة ولهونا معاً بلعبة السؤال والجواب.

أعرف عيسى مخلوف مذ تكوّنت الأرض ونبتت شمس على قمة شجرتها. ومن النادر أن نلتقي. ولو صدف أن التقينا ففي باريس وبيننا هواء الشمال الذي نحمله في حقائبنا معطراً بقصعين وادي قنوبين وزعترها وقديسيها.

اختصرنا المواعيد في مكالمات تلفونية كي يصفو الجو للكلمة وخفاياها ولا يعكّرها صوت دخيل. أهتف لصوته يصبّحني كأنه على عتبة بيتي. حديقتي في هذه الأيام مزهوّة بالورد والغاردينيا والمنتور والحبق. أكلمه منها كأنه جالس وسطها.

بكلمة لبودلير عفا عن الوقت الذي يقيّد الحياة في شرانقه: "الوقت يأكل الحياة - قال بودلير - وهنا في باريس كما تعرفين العمل هو الذي يأكل الحياة، ومع ذلك، أعتذر عن التأخير في الإجابة".

المغامرة الكبيرة تكمن في الكتابة. تنجلي هذه الرؤيا وأنا أقلب صفحات كتاب "عين السراب" لعيسى مخلوف مترجماً بقلم نبيل الأظن إلى الفرنسية، وأقارن بين المنظر الطبيعي والمنظر المرسوم. وعلى درب موازية لهذه المغامرة يسير عيسى مخلوف، الشاعر والباحث والإعلامي، يدخل كوكب جورج شحادة بلغته المحاطة بهالة من سحر، وصوره الغنية بالشاعرية حيث الشعر والواقع يمتزجان في كيميائية عذبة من طرافة ولطف وطفولة وإنسانية. مترجماً له "مهاجر بريسبان" لتكون في 23 و24 تموز ضمن مهرجانات بعلبك، في إخراج لنبيل الأظن.

* قبل أن نتحدث عن ترجمتك لمسرحية "مهاجر بريسبان"، لو تحدّثنا عن مقاربتك لجورج شحادة، شاعراً وكاتباً مسرحياً، كيف تقرأ جورج شحادة؟ - كما في كل كتابة عظيمة، يسافر جورج شحادة عميقاً في النفس البشرية وتناقضاتها ونوازعها. هكذا الأمر بالنسبة إلى مسرحيته "مهاجر بريسبان". والمسرحية تتحرك بين قطبين أساسيين: قطب مادي يتجسّد من خلال علاقة البشر بالمال، بمن فيهم رجال الدين، وقطب معنوي، ماورائي إذا شئتِ، يظهر من خلال الحديث عن الوقت العابر والجمال، من خلال المرأة بالأخص. وذلك كله في أسلوب كثيف مسكون بحسّ شاعري نافذ. أسلوب يذكّرنا الآن بما قاله عنه يوماً عرّاب السوريالية أندريه بروتون: "إنه لأمر مثير للشفقة أن نفكّر في ما كنا نعرفه عن الأشجار قبل قراءة شحادة، وما كنّا نعرفه قليل". وهنا لا بد من الإشارة إلى إن جورج شحادة كان صديقاً للسورياليين من دون أن يكون سوريالياً، حتى لو كان النص النثري اليتيم الذي كتبه في بداياته وعنوانه "رودوغون سين" قريباً في أجوائه من الكتابة السوريالية، غير أن السوريالية، بالنسبة إليه، رؤية مفتوحة على حرية الاختبار والتجريب أكثر مما هي عقيدة جامدة أو أسلوباً ينبغي أن يُحتذى في الكتابة والفن. يكتب جورج شحادة عن الشجرة فنخاله يسكن رعشة الأغصان. الشجرة لديه ليست مجرّد شجرة. والجبال ليست جامدة. يكتب عن الحزن. حتى الحزن هنا يبدو حنوناً وهادئاً كالمطر نراقبه من خلال زجاج النوافذ المقفلة. حتى الموت رشيق ويعبر كغزال. الموت هنا كأنه ظلّ الحياة. ظلّ الأشياء الخافت يمضي معها حيثما تذهب، يرافقها، يداعبها ويتماهى معها. ضمن هذا الأفق لا تتحرّك الشخصيات بفعل قوة الواقع فقط، بل كذلك بقوّة الحلم وإمكاناته غير المحدود، وهو القائل أيضاً "من يحلم يمتزج بالهواء". و"من يقطن الأحلام لا يموت أبداً".

