"عين السراب" لعيسى مخلوف: كتابة الشعر خارج القصائد

 

في عصر المعلوماتية كثيرا ما يطرح السؤال هل سيأتي يوم يستعاض فيه عن الكتاب بالأنترنيت؟ قد يأتي الجواب قاطعا بالنفي. ذلك أن الكتاب وحده يتيح لك فرصة الحلم بينما أنت تتأمل في صفحاته وتسافر عبره انطلاقا من صورة تزين الغلاف وعنوان يسائل عقلك أو يستثير خيالك. جاءني هذا الخاطر حين وقعت عيني على كتاب عيسى مخلوف "عين السراب" الصادر في 147 صفحة عن دار "النهار"، فأحسست بشيء ما يشدني إلى القراءة. لعله العنوان بما فيه من رمز وغرابة تبعث الفضول، أو لعلها لوحة ماتيس التي تتصدر الغلاف ويسيطر عليها مناخ من انعدام الوزن فتتخفف الأجساد العارية من حسيتها وتتحرر من قانون الجاذبية لتصعد كالطيور إلى السماء، ولتستسلم لدوران كأنه رقص أو حلقة ذكر. ثم اكتشفت أن اللوحة هنا ليست مجرد زينة أو إضافة، بل أن ثمة علاقة وثيقة تربطها بالتجربة التي تشف عنها الصفحات والتي يوحي بها العنوان في إشارة خفية إلى الرؤيا التي تتجلى في الكتابة عندما يراد لها أن تكون فعل كشف. وكما أن السراب خيال هارب، كذلك الحقيقة التي تلتمع في الرؤيا تبتعد كلما اقتربت منها اليد التواقة إليها توق الصحراء إلى الماء. هكذا يضعنا الكاتب منذ لحظة التماس الأولى أمام إشكالية الكتابة ومحدودية الكلام موحيا بعظمة الصمت وهو وحده لغة المطلق وما عداه محاولات ناقصة للدخول في سره. "ما أرويه ليس إلا جزءاً مما لم أر/ ولو رأيت لما رويت"، يعلن الكاتب في مستهل كتابه وكأني به ينطق بلغة المتصوف، فهو موقن ان الكتابة ليست إلا تعويضا عن بلوغ الحقيقة المستحيلة وان الكلام ليس سوى كذبا يطمح عبثا أن يكون يقينا. والكلام في "عين السراب" حكايات وتأملات وخواطر في الإنسان والله، في الحب والبغض، في اليأس والرجاء، في الحياة والموت، في الحرب والقتل وفي الطبيعة وما وراءها. الحكايات بعضها خيوطه منسوجة من حبال الذاكرة، وبعضها تكتبه يد الحلم، يتكسر فيها الزمن وتتداخل الأمكنة فتأتي مدهشة بغرابتها مكتسية طابعا سرياليا أكيدا. غير أن نسغا واحدا يغذي النصوص المتنوعة التي يتألف منها الكتاب هو الشعر كما يتجلى في الحدس بالخفي وفي شفافية الرؤية وفي اعتماد لغة المجاز والصورة الموحية. وإذا كان الشعر سفرا فإن عيسى مخلوف الذي اختار السفر لا مجرد ابتعاد عن المكان الأصل بل وسيلة حلم، شاعر بحق. هو يسافر تارة على أنغام صوت الشاعرة اليونانية سافو وهي تنشد قصائد الحب واللذة، تعبر الوقت لتظهر أمامه في بهائها "حلما ينبت على حافة الليل"، يراه في "شرفته المطلة على مطر خفيف يضيع في الضباب"، تعطيه "كل الفراديس المتخيلة في صوتها، وكل أجراس أوديتها وسماواتها" (ص.17). وهو يرتحل طورا متأملا في لوحة خطتها يد رسام ماهر تجرد الموت من قسوته لتجعل منه درب ارتقاء وصعود. في جسد القديس سيباستيانوس تتحول طعنة الخنجر إلى بهاء وزينة، لأنه بالموت يشرق فيصبح الجرح النازف "احتفاء بالانخطاف لا بالموت" ويغدو القتيل مطعونا لا بخنجر بل بنور (ص41.(

