'رسالة إلى الأختين' لعيسى مخلوف مقدمات لفردوس نثري

 

 

 

ثمة في "رسالة إلى الأختين"، كتاب عيسى مخلوف الأخير الصادر لدى "دار النهار للنشر"، تجربة كتابية مميزة. فهو في "رسالته" الأدبية الوجودية هذه، يلامس ذروة التطهّر من خلال جمل مصوغة كشكّ لؤلؤ، تنقل القارئ على أجنحة عباراتها التصويرية الدقيقة الأداء إلى مقدمات فردوس نثري.

الكتاب عبارة عن اثنين وعشرين نصاً، فضلاً عن الهوامش، يؤلف مجموعها متن رسالة وجدانية يوجهها كاتب إلى امرأة عرفها، يستعيد فيها ماضي علاقة حميمة، ليحيلها عبر الكتابة على حاضر أبدي.

والنصوص الرسائل تخاطب ههنا الشعور المرهف والفكر. فهي بالإضافة إلى كونها بوحاً كيانياً وبداية وجود يختلط فيه واقع الكاتب بالخيال، تستوقف القارئ بجماليتها، وفيها من السحر والعمق والجمال والمعارف ما يشفي غليل المتعطشين إلى النشوة الأدبية.

فبعد إشارة خفرة إلى مكان الكتابة، باريس، يحاول مخلوف في فاتحة رسالته، أن يعرّفنا إلى مشهدية أجواء الكاتب. فإذا هو جالس يكتب خاطرات رسالته على أنغام موسيقى باخ وصوت كاتلين فيرييه الصادح وإضاءة صفراء شاحبة ورسائل قديمة بعثت بها الحبيبة، منتقلاً بعد ذلك بأسلوبه المتوثّب وألفاظه المنتقاة بعناية شديدة إلى تحديد هوية من يكتب له.

فعلى هدي المرأة، يعود مخلوف إلى الوراء، إلى أماكن شهدت تفتّح العلاقة بين الرجل وامرأته. فمن غابة بولونيا الباريسية، مروراً بشوارع المدينة النور وكاتدرائياتها ومتاحفها ومقاهيها وأحيائها وجسورها وحدائقها ومسارحها، وصولاً إلى لبنان وبيروت والبحر والجبل، ينبثق عالمه الكتابي الفتّان الذي تعبره شذرات فكرية حكمية تتناول الوجود بأسره، راوية على طريقتها حكاية حبّ بلغ الحدود.

لعل الكتابة عند مخلوف رمز خسارة الحضور. تبدأ حيث ينتهي الكلام، فتصير في حد ذاتها إشارة إلى حضور الغائب. مستعيدة بذلك تعليم رائد الألسنية الحديثة فرديناند دو سوسور الذي شدّد في جميع أبحاثه على أن الكتابة في جوهرها ليست سوى استعادة للغة الحيّة وللعلاقات الإنسانية عبر إشارات ودلائل تحيل في مجملها على تجربة الوجود.

تجربة عيسى مخلوف الوجودية كما تتبدى في "رسالة إلى الأختين" غنية في تفاصيلها، ممتلئة في أبعادها وقد تموضعت في كلمات جسور ربطت النفس بالعالم. فإذا بها تذوق تلك الحروف التي لا بدّ من عبورها لاكتناه الحقيقة الأخيرة. لكنه بعد الشروع في خطّ أول سطور رسالته على إيقاع الصمت والإصغاء الدائمين، يكتشف أن الزمن في وطأته لا يطاول كل شيء. بل ان الماضي ينبثق في الحاضر في ارتباط ظاهر. وها هي الحبيبة في طفولتها وشبابها حاضرة أبداً، ان توقظه يدها من شروده، وصوتها من منامه، وضحكتها من واقعه، فيراها "تسترخي فوق بطنه وتضع رأسها على سرّته وتنظر إلى السماء".

ثم يسترجع بعضاً من أحاديثه معها، فيروي سؤالها إياه عن الشعر وبداياته ليضمّن مقاطعه تحديدات له وأقوالاً فيه وقصصاً تذكّرنا بدراسة مخلوف للأنتروبولوجيا الاجتماعية والثقافية على خلفية الحديث عن قصيدة يقول فيها شاعر عن طفل يلتهم ثدي أمه!

غير أن الرسالة تطول. وها هو الكاتب يتذكر يوم قرأ للمرأة مقاطع من كتاب "حجارة" لروجيه كايوا والذي تضمن أروع ما كُتب في الحجارة عبر العصور، مسترداً بذلك بعضاً من المرأة التي خسر، مقترباً منها قدر الإمكان، مستعيداً أقوالها كتردادها الخوف من الصور حين التقط صوراً ليديها، كاتباً أن ثمة "أشياء لا يمكن تطويعها والتعبير عنها بالأحرف والكلمات". مشدداً على أن الصورة الحق لا تلتقط ما يظهر فقط، بل أيضاً كل ما يحسّ به الإنسان حيال ما يراه، راوياً في تداخل خلاّب بعضاً من حياته وقراءاته وتعابيره واستيهاماته وخياله مما يضفي على النص بعداً جمالياً خاصاً.