* تتحدث عن شخصيات شحادة، كيف يتبدّى لك أبطاله في "مهاجر بريسبان"؟

 

- أبطال شحادة مغامرون، حالمون ومسافرون، لكنهم منذورون دائماً لهلاك تحملهم إليه كثرة البراءة. ذلك أن الكاتب يعرف، منذ البداية، أن "البحث عن الطهارة كذبة كبرى في عالم فاسد". وإذا كانت مسرحيات شحادة تنطوي على مساوئ الحياة، وتفضح عدالة المجتمعات غير العادلة، فإنها لا تقع في اليأس الجارف، ولا في حسّ مأسوي أو في نزعة عدمية سوداء، أي أنها لا ترفض الحياة، بل تحاول أن تستوعبها، وهذا ما يتجلّى من خلال قدرة شخوصه على الحلم. وإذا كان مسرح شحادة يحتلّ موقعاً بارزاً في المسرح العالمي المعاصر، إلى جانب تجارب يونيسكو وبيكيت، فإنه يختلف عن هذه التجارب لأنه يأتي من مناطق أكثر اطمئناناً، وعبثيته مسكونة بالطفولة، خلافاً للعبثية السوداء التي تطالعنا في مسرح بعض مجايليه. في رسالة من بول ايلوار إلى جورج شحادة وردت هذه العبارة: "تأخذني أشعارك إلى رؤية عميقة، إلى شدو أصيل كنت نسيته". وكم تنطبق هذه الكلمات اليوم على إنتاج شحادة بأكمله، فيما يضيق الأفق الشعري في العالم، وفيما تصبح حديقة الشعر السرية نائية لا يمكن أن يلامسها إلاّ من تبرّأ من طغيان المادّة وإرهاب الابتذال. لكن من الذي يستطيع اليوم أن يتبرأ أو يحتمي منهما؟ * في هذا المناخ إذن، يزداد الحديث عن موت الشعر؟

- ليس موت الشعر، بل انسحابه إلى الداخل، واستعداده لاتخاذ أدوات وأشكال تعبيرية أخرى. في الوقت الراهن، الشعر هو غير ما تعنيه كلمة شعر أو شاعر. لا معنى لهاتين الكلمتين اليوم. وليس هو الشاعر وحده الذي تغيّر معناه، بل الثقافة بأكملها. المعنى الذي كان للثقافة في الغرب، ومن الغرب إلى العالم، حتى الستينات من القرن العشرين يختلف عن معنى الثقافة الآن. كلّ ما لا يدخل في منطق المردودية المادية المباشرة أصبح بلا معنى. هكذا إذن يصبح الشعر بلا اسم. يصبح صديقنا الغريب. لكن رغم هذا الواقع، وأمام تهميش كلّ ما هو أساسي وجوهري لمصلحة التزييف المنظّم، يظل الإبداع رهاناً ضد الأسلحة التي تفتك بنا من كل جانب، وضد جنون العالم الراهن. إنه طريقنا نحو المصالحة مع الذات ومع الآخر. وهو أيضاً سبيلنا إلى المصالحة مع الأرض التي نقيم فوقها ريثما نجعل العالم أقل قساوة وأكثر اقتراباً من الحسّ الإنساني والجمالي الذي يوحّد بين الشعوب ويجعل الحياة جديرة بأن تعاش. ألم يقل الفيلسوف والموسوعي الفرنسي ديدرو، منذ أكثر من مئتي عام: "من دون وحدة الفيزياء والأخلاق والشعرية، لا يبقى أمام البشرية إلا احتمال واحد : البربرية"؟ * هكذا تختصر علاقتك اليوم مع التعبير الشعري؟

- مع التعبير الشعري ومع الفنون بعامّة. بل مع الثقافة بالمعنى الفعلي لهذه الكلمة وهي الرد الوحيد المتبقي لمواجهة الهمجيات الجديدة التي تعمل، باسم الديموقراطية وحقوق الإنسان. على فرض سلطة المال وتعميم الابتذال، ووراء واجهة المال والابتذال تحاول أن تخفي جرائمها بحق الشعوب.

