أسادور: بناء الخراب

 

 

 

يعلو الصخب في مقهى "الفلور". تتردّد أصداء الضحك في فضائه الدافئ. رنين الكؤوس الحمراء. دنوُّها من شفاه النساء المبتهجات أوّل السهرة، الشفاه المنفرجة عن أسنان تزيدها الإضاءة لمعاناً. النُّدُل، بوَزَراتهم البيضاء الطويلة، يروحون ويجيئون. في أيديهم، الصواني المليئة والفارغة تتحرّك فوق الرؤوس. رؤوس المقيمين في المدينة والغرباء القادمين إليها بحثاً عن ذكريات، أو عن الطاولة التي جلس عليها يوماً إرنست همنغواي.

أسادور القابع، كعادته، في إحدى الزوايا، لا دخلَ له بما يجري حوله، بل إنه يبدو منزاحاً عن مكانه الذي لا وجود له خارج خطوط لوحته وألوانها يحملها في مخيّلته أينما كان. ها هو يأخذ قلماً من جيب سترته ويرسم خطاً أوّل، يليه خطّ ثان، على فوطة ورقيّة كانت أمامه على الطاولة. يرفع نظره عنها قليلاً، ثمّ يعود إليها كأنه يستنطقها. فهو لا يحتمل العيش بعيداً عن الأشكال التي ترتسم أمامه، كالعنكبوت الذي لا بيت له خارج لعابه.

ظلّ أسادور سنوات طويلة يعيش بين هذا المقهى، ومحترفه الكائن في شارع "لودراغون" القريب. كان مجرّد الانتقال إلى شارع آخر، أبعد قليلاً، يضاعف شعوره بالغربة. أصلاً، يكفي أن تسقط قطرة مطر واحدة فوق كتفه لتوقظ في نفسه كآبات العالم كلّها وتتحوّل إلى ذريعة للرسم. يرسم أسادور التصدّع والدمار. تصدّع الذات ودمار المدن. كأنه يراقب العالم دائماً في اللحظة التي تلي الانفجار، وهو يرسم الأنقاض بالأدوات نفسها التي يستعملها المهندسون لتخطيط رسومهم الهندسية. إنها هندسة الخراب التي يتقن الفنان أبجديتها، ويعرف تفاصيلها الحميمة.

كلّ شيء صامت هنا. الصمت الكامل بعد أن يكون قد انتهى كلّ شيء وتوقّف الوقت. توقّفت الأرض عن الدوران. وهذا الكائن الآليّ الجامد وسط اللوحة أو في أحد أطرافها، هو آدم نهاية الخليقة. لا أنثى ولا رجل. أنثى ورجل في آن واحد، ذلك أنّ الفارق الجنسي يحتجب وراء الجوهر. هذا الكائن لا يحتاج إلى حركة لكي يتحرك ولا إلى كلمات لكي يتكلّم، وهو أصلاً لا يبحث عن معنى. مراقبة اللغز لا تعني، بالضرورة، السعي إلى فهم ما يتعذّر فهمه. الشخوص المبعثرة، هنا وهناك، على مساحة اللوحة، هي لتوكيد الغياب والصمت فحسب.

لوحة أسادور مأهولة بعناصر هندسية، خطوط مستقيمة، عموديّة وأفقيّة، دوائر ومربعات. غيوم متعدّدة الألوان تحمل ذرّات تنذر بالخطر. إشارات المرور، يميناً ويساراً، لا تشير إلى شيء ولا تفضي إلى مكان محدّد. أمّا العلامات والأسهم، وكذلك بعض الأحرف والأرقام، فهي لا تعني شيئاً خارج وجودها التشكيلي. المعطيات المعروفة يتمّ توظيفها في اتجاهات أخرى. فالواقع هنا يذهب أبعد من الواقع، واللحظة المرئية تنحو إلى الحلم.

