تجلّيات الشعر والحسابات الدبلوماسيّة

 

 

 

صلاح ستيتيّة تؤرقه فكرة الموت. تراوده صبحاً ومساء. يلهج بذكرها ويكتبها، شعراً ونثراً. يتذكّر طفولته كأنه يرثيها، ويتأسّف على شبابه. يخبرني أنه رأى في منامه عصفوراً يطير في غرفة مقفلة، يرتطم في الجدار وسرعان ما يختفي. يروي الحلم بشيء من الرهبة، ثمّ يعود، بعد ساعة من الوقت، ليسمعني قصيدة كتبها من وحيه: "يطيرُ الطفلُ، يطيرُ الطفلُ/ صرختُ في الغرفة/ طارَ الطفلُ في الغرفة/ وامّحى في الجدار"... كأنّ الذي يموت فينا، حين نموت، هو الطفل. أسأل صلاح: كيف تُحسَب المسافة، في القصيدة، بين الطفولة والشيخوخة؟ هل تُحسَب بالسنوات والخلايا والأنسجة العضويّة، أم بالقدرة على التفكير والحلم والدهشة؟ ولماذا لا يبدأ الكائن حياته مسنّاً ثمّ يرتقي إلى الطفولة؟

في ديوانه  "L'Uraeus"("الثعبان الذي يرى")، الصادر عن دار "فاتا مورغانا" الباريسية، كما في مجمل كتاباته الشعرية الأخيرة، يقف صلاح ستيتية في البرهة الفاصلة بين الحياة والموت. يرفع رأسه قليلاً وينظر إلى الأمام، ثمّ يلتفت إلى الوراء، ولا يرى شيئاً. ما عسى العين أن ترى في هذه النقطة بالذات، في هذا الموقع المتقدِّم وقد وصله بسرعة تفوق الوصف؟ أين الطفل الذي كانه في بيروت؟ أين الطالب الجامعي الذي سار في شوارع باريس وجالَ في مكتباتها؟ أين هي تلك الأيام والسنوات التي ظنّ خطأً أنّها أيامه وسنواته، ثمّ أدرك لاحقاً أنّ الحياة ليست شيئاً نملكه بل هي الشيء الذي يعبر؟

منذ سنوات، لا يغيب الموت ولا لحظة واحدة عن حياة صلاح ستيتيّة. يهابه وفي الوقت نفسه يتهيّأ لاستقباله. يشعر أنه وصل إلى نهاية النهار وأنّ عليه أن يضع – قبل حلول الظلام - كلّ شيء في مكانه: أودعَ مخطوطاته وكتبه في مكتبات عدّة منها "مكتبة فرنسا الوطنية"، أصدر مذكّراته في أكثر من ستمائة صفحة عن دار "روبير لافون"، نهاية العام الماضي، تحت عنوان "حفلة جنون"، عرضَ مجموعته الفنية الخاصة (تتألّف في معظمها من هدايا أصدقائه الفنانين التشكيليين) للبيع في مزاد علني، في قاعات "دروو" في العاصمة الفرنسية. يطمئنّ ستيتيّة إلى مصير أشيائه ويتابع الكتابة، طول الوقت. يتلطّى وراء الكتابة، لكنه يعرف أنّ المعركة محسومة سلفاً. يقول: "فارغٌ هو العالم/ العالمُ فارغ/ فارغةٌ هي الأرض/ الأرضُ فارغة/ فارغةٌ هي السماء/ السماءُ فارغة/ فارغةٌ هي الريح/ الريحُ فارغة/ القلبُ أيضاً/ الحبُّ أيضاً/ الأملُ أيضاً"...

ما كتبه صلاح ستيتيّة في مجالَي الشعر والدراسة يتحرك ضمن رُقْعَة ثقافيّة واسعة يتجاور فيها الشرق والغرب. لقد اختار الإقامة في الموقع الذي تُلغى فيه الفواصل بين الأجناس واللغات والأديان المختلفة، بين لبنان وفرنسا، بين اللغة العربية واللغة الفرنسية، وكذلك بين ضفّتي المتوسط، يتنقل بينهما كأنه يتنقل بين غرفتين داخل بيت واحد.

وإذ يركّز على الصوفية الإسلامية والمسيحية، بالإضافة إلى صوفية الشرق الأقصى، فليس من باب التوفيق بين الأديان، بل، بخلاف ذلك، من أجل الذهاب إلى ما يمكن أن يخرج منها ويتجاوزها، لغةً ورؤية، في آن واحد. من هنا تتكشّف الروابط الكثيرة، غير الملموسة في أغلب الأحيان، بين المسعى الروحاني والمسعى الشعري، وإلاّ ما الجامع، في نتاج ستيتيّة، بين جلال الدين الرومي وريلكه، بين إبن عربي وهولدرلين، وماذا يفعل الحلاّج قرب رامبو؟ الحلاج القائل «الألف ألف الأزل واللام لام الأبد»، ورامبو في قوله: «كنتُ أكتبُ سكونات، ليالي. أُدَوِّنُ ما لا يُعَبَّر عنه».