 

* هل فرنسية شحادة السهلة - الصعبة وجدت على ورقتها مكاناً لترجمتها بعربية سليمة من فصاحة الفصحى وعربيتنا العامية المشرذمة.

- كلمات شحادة بسيطة، صحيح، لكنها البساطة العالية. بسيطة وحاسمة في آن واحد.

تجعل الحلم، أحياناً، أشد حقيقة من الواقع. حيال هذا النص وفضاءاته والعلاقة التي يقيمها بين الواقع والحلم، تصبح الترجمة نفسها مغامرة وعليها أن تجد المعادلات المناسبة والإيقاع الملائم. فمقاربة شحادة الشعرية الحلمية تجعل الكلمات كأنها تضاء بضوء غريب ما أن يقترب منها الشاعر، ولا سيما انه يدرك طبيعة العلاقة بين الأفكار والكلمات. كما يدرك الفوارق بين الشعر والفلسفة، بعيداً عن لغة التعليم والإرشاد والخطابة. هكذا وجدت نفسي، منذ البداية أمام أسئلة عديدة، منها: هل هناك لغة مسرحية عربية؟ ما هي طبيعة هذه اللغة؟ هل أعتمد العربية الفصحى أم المحكية؟ وكنت أشعر بأن نصّ "مهاجر بريسبان" ليس نصاً يترجم إلى الفصحى، ولا إلى العامية. كان عليّ أن اعمل على لغة تفيد من إنجازين، الفصحى والعامية على السواء، فلا الفصحى وحدها تفي بالغرض ولا العامية وحدها.

أمام هذا الفصام اللغوي الذي يشبهنا إلى حد بعيد، وهو انعكاس لروحنا وتفكيرنا وحركة أجسادنا، كان لا بد من المغامرة، من العمل على لغة فصيحة لكن بعيدة عن البلاغية، عن البيان والفصاحة، وعن التراكيب اللغوية الأبدية، قادرة على الاقتراب من العامية في مواضع معينة بلا خوف، أي لحظة يكون ذلك عاملاً مساعداً لإيصال النص الأصلي وإيقاعاته ومعادلاته اللغوية، ومعروف أن بعض المعادلات التي وضعها شحادة نفسه في مسرحيته كانت جديدة حتى داخل اللغة الفرنسية نفسها. من هنا، كان اللجوء إلى المحكية في مواضع محددة، وفي لحظات معينة تعكس حالات من التعجّب والتوتر، وحين تكون نبرة الحوار سريعة ملاصقة لنبرة الحياة اليومية.

مثلاً: حين يلتفت الحوذي إلى الحصان ويستنطقه قائلاً: "أليس كذلك يا كوكو"؟ وجدت من الأفضل القول: "ما هيك يا كوكو". أما عبر الفصحى، فحاولت في شكل عام، تسجيل لحظات التأمل والشعر والمواقف التي تنطلق من خلفيات فلسفية، كأن يقول أحد شخوص المسرحية: "نداوي الكآبة بالأسرار". حتى الفصحى، ثمة أكثر من مستوى داخلها، أي أن الفصحى التي ينطق بها سكرتير رئيس البلدية، أي الموظف في الدولة تختلف عن الفصحى التي ينطق بها المزارعون، أو الحوذي نفسه حتى عندما يغلّف ألفاظه، أحياناً، في نزعة تأمليّة... في اختصار، إنها ترجمة تنطلق من أسئلة كثيرة حول الترجمة وحول اللغة. أشير أخيراً إلى أن القراءة النهائية والمتأنية للترجمة تمت في حضور المخرج نبيل الأظن الذي كان يتمثّل كل كلمة من كلمات النصّ كأنها تقدّم على الخشبة أمام الجمهور، وأبدى ملاحظات غاية في الدقة.

