الفنّ مرادف للأمل حتى في ذروة تعبيره عن اليأس

 

 

نادرة هي الأعمال الفنية التي استوحت الحرب الأهلية اللبنانية وارتقت بها إلى مستوى الأعمال العالية، إنسانياً وجمالياً. «تقاسيم ما بعد العراك» للمخرج والفنان المسرحي ناجي صوراتي، التي تُعرَض في «مسرح المدينة» في بيروت، تنتمي إلى هذه الندرة.

ولئن كانت المسرحية تنطلق من نصوص جميلة ومعبِّرة لنصري الصايغ، فإنّ اللغة الأساسية التي اعتمدت عليها تكمن في الإخراج وفي حركة الجسد وأدائه وتفجير طاقاته وإمكاناته بما يتلاءم وموضوع العنف. لغة الجسد، هنا، كانت هي المتن، وكان الجسد بطل الاحتفال. بانقباضه وانسيابه، بتشنّجه وارتخائه، وباندفاعه نحو الحدود القصوى، كان يقول غريزة العنف التي يتعذّر قولها في لغات أخرى. القتل لا يحتاج إلى وسيط. حين يتأهّب جسد للانقضاض على جسد آخر، يخرج من الحنجرة صوت، بل صراخ غريب وبدائي تضيع معه الحدود بين الإنسان والحيوان.

هكذا يبدو الجسد على الخشبة مركزاً للانفعال وليس مجرّد وعاء له. يتحرك في الاتجاهات كلّها. يدبّ ويزحف. ينكمش ويتكوّر. يعلو. يسقط. ينتفض. يستكين. هي الأجساد تتعارك في ما بينها مدفوعة بقوة غامضة تجعلها نهباً للموت. ليس الموت الطبيعي الذي يقول عنه المتنبي إنه يقتلنا بدون قتال، بل الموت الذي يسببه الإنسان لشبيهه، وهو أرهب وأعنف بكثير من الموت الأول الذي لا مفرّ منه.

لحظة القتل تحيل الإنسان دائماً على المرحلة الأولى في التاريخ، على الجريمة الأولى التي لا نزال نلتفّ بعباءتها. القتل سابق للكلام. لا يتكلّم ولا يحمل رسالة. وإذا كان ثمة رسالة ما من وراء القتل، فهي لا تزال مبهمة وخارج إدراكنا.

تنطلق المسرحية من الحالة اللبنانية حيث المرء رهينة لهويته الطائفية ولمملكة الطوائف الرهيبة وتآكلها المتواصل لنفسها، وتنطلق من عنف الحرب الأهلية وما سببته من قتل وتدمير وخراب. تكشف عن الوجه المفترس المختبئ وراء قشور حضارة لم تصبح حضارية بعد. تقول إنّ المخبرين والقناصة وواضعي السيارات المفخخة يقيمون بيننا، في الشارع والمقهى. يجاوروننا في صالات السينما. يبتسمون لنا ونبتسم لهم ولا ندرك أنهم المقلب الآخر لنفوسنا. أولئك القتلة لا يقتلوننا فقط، بل يطرحون علينا أيضاً سؤالاً يتعلّق بطبيعة وجودنا كبشر، لأنهم يفضحون الوحش الكامن في أعماقنا.

من مكان محدد تنطلق المسرحية إذاً، مثلما انطلقت أفلام سينمائية وأعمال فنية وروائية كثيرة، لكنها تندرج في إطار إنساني يجعلها تلامس موضوع العنف في العالم أجمع. أليست الحرب أمّ التاريخ البشري ومُرضِعَته؟ في زمن الحرب - وهو زمن خاص قائم بذاته - يصحو الحيوان داخل الإنسان وتكون الغرائز سيّدة الموقف، أما على الخشبة فحركة العنف تندرج في سياق آخر وضمن معايير فنية مدروسة. هدم الهندسة هناك، تقابله هندسة الهدم هنا، تلك الهندسة التي شاهدنا نماذج رائعة منها في لوحات جيروم بوش وغويا وموزيتش، وكذلك في أجواء «الجحيم» في «الكوميديا الإلهية» لدانته. في