سواء ارتحل الكاتب بالجسد أم بالفكر يحركه الشغف نفسه بالإنسان المسكون بهاجس السر، التائق إلى ما يتجاوزه. في "مغارة لاسكو" تستوقفه يد رسمت خطوطها على الجدار ريشة فنان في العهود السحيقة، فإذا بتلك "اليد المفتوحة على المجهول المحوطة بهالة حمراء، هي يدنا العارية، من أول الطريق إلى نهايتها" (ص.37). يد ترتفع لتدق على أبواب الغيب الموصدة، وتمتد عبثا لتوقف الوقت الذي يمضي بنا إلى زوال لا مناص لنا منه إلا بإرادة الخلق وبالإبداع الفكري. فالرسم يبقى بعد أن يطوي الموت اليد التي رسمت. ولعل مسألة الموت تشكل الحجر الأساس في بناء الكتاب الذي يقع في وسطه نصان أساسيان يحملان العنوان تفسه تقريبا: "الغياب الأول"، "الغياب الثاني"، يروي الكاتب فيهما مأساة موت الأخ الأكبر في سن الحادية عشرة، تلك المأساة التي وضعته وهو لم يتجاوز بعد الثماني سنوات في مواجهة الموت وما يرافقه في القرية اللبنانية من طقوسية تزيد من عتمته وتعمق لغزه. وهو إذ يصور الحدث-المأساة بأدق تفاصيله إنما يحاول أن يبرأ من أوجاع مدفونة منذ الطفولة في أعماق الذات فيخرجها إلى السطح متوسلا الكلمة كتعويذة تبلسم الجرح وتشفي من الألم. ينزع الموت حينها عن وجهه قناع الرعب ويكشف عن الضوء الذي يخفى وراءه "هناك حيث يرقد المطر المشتعل في أعلى الهواء" (ص.70). تتكثف الصورة وتخطفنا إلى عالم تظهر فيه الأشياء خلافا لما عهدناه وتنقلب فيه قوانين العقل والمنطق. فالفضاء مسرح لحريق لهبه المطر المعلق بين الأرض والسماء خيوطا من نور، فإذا التراب الذي إليه نعود يتلألأ ضياء؛ كأننا بالموت نخرج إلى الحياة الحقيقية فهو ليس إلا سفرا "خارج أمكنة الغربة وخارج الخوف والبرد والانتظار" (ص.70)، أو غيابا يعمق الحضور ويجذره في القلوب ليصير "هو نفسه العزاء". يصدر هذا الموقف عن انتماء أصيل للمسيحية كتوق روحي يسمو بالإنسان فوق ماديته ويفتح أمامه أبواب عالم فسيح لا يحكمه الوقت ولا يشوبه الخوف. ولعل في ذلك ما يفسر المناخ الجبراني في بعض النصوص، أو أوجه التقاطع في بعضها الآخر مع المفكر المسيحي باسكال، كما في هذه السطور حيث يتأمل الكاتب علاقة الإنسان بالزمن: "كل ما هو حاضر، الآن، يذكرك بالغائب، أو كأنه من جهة الغائب يأتي… لا نعيش اللحظة القائمة فعليا بقدر ما ننهمك في تهيئة المرحلة التي ستصبح فيها تلك اللحظة رماداً" (ص.27). من جهة ثانية، للرموز المسيحية أثرها في لغة عيسى مخلوف؛ يقول: "الشجرة الوحيدة مظلتي. الشجرة التي تنمو خارج السماء والأرض" (ص.22) في إشارة إلى الصليب وقد غدا شجرة الرجاء للبشر: "شجرة واحدة هي شجرة الرجاء" (ص17)؛ وما اليأس إلا "نقصان في الحب" أي ابتعاد عن المسيح وسقوط في "المشاعر الوضيعة" وهي "الحقد والبغض والخبث والحسد"، "مشيئة الحرب والمطر الأسود المتساقط فوق هيروشيما، ومنذ هيروشيما، فوق العالم بأسره" (17). يطلق الكاتب صرخة الخطر في وجه الإنسان المغرق في ماديته المستسلم لرغبة السيطرة مستقويا على الضعفاء مغتصبا حرمة النبات والحيوان والجماد. يحن إلى عالم فردوسي قديم دمره عصر التقنية والاستهلاك حيث آلة الحرب تحصد البشر وتعيث فسادا في الأرض، تسمم النبات وتلوث الهواء وتحول الكون الذي ارتضاه الله للبشر مقاما إلى بيئة معادية: "نقتل لنأكل. نصطاد الطير في سمائه والسمكة في بحارها. نذبح الحيوان والعشبة نقطعها من الجذور. وثمة من في الخفاء يقتلنا ويأكلنا" (ص.63). أمام هذا الواقع ينكفئ صاحب القلم إلى عالمه الخاص حيث يتصالح الإنسان مع الكون وتتحقق الوحدة والانسجام: "أنظر إلى الأشجار شجرة شجرة، والى الحجارة حجرا حجرا. أنظر إليها وأعرف أن تاريخا طويلا يجري بيننا وأن عودتنا إلى الماء الواحد وشيكة" (ص39). وللمرأة مكانتها المميزة في نصوص الكتاب. ففي زمن التشيؤ حيث يباع جسد الأنثى سلعة في سوق الدعاية والاستهلاك، يعيد عيسى مخلوف لهذا الجسد بهاءه الأصلي وبراءته الأولى يستمدها من الأمومة. الثدي العاري لا يحرك غريزة ولا يبعث الرغبة بلذة آنية بقدر ما يثير الإحساس بجمال الأمومة المنحنية على الطفل ترضعه مع الحليب الحنان: "حركة الأثداء التي تتقدم تفضح الأمومة قبل أوانها. قد تقول إنها جميلة بدون الأمومة، لكن هل يستقيم جمالها بدون وظيفتها التي من أجلها نحتت وتكورت" (ص29.(