 

* يعني أن سؤال اللغة كان من الهواجس الأساسية في ترجمتك لشحادة؟

- سؤال اللغة يشغلني مثلما يشغل أي كاتب في العالم، فكيف بالأحرى في العالم العربي؟ هكذا وجدتُ نفسي أضع كل أسئلتي وهواجسي حول اللغة في هذه الترجمة. ليس فقط اللغة التي تترجم الأدب، بل كذلك اللغة التي تنقل الفكر. إذ كيف يمكن أن نفصل بين اللغة والفكر، بين اللغة والحداثة؟ كيف نكون حديثين في لغة تعيش مثلنا، فصامات لا فصاماً واحداً. لغة قريبة من توجّهات النص الديني ومناخاته حتى عندما يستعملها العلمانيون، وبعيدة عن المقومات الفكرية الحديثة والابتكارات العلمية والتقنية. إن مشكلتنا مع اللغة هي جزء من مشكلة أعمّ وأشمل. وكما أن هناك دولاً على طريق النمو، هناك أيضاً لغات على طريق النمو، مثلما هناك لغات انقرضت أو هي على طريق الانقراض. في عصر الأنوار، لم يكن ديدرو الذي أتيت على ذكره، قبلاً، موسوعياً، عالم لغة فقط، بل كان فيلسوفاً ومفكّراً كذلك، وهو مثال للعلاقة بين الفكر واللغة. السؤال إذن هو في كيفية تطويع اللغة، والإفادة من اشتقاقاتها وإمكاناتها، وجعلها انعكاساً فعلياً لوجودنا وثقافتنا وحركة أجسادنا، والعمل على رفعها إلى مستوى العصر.

 

* جورج شحادة لبناني الجذور، فهل لغته الفرنسية توازي هويته؟

- لو نظرنا إلى جورج شحادة الكاتب والشاعر نقول إنه من لبنان ومن العالم أجمع في آن احد. ولغته، مثل لغة المبدعين الكبار عادةً، سواء نهلت من مؤثرات محلية أو عالمية، فهي تتجاوزها لتطال اللحظة الإنسانية والجمالية التي تبطل معها الحدود بين الجنسيات واللغات والثقافات المختلفة.

 

* هل تعتقد أنّ من واجبات الترجمة الأولية أن توقظ لدى القارئ الانطباعات ذاتها التي يتلقاها المترجم في قراءته للنص؟

- أن ينقل المترجم انطباعاته ذاتها للقارئ عبر الترجمة، هو طموح كل مترجم. لكن من يستطيع أن يرصد عملية التلقّي؟ كل ترجمة جديدة هي قراءة جديدة للنص، وكل قراءة تحمل في طيّاتها حساسية هذا المترجم أو ذاك. النص الأصلي يغتذي بهذه القراءات ويتشعّب. يغدو نصوصاً كثيرة، كأغصان متعددة لكن من شجرة واحدة. هذا ولكل نص طبيعته ومصاعبه، أسراره ومفاتيحه الخاصة. الترجمة هي كتابة كتاب جديد آخر، لكنه كتاب يبقى في خدمة الأصل ويدور في فلكه. ترجمة النص قراءة عميقة له، وهي أيضاً شكل من أشكال الاستماع إليه، والتأمل فيه. هي حياته التي تتواصل، لكن في لغة أخرى. قوّة المترجم أن يمّحي فيها، أو كما يقول ابن عربي عن الحقيقة إنها لا تكشف عن نفسها إلا أمام الذي يمحو أثره هو نفسه تماماً ويخسر حتى اسمه.

 

* الشعر لا يترجم في رأيي، فهل تترجم الموسيقى؟

- دائماً أعقد هذه المقارنة بين ترجمة الأدب والأداء الموسيقي. عازف البيانو الكندي غلن غولد الذي توفى في الخمسين من عمره كان من أكثر الذين عزفوا المقطوعات الموسيقية على البيانو لباخ، وأكثرهم شهرة، غير أن نبرته في العزف كانت شخصية، بل أن صوته الخاص كان يتقدّم، أحياناً، على صوت باخ كأنه كان ينسى أنه يعزف لباخ، فيذهب في اتجاهات أخرى. أظن أن عظمة المؤدي تكمن في تطويعه لقدراته الشخصية من أجل بلوغ الموسيقى التي يعزفها. ولئن أضاف إليها من نفسه، فذلك من أجل الذهاب أبعد ما يمكن في عالم الموسيقى الأصليّة التي ينطلق منها وليس في عالمه هو. لذلك يبدو الأداء، أحياناً، مثل الترجمة، أصعب من التأليف.

