"وحده الأبديُّ لونُ العصافير"

 

 

 

"كيف نحظى بجسد الطفولة وروحها في غرفة هادئة مضاءة باللصوص!". هذه العبارة التي كتبها يوماً جورج شحادة قد تشكّل أحد المداخل الأساسية لعالمه الشعريّ ولفلسفته في الحياة.

الشعر مسعى دائم إلى "جسد الطفولة وروحها"، إلى "الحياة الحقيقيّة الغائبة"، مصدر الدهشة والآفاق المفتوحة والسؤال الذي لا ينضب، لكنّه مسعى مُهدّد في وجوده ويُحارَب يومياً. يحاربه نسق اقتصادي سياسي ثقافي محكوم بالمردودية المادية والربح، أي بما يولِّد مزيداً من القهر ويدفع الى مزيد من الفقر والكبت والعنف. هذه هي صورة العالم الآن، الآن أكثر من أيّ وقت مضى، ومن يتحرّك خارج هذه الصورة يصبح مهمّشاً، بل، أحياناً،  مَثار استهزاء وسخرية.

ليس جديداً القول إنّ سفينة الشعر مهدّدة بالغرق، على غرار سفينة الفلسفة والفكر، وكلّ ما لا يمكن تحويله إلى سلعة ولا يدخل في معادلة العرض والطلب. غير أنّ الغرق، هنا، لا يطال الشعر والفلسفة والفكر فقط، وإنما يطال أيضاً معنى الحياة على الأرض برمّتها. يطال الحالة الشعرية التي تجعل الحاضر قابلاً للعيش ويغتذي من المستقبل. وكما أنّ انقراض النّحل سيؤثّر على النظام البيئي (إيكوسيستم)، كذلك سيكون الأمر بالنسبة إلى انقراض الحاجات الشعريّة عند البشر، الشعر بالمعنى الأنتروبولوجي وليس فقط بالمعنى الأدبي. الشعر بصفته نظرة إلى الحياة والعالم، ضمن المنظومة الثقافية والاجتماعية ككلَ.

جاء على لسان الكاتب الفرنسي فرنسوا رابليه (١٤٩٤-١٥٥٣) ما يأتي: "العلم بلا ضمير ما هو إلاّ خراب الروح". الضمير، هنا، هو الوعي والفكر والشعور. هو التعامل مع الآلة دون أن يتحوّل الإنسان نفسه آلة. وهو ما يحمي من الاستعمالات السلبيّة للتقدّم العلمي، انطلاقاً من رؤية إنسانية وجمالية تضع العلم في المسار الملائم فلا يصبح وسيلة إضافية لاغتراب الإنسان عن نفسه وعن العالم من حوله.

*

من جهة النقاء (إذا كان لا يزال ثمّة معنى اليوم لهذه الكلمة)، يأتي شعر جورج شحادة. بعيداً عن الجبروت، قريباً من الينابيع الصافية. يتحدّث عن "الذين يمضون لينسوا منازلهم". هؤلاء "لا نشيد لهم/ وإنّما ندى البحر المشتعل/ وإنما الحزن الأبديّ للينابيع". يلحظ "الأفق المرتفع مع الضباب". ينادي الحبّ: "آه يا حُبّي/ ما من شيء نحبّه إلاّ ويمضي كالظلّ"، "كذلك المنحدَر من الشربين/ حيث ينام أطفال من معدن، زُرق وموتى"...

كأنّ الكآبة، هنا، هي الوجه الآخر للصفاء! وهي كآبة لا تعكس حساً مأسوياً أو نظرة عدميّة سوداء، كما الحال مع بعض مجايليه في القرن العشرين، ومنهم، على سبيل المثال، صمويل بيكيت. الكآبة، في أعمال جورج شحادة، تلامس الأشياء والكائنات برفق. تنهمر بصمت وراء النوافذ. يقول عنها، على لسان أحد أبطاله: "نداوي الكآبة بالأسرار"... قد تكون الأسرار نفسها مبعث تلك الكآبة، وانعكاس لغموض الوجود. أما أبطاله فهم منذورون دائماً لهلاك تأخذهم إليه كثرة البراءة، لكنهم، في آن واحد، حالمون ومسافرون. وكم يسطع الحلم في نتاج شحادة، الشعري والمسرحي على السواء. ألم يقل هو نفسه: "من يحلم يمتزج بالهواء"، و"من يقطن الأحلام لا يموت أبداً"؟ كأنّ هذا الكلام رجعُ صدى لقَول شكسبير في "العاصفة": "هؤلاء الممثّلون كانوا أرواحاً تبدّدت في الهواء (...). نحن صُنعنا من مادّة الأحلام نفسها".

العفوية التي حاولت السوريالية أن تستقيها عبر اللاوعي والكتابة الآلية، كانت من خاصّيّات شعر جورج شحادة، وهي التي جعلت بعض أعلام السوريالية، وفي مقدّمهم أندريه بروتون، يهتمّون بشعره. لكنّ شحادة، صديق السورياليين، المواظب على اجتماعاتهم في مقهى "سيرانو" في ساحة "بلانش"، لم يكن سوريالياً.

هناك تعرّف إلى أوكتافيو باث الذي قال عنه إنه كان يأتي إلى تلك اللقاءات "ومعه دائماً باقة من الأمثال اقتطعها للتَّوّ من إحدى أشجار الفردوس".

*

لم تتسنّ لي رؤية جورج شحادة في باريس إلاّ مرّات قليلة في السنوات الأخيرة من حياته. رأيتُ وجهه الناحل متأهّباً يتلفّت كالعصفور، وكنّا في المقهى الذي يرتاده في "سان جيرمان دو بريه". كانت الصورة التي تتكوّن في ذهني عنه مزيجاً من كتبه وممّا رواه لي أنسي الحاج يوم كنتُ أعمل في "النهار العربي والدولي".

أحسستُ في لقائي الأول معه أنني ألتقيه لأودّعه. الوجوه من طينة الغياب، ونحن لا نلتقي إلاّ لنفترق، بعد قليل. لكنني عدتُ ورأيته في "مونبارناس" وفي "مركز جورج بومبيدو الثقافي" حيث تسلّم "الجائزة الكبرى للفرنكوفونية" التي تمنحها "الأكاديمية الفرنسية". ثمّ كان لقائي الطويل معه، بعد رحيله، يوم انكببتُ على ترجمة مسرحيّته "مهاجر بريسبان" التي قدّمها نبيل الأظن ضمن فعاليات مهرجانات بعلبك، صيف 2004.

كشفت لي تجربة الترجمة هذه كيف أنّ شحادة في كتابة المسرح، إنما يكتب الشعر لكن بصيغة أخرى، وضمن الرؤية الشعرية نفسها، حتى حين يتحدث عن سطوة المال وتأثيره في حياة البشر، كما الحال في هذه المسرحية التي تطالعنا فيها أيضاً بعض هواجسه المتعلّقة بالجمال والمرأة والوقت العابر:

"وحده الأبديُّ لونُ العصافير"...

 

 

عيسى مخلوف