ثمة نفحة مثالية يعبق بها الكتاب تضعه ضمن تيار أدبي يرتسم على ساحة الكتابة اللبنانية المعاصرة، يتجه نحو منحى روحاني صوفي ويعبر عن نفسه في أعمال عبده وازن وعقل العويط وندى الحج وآلان تاسو. فالكتابة كما يمارسها عيسى مخلوف سفر في باطن الأشياء وخفايا الذات بحثا عن الوجه الآخر للحقيقة: "نسافر لتكتمل الأبجديات الناقصة… نسافر لنتعلم لغة الأشجار التي لا تسافر… لنبحث عن آلهة أكثر رحمة" (ص11). يصبح السفر غاية في حد ذاته لأن المرفأ ينأى كلما اقتربت منه السفينة، يؤاخي بين المسافرين الذين يجمعهم على اختلاف هوياتهم الشغف نفسه. وليس إعجاب الكاتب برامبو الذي اختار التيه في صحراء الشرق حيث يولد النور الأول، وببورخيس الذي منعه العمى من رؤية الشمس لكنه فتح له نافذة على ما لا تراه العين ولا تدركه الحواس، إلا تعبيرا عن رغبته بالانتماء لهذه العائلة المسكونة برغبة التجاوز: "من قال إن الأعمى لا يرى. فهو يرى لكن على طريقته. يرى وحدة المعدن وعزلته الرهيبة مضغوطة في الأعماق" (ص34)؛ إنه الذهب الذي جعل منه الفلاسفة القدامى رمزا للحقيقة الخفية.

يسوق عيسى مخلوف تأملاته بلغة جميلة تقوم على الصورة الغريبة تلك التي تقيم الجسور بين المحسوس واللامحسوس وبين ما تراه العين وما تسمعه الأذن أو تلمسه اليد. وتظهر براعته في المؤالفة بين لغة التقرير ولغة الشعر في خواطر لها طابع الحكمة لكنها تصدر عن إحساس مرهف وتجربة صادقة ذات شفافية ملفتة، كما في قوله: "لا يمكن أحدا أن يمتلك أحدا ولا شيئا. لا يمكن أحدا أن يمتلك حتى نفسه. ترى ماذا يمتلك النهر المتدفق؟ النجمة المضيئة…؟" (ص21). وتكمن خصوصية الكتاب في الثقافة الواسعة التي يتمتع بها صاحبه والتي توفرت له من خلال تنقله في العواصم ومعرفته الوثيقة بحضارة الغرب والشرق وشغفه بالفنون المختلفة. نراه يتوقف تارة عند لوحة لفان غوغ أو لرامبرندت، وطورا يتذوق معزوفة لشوبرت، مرة يستذكر "تاج محل" ومرة يسائل نفسه عن سر انجذابه لمساجد القاهرة ومآذنها (ص110). ويقترن اهتمامه بالرسم والنحت والبناء والموسيقى بانتباه خاص لأشياء الطبيعة الأكثرها بساطة. يقاسم زهرة الجيرانيوم المنسية على شرفة مهجورة وحشتها، ويدخل في حزن شجرة خريفية ذبلت أوراقها وبعثرتها الرياح. ولعلنا لا نجافي الصواب لو قلنا أن الكاتب يكتب بحواسه الشديدة التيقظ وأن ما تلتقطه الحواس من صورة وصوت ورائحة يشكل الشرارة الأولى لالتماعات الذهن: "الرائحة أولا. رائحة الأعشاب البرية. الهواء المغتسل بالأمطار. رائحة بقايا الحليب الذي نسيه الوليد على حلمة الثدي…"، " نقرة البيانو المتمهلة الخفيفة" تأخذه إلى عوالم بعيدة وتفتح أمامه آفاق الحلم والافتتان.

يبقى سؤال أخير تصعب الإجابة عليه بصورة قاطعة: إلى أي نوع أدبي ينتمي كتاب "عين السراب" الذي يجمع بين الحكايات القصيرة والخواطر والمذكرات وأدب الرحلة ويغذيها جميعا بنسغ واحد، لغة تأخذ من الشعر بريقها ومن الحكمة رونقها ومن الحياة ديناميتها؟ لعل الكتاب يعصى على التصنيف لأن كاتبه أراده تفجرا داخليا، دفقا من الأعماق تنساب في الحبر، لا يحبسها قالب ولا تحد من حريتها قيود تفرض من خارج. ولعل أجمل ما فيه هو ذلك الإحساس المرهف بالإنسان والكون، وتلك الشفافية التي لا تتوفر إلا لمن اغتسلت نفوسهم بالمحبة وأضاءت قلوبهم بنور الإله لتغدو كلماتهم نافذة يطلون بها عليه: "هو البسيط كالألف"، هو الواحد المتعدد. الضابط الكل… حجابه لا يخفي جماله ولا عطايا نوره بل يزيدها بهاء" (35). بهذه الكلمات يسمو النص ليرتفع نشيد صلاة فيغتني الكتاب ببعد صوفي إشراقي يزيد في متعة القراءة.

 

زهيدة درويش جبور

)"النهار"، 23 آب/ أغسطس 2001(