لم يعش أسادور في معتقلات النازيّة أو سجون أنظمة الاستبداد العربية، ليتعرّف إلى الخواء في حدوده القصوى وإلى ذاك الصمت الكاسِر. السكون الذي في أعماله ليس السكون المتواطئ مع الأبديّة، المتحالف مع وهم الخلاص، كما في أعمال فنّاني مصر القديمة، بل الآتي من الجروح الغائرة في النفس، السابقة للولادة ذاتها.

 من خلال أعماله، الزيتية والمائية والحفر، يسائل أسادور العالم المحيط به، في شقّيه الوجودي والواقعي: وجع الوجود نفسه وتحسّس الوقت العابر والموت من جهة، ومظاهر العنف من جهة أخرى. العنف المسلّح بأسلحة الدمار الشامل وأشدّها تدميراً وفتكاً الأسلحة النوويّة، فضلاً عن أنّ الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على إفناء جنسه وسائر الأجناس الأخرى. ثمة عنف آخر يتمثّل ليس فقط في المدن التي هدمتها الحروب، وإنما أيضاً في المدينة المعاصرة المزدهرة وفي رأس المال المنتصر. الأشكال نصف الدائريّة التي طالعتنا في بعض محفورات أسادور، والمثبتة في الأرض بدعائم من فولاذ وحديد صلب، تحيلنا إلى المصانع التي تتصاعد منها الأبخرة والدخان والتي تذكّرنا بفيلم "ميتروبوليس" لفريتز لانغ وتعكس رعب الآلة الصناعية في العصر الحديث، وحالات الاستلاب والغربة.

ينفتح أسادور على أساليب وتوجهات كثيرة، من الفن الفرعوني إلى الفنّ اليوناني القديم، ومن مدرسة الباوهاوس الألمانية إلى تجارب فنية تتمثل في أسماء كثيرة منها أوتشيلّو، بيارو ديلا فرانشسكا، جاكوبو دي باربري، جيورجيو دي كيريكو، فرانسيس بايكن... في هذا السياق، يلتفت أسادور أيضاً إلى أهمية التكعيبية وعلاقتها بالأشكال الهندسية خاصة مع كلّ من بيكاسو وبراك. التكعيبيون رسموا الأشياء كما فكّروا فيها وليس كما هي في الواقع. فكّكوا الأشكال ونظروا إليها من جوانبها المختلفة. وإذا كان أسادور قريباً من هذه النظرة التصوّريّة في الفنّ، فإنّ تصوّريّته- وهنا تكمن إحدى خصائصها- غير منفصلة عن الحدس والانفعال.

أدخل إلى محترفه. أنظر إلى اللوحة التي عمل عليها طوال الأيام الماضية، وظننتُ أنها وصلت إلى نهايتها. كان القسم الملآن فيها يواجه القسم المنزَّه شبه الفارغ، يتمرأى فيه ويتكامل معه. أما الآن، فألاحظ أنّ الريشة تحرّكت في كلّ الاتجاهات وملأت كلّ الفراغات. وهكذا اكتملت دورة المتاهة المكتفية بذاتها.

يصعب على أسادور الانتهاء من اللوحة والانتقال إلى لوحة جديدة أخرى. فهو يبدأ لوحته دائماً من جديد، ويحفر كأنما في مكان واحد من الأرض، إذا ما تخلّى عنه يشعر بالاقتلاع.

مساء أمس، مررنا معاً أمام محلّ العتائق في ساحة "فورستانبمور". صاحبة المحلّ تشتري من الكنائس القديمة التماثيل التي شاخت، تماثيل القديسات والقديسين، فتعرّيها من ثيابها ومن قداستها. تنزع عنها، في الغالب، شعورها المستعارة، ثمّ تعرضها في واجهات محلّها.

 وقفنا أمامها كما نفعل في العادة كلّما مررنا من هناك. بعد أن أطلنا التحديق فيها وامتزجت نظراتنا بنظراتها الغريبة الساهية، تركنا الساحة الصغيرة وقد أضيئت مصابيحها، والمطر الخفيف يرافقنا ويُرَبِّت على أكتافنا.

 

عيسى مخلوف

 

("السفير"، 6 أكتوبر 2015).