ولئن تكن الكتابة المشدودة إلى الماضي السحيق هي على طريقتها صعوداً نحو المطلق، يتابع عيسى مخلوف مرافقة قلمه في استكشاف معاني علاقته التي لا تُحصى، بحيث تصبح الرسالة عنده مرادفاً لظهور الحقيقة. ففي كلامه المرسل يغوص الكاتب عميقاً في ثنايا الذات والذاكرة، يستحضر لقاء داخل الكاتدرائية القوطية، يوم كانت حركة اليد وحدها، على طريقة رسم "العرّافة" لكارافاجيو، والتي يتصدّر تفصيل منها غلاف الكتاب، مدخله إلى الحبيبة.

واليد المبسوطة في يد الحبيب تعني في ما تعنيه المعرفة والرؤية. هي بعرف القديس غريغوريوس النيصصي في كتابه "خلق الإنسان"، لغة. يكتب القديس: "من رأى في استعمال اليدين خاصة إنسانية عقلية لم يخطئ أبداً".

غير أن يد الحبيبة المفتوحة في يد الحبيب مغلقة هي أيضا على ماضيها وأسرارها. والكاتب يحاول قدر المستطاع أن يسافر في خطوطها وتعاريجها، عبر استعادة محطات علاقته بها، والتي كلما أصبحت خارج النظر، اشتد احتضانه لها. كأني به في آخر المطاف، يعود من خلالها ليس فقط إلى ماضيه معها بل إلى نفسه وحياته وأماكنه.

والأماكن عند عيسى مخلوف تعبق جميعها برائحة الحياة. وهو يحاول تنشقها سالكاً معارج الذاكرة. فمن متحف بيكاسو الذي ألف رسومه والذي زاره مع الحبيبة عند مجيئها الأول إلى باريس، وصولاً إلى الغابة وحديقتها وأحواض مائها ومنحوتاتها، فالصور التي التقطها لبعض أشجارها والتي أرسلها إليها، يتبدى غائصاً في أعماقها، ممعناً في الإصغاء إلى كثافة الوجود.

لكن من يقرأ "رسالة إلى الأختين" لا بدّ أن يتوقف طويلاً أمام هذا الاهتمام الذي يوليه مخلوف بالمطارح. وهي عنده الطريق إلى الذات والى المرأة. ولعله بسبب من ذلك يرسم مشاهدها بدقة ويتحدث عن تعلقه بها وشغفه بجمالها، ما يحمل القارئ على سلوك دروب الوصف والوجدانية بمتعة متناهية.

وعلى تتابع الصفحات المئة والخمسين، تتتالى الذكريات والاستعادات والحكايات داخل الحكاية الرسالة، وتتعدّد الرسائل. كذكرى تلك المرأة التي عادت إلى الكاتب بعد غياب طويل أمضته في حضن رجل آخر، والتي يرويها في رسالته إنطلاقاً من قول الحبيبة ان الاقتراب منها لا يكتمل من دون معرفة الماضي الذي كان قبل اللقاء.

على هذا المستوى من السرد تروي هذه المرأة تفاصيل مغامرتها الحميمة، والكاتب بدوره يسترسل في سرد قصتها على امرأته. لعل في الحكاية بعضاً من حكايته.

غير أن هذا البوح يتم ههنا من خلال قراءة مقاطع من قصاصات رسائل خطّها العاشق بيده. والمرأة في تخلصها منها عبر تركها بين يدي رجلها الأول لم تشأ سوى إنهاء هذا الفاصل من حياتها. أما الكاتب فهو يوردها في متن نصه بتمامها وكمالها أملاً منه في العثور بين سطورها على أثر له. لكن "لا دخل لأحد بأحد. حتى حين يكون واحدنا لصيق الآخر".

بعد الحديث عن هذه العلاقة الماضية ونهايتها، تستمر استعادة لحظات الحياة مع الحبيبة في تعثرها وارتقائها وتداخل الأماكن في أحداثها، حتى يصل نثر عيسى مخلوف إلى أقصى عليائه في كلمات خفيفة لا تحتاج إلى أجنحة كي تطير. تصعد وتهبط، ترتطم بالواقع وتتزاوج وإياه ثم ترفعه حتى يخيّل إلى القارئ ان كل كلمة خطّها قلمه حقيقة في كيانها بعيدة كل البعد عن الحبكة الكتابية ونسج الخيال. فمن دار الأوبرا الفرنسية وحفلها إلى فيلم "دوغفيل" للمخرج الدانماركي لارز فون ترير مروراً بالسفر إلى بيروت العابقة باليود من صوب بحرها، وحرب الخليج في يوميات قتلها وجرحها، وكتب تانيزاكي إلى لوحة جان فوكيه، تأخذنا "رسالة إلى الأختين" إلى محطات فكر يقظ يحاول من خلال قراءة الأحداث على ضوء تجربة ذاتية، أن يصل إلى انطباعات حول الوجود في عالم من الجمال الفني، نشعر عندما نقرأه بشيء ينساب إلينا منه فيستميلنا ويُغرينا، فنتبع الرسالة في شغف ونخرج منها كأننا مرغمون.

 

مارلين كنعان

")ملحق النهار"، العدد 665 - 5 كانون الأول (2004