تقتضي الإشارة، هنا، إلى أنّ ستيتيّة خصّص لرامبو كتابين صدرا عن دار "فاتا مورغانا"، الأول بعنوان "رامبو النائم الثامن"، والثاني عنوانه "رامبو العدَنيّ" (نسبة إلى عدن)، كما كرّس للشاعر الفرنسي فصلاً من كتابه "التزيين" الصادر عن دار "جوزيه كورتي". لا يزعم ستيتيّة أنّ رامبو صوفيّ حتى في "الحالة المتوحّشة" التي أشار إليها بول كلوديل. قد يكون هناك لقاء بين مشروع رامبو الشعري من جهة، والصوفية المشرقيّة وصوفيّة الشرق الأقصى، من جهة ثانية، بدون أن يكون شاعر "إشراقات" تابعاً لهما بالضرورة أو متماهياً معهما. هذا اللقاء عابر للأمكنة واللغات والثقافات المختلفة، أي أنه يستقيم، ولمَ لا، بين شاعر فرنسي من القرن التاسع عشر وشاعر (أو خطّاط أو فنّان) صيني أو ياباني من القرن العاشر، بين الشعر الصوفي وشعر الزن، الصوفية التاويّة والرومنطيقية الألمانية. إنه المسعى إلى الانسحاب من العالم المنظور إلى الباطن، تماماً كنِيام أفسس السبعة الذين هربوا من الاضطهاء ولجأوا مع كلبهم إلى مغارة فوجدوا أنفسهم داخل نوم غريب سرّي لم يستيقظوا منه إلاّ بعد انقضاء قرون...

يحضر هذا التوجّه العام في نتاج صلاح ستيتيّة الشعري والنثري، وفي أبحاثه وقراءاته التي تزاوج بين الثقافة العربية والإسلامية والثقافة الغربية، لا سيما الثقافة الفرنسية، كما يطالعنا في مذكراته التي أتينا على ذكرها، والتي تكشف عن شخصية ستيتيّة المركّبة وعن وجوهه الكثيرة. إنه الشاعر الذي يلتفت إلى أدقّ عناصر الطبيعة والوجود، يحاور الوردة والعصفور والغيمة، ويصغي إلى وَقع خطى الموت وراء الأبواب. يعود إلى طفولته أيضاً وما كانت عليه طبيعة لبنان قبل الاستقلال. ولا تكمن أهمية هذا الوصف في بعده التوثيقي فقط، بل أيضاً في جمالية السرد البهيَ. لكن، بالإضافة إلى الوصف والذكريات، وهذا الرواح والمجيء بين لبنان وفرنسا وأماكن كثيرة من العالم، إلى جانب هذه الغاليري من الأسماء اللامعة في عالم الآداب والفنون، شرقاً وغرباً، والتي أضفت عليها الذكرى، وطريقة استعادتها، بُعداً حُلمياً، بالإضافة إلى ذلك كلّه، هناك وجه آخر، وجه الديبلوماسي الذي يعنيه أن يكون على علاقة طيّبة مع رجال السياسة، حتى لو كان بعضهم في عداد الأكثر سوقيّة وانحطاطاً وعنفاً.

يحضر في مذكّراته زين العائدين بن علي وعمر بونغو طبعاً، إلى جانب شارل ديغول ودومينيك دو فيلبان. ويحضر الملك الحسن الثاني الذي أفرد له الشاعر فصلاً كاملاً تحت عنوان: "سنواتي الحسن الثاني"، وقد خصصه لسنواته المغربية (يوم كان سفيراً للبنان في المغرب)، وتحدّث فيه عن خوفه من الملك وانبهاره به في آن واحد. حكى عن نفوره من بطشه وعن إعجابه بِـ "ثقافته الواسعة"، الملك الذي "كان يمضي الليالي وهو يقرأ"، على حدّ تعبير ستيتيّة. وربّما لهذا السبب أهداه الشاعر كتبه، وقد تمّ تغليفها "بجلد أخضر اللون".

أظنّ أنّ قارئ هذه المذكّرات ستستوقفه أيضاً محطّات ومرويّات كثيرة، منها بالأخص تلك التي يتحدث فيها صلاح ستيتيّة عن صديقه الشاعر اللبناني باللغة الفرنسية جورج شحادة الذي ورد اسمه مراراً في الكتاب. فهو معجب به ويعبّر بوضوح عن هذا الإعجاب، وفي الوقت نفسه يخبرنا بأنّ شحادة كان يقصد مكتبات حيّ "السان جيرمان" في باريس ليشتري نُسَخاً من كتبه، بل ويحثّه على الاحتذاء به، وذلك لزيادة نسبة مبيعاتها!

 

عيسى مخلوف

("السفير"، 31 يوليو 2015).