أو أنه نوع آخر من التأليف. من هنا، مثلاً، تجذبني قراءة هذه الترجمة أكثر من تلك. مثلما أفضّل الاستماع إلى موزارت وشوبرت عبر بيراهيا ولوبو، ومثلما أحب الاستماع إلى شوبان على يد آروا والباشا. هكذا يتنوّع الأداء في كل مرة، وفي كل مرة تكتسب المقطوعة الموسيقية آفاقاً تكشف عن طاقاتها وغناها، تماماً كما هو الأمر بالنسبة إلى النصوص الإبداعية عندما تنتقل من لغة إلى أخرى، فكأنها لا تنفكّ تسافر، لكن دوماً داخل الفضاء الواحد.

 

* هل يمكن أن تقدم مثلاً على ذلك على مستوى الأدب؟

- حكايات "ألف ليلة وليلة" التي أؤثر قراءتها بالفرنسية بلغة جمال الدين بن شيخ واندريه ميكيل، هي لغة أشعر بأنها تشبهني وأشبهها، وتحمل في طياتها نبض هذا الزمن وتحدياته وهواجسه، أي نهاية القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين. بلى، أؤثرها على ترجمة المستشرق الفرنسي أنطوان غالان الذي كان أول من نقل "ألف ليلة وليلة" إلى الفرنسية، وصدر الجزء الأول منها عام .1804 وإذا كانت ترجمة غالان شكّلت حدثاً في تاريخ الأدب الفرنسي، بل الأوروبي بعامة، وإذا كانت بمنزلة الرد على كل البلاغيات الأدبية لتلك المرحلة، فإنها بدت متماشية، من حيث اللغة، مع روحية القرن الثامن عشر والاعتبارات التي كانت تفرضها سلوكيات قصر فرساي زمن الملك لويس الرابع عشر. بذلك فإن قراءة النصوص الكبيرة لا تتغير بين مترجم وآخر فحسب، بل بين عصر وآخر، مع تغيّر العادات والأمزجة والمؤثرات والرؤى. من هنا فإن بعض الترجمات وهي نادرة بالطبع، تركت أثرها على اللغة مثلما فعلت بعض الروائع التي عرفها تاريخ الأدب العالمي وغيّرت في طبيعة اللغة نفسها، من "الكوميديا الإلهية" لدانته، إلى "دونكيخوته" لثرفانتس. كذا الأمر بالنسبة إلى ترجمة التوراة في ألمانيا والأثر الذي تركته على اللغة الألمانية. أو أيضاً الترجمة العربية للتوراة في القرن التاسع عشر والدور الذي لعبته في تحديث اللغة العربية. أو في الزمن الأقرب إلينا، ترجمة أدونيس للشاعر سان جون بيرس والتي، مهما قيل في دقّتها، أحدثت اختراقاً داخل اللغة الشعرية العربية. كان بورخس يقول إن "ألف ليلة وليلة" كتاب لانهائي، أي لا نهاية له. هكذا النصوص المهمة، لا تنتهي، وتتعدّد بتعدّد قراءاتها إلى ما لا نهاية، كاشفة عن قدرتها على ولادات مستمرة لا حصر لها، ليس فقط في لغات متعددة، إنما كذلك داخل اللغة الواحدة ذاتها.

 

* هل هناك نصوص قابلة للترجمة وأخرى لا؟

- ألا تظنين أنّ الإنتاج الإبداعي الذي ينفذ إلى دواخلنا كقرّاء هو إنتاج قابل للترجمة؟ الإنتاج الذي يلقى صدى في نفوسنا ويأخذنا إلى مطارح في ذواتنا لا نعرفها، ويقول عنّا ما لا نستطيع قوله عن أنفسنا. عبر اللغة، يخرج الكاتب من نفسه إلى الآخر، وعبر الترجمة تتم عملية التواصل بين الثقافات والشعوب المختلفة. الترجمة وسيلة أساسية للتواصل، ليس في مجال الإبداع الأدبي، شعراً ونثراً فقط، بل أيضاً من أجل ترجمة المعارف والعلوم الحديثة للاستدلال على وجودنا في هذا العصر. أما الحديث عن طبيعة الترجمة المعرفية والعلمية فهذا شأن آخر ويحتاج إلى

حوار لا مجال له الآن.

)أجرت الخوار مي منسى(

")النهار"، 6 حزيران/ يونيو 4002(