كتاب «ديمقراطي» يبني ويهدم بطفولية عنيدة

 

سيرة ذاتية لعيسى مخلوف تتنقل في المكان والزمان وتبقي الأسئلة مفتوحة

 

 

ميزتان أساسيتان، وهما مترابطتان متداخلتان، لا بد تنعشانك وأنت تقرأ كتاب الشاعر عيسى مخلوف الأخير، الصادر عن «دار النهار» تحت عنوان «عين السراب». أما الميزة الأولى فهي في لغته الاستكشافية، الاستقرائية التي تنقلك إلى كون غير ذاك المعتاد، المستهلك، الذي يحد رؤياك ويشل قدرتك على الاختراق. أما الميزة الثانية، المفرحة، التي تعتبر انجازاً، لا بد من الاحتفاء به، فهي قدرة مخلوف على فتح نافذة مضيئة ومشعة في الجدار الأسود الذي تصر الكتابات العربية الصادرة في السنوات الأخيرة على الارتطام به وكأنه سد أمام كل بارقة أمل تجدد شهوتك في البقاء والاستمرار.

يخيل إليك أن الكتب التي تخرج من مطابعنا أعدت في غرف مظلمة، رطبة، جرداء، صماء، أشبه بالسجون الانفرادية المقيتة، وان كتابنا نادراً ما يفتحون أعينهم على ما يغريهم بابتسامة ولو خجول.

عيسى مخلوف يكتب كأنما هو يسرّح جسده وأخيلته في فضاءات الدنيا، مصراً حتى وهو في حجرة لا نور فيها أن يرى ما لا يُرى، وان يسمع ما لا يُسمع، وان يصغي إلى خفقات القلوب ورعشات الدماء في الشرايين، ودبيب الحركة في النبتة الخضراء. انه يتذرع بمحطات حياتية عتيقة أو جديدة في الوطن أو في الغربة لينسج من خيوط حكاياته، التي قد تبدو عادية، للوهلة الأولى، منهجاً في التأمل والرؤيا والتحليل، منهجاً في النظر والبحث والفهم والتأويل. لذلك فإن المواقف جميعها، المشاهد كلها تقدم إليك من وجهة قد تباغتك لكنها، حتماً، تحرضك على قراءة مغايرة لما هو مألوف.

الموت والولادة هما النقطتان اللتان منهما ينطلق عيسى مخلوف ليحكم رسم الدائرة التي يعتبرها «صورة لكمال القمر، والشمس، وبطن المرأة، رمز الخصب والعطاء، وهي مغلقة على أسرارها، يتجاوز عند حدودها العقلاني واللاعقلاني».

وتلفتك حساسية مفرطة من عيسى مخلوف تشابه الهوس في تقصي تجليات الأمومة، ملاحقة المرأة وهي تتأمل بطنها المتكور أمام المرأة، تتواصل مع جنينها ثم يعاين ذاك الخيط السري الذي لا يقطعه الموت بين روحين توأمين، وكأنما الولد حين يغادر رحم الأم، لا يخرج منها بكليته، وإنما يبقى شيء منه في داخلها «قريباً من الموضع الذي يطلع منه النفس والنبض؟».

يذكرك عيسى مخلوف بميخائيل نعيمة حين يجعل الوجود قادراً على التوالد والتجدد من قلب الموت، الموت الذي لا يوازي العدم إنما يقابل التحول والذوبان والانبعاث. لكن مخلوف يتردد أحيانا بين أن يرتاح لفكرة التحول أو أن يقلق لاستغلاق السر، وصعوبة الجزم بما سنؤول إليه فيقول مستغرباً وبذهول: «جميلة هي الأرض الماضية إلى حتفها بسرور نادر».

يصعب عليك، من خلال الكتاب أن تحدد موقفاً واضحاً للكاتب أمام النهايات، إذ «كم هي غامضة كلمة وضوح» على حد قوله، لكنه في كل الأحوال يبقى متمسكاً بتلك الخشبة الصغيرة التي تؤمن له النجاة من الغرق في يمّ الظلمات الموحشة.

غيابان قاسيان ضربا طفولة عيسى مخلوف، رحيل الأخ الأكبر، وموت الطفل الرضيع، لكنه يذكرهما ويقف أمامهما لا لاجترار الحزن وإنما لتفتيق المعاني وتشريحها واستنبات أجنحة صوفية لوقائع أرضية ثقيلة وقاسمة.

نفحة صوفية تخترق الكتاب من أوله إلى آخره، لكن جمالية الكلام الذي يكتسي لبوس محطات مؤثرة، من سيرة ذاتية تتقلب في الأمكنة والأزمنة، هذه الجمالية تنبع، في الجوهر، من بقاء الأسئلة مفتوحة، من دون إجابات قاطعة وحادة. وإذا كان ثمة إجابات هنا وهناك أو محاولة إجابات فهي مرتجفة، مشككة، تطرح نفسها كاجتهاد قلق ينقض نفسه بنفسه.

أجمل الكلام هو الذي يبقيك على عطش التساؤل ويؤجج في ذاتك حيوية فيروس المعرفة الكامن، الخامد، الكسول.

«عين السراب» كتاب ديمقراطي من حيث هو رفض لمقولة واحدة تحاول أن تؤكد نفسها على صفحات متتالية. من الوطن إلى الغربة ومن الطفولة إلى الشباب المنفي طوعاً، ثمة موت وحرب وصدمات وسفر في الأقطار ووقوف أمام لوحات وأساطير ورموز وشخصيات استثنائية وأكثر من أمومة لنساء عاديات، وربما أكثر من حب لامرأة أو مجموعة من النساء، كلها تجارب يصفها «عين السراب» بقلم حائر، مرتجف، بعيد عن الادعاء والمناورة والمجازفة.

ثمة ثابت واحد في الكتاب وهو النزعة الطفولية الشبقة إلى إعادة تشكيل العالم باستمرار، دون تعب، دون كلل، وكأنما الحياة هي هذا البحث الدائم، الدائب، عن صورة جديدة ما أن تبدو بعض ملامحها حتى نفتت أجزاءها لنعيد الكرّة، رغبة في صورة غيرها قد تكون أقرب إلى الحقيقة... تلك الحقيقة المستحيلة.

سوسن الأبطح

")النهار"الشرق الأوسط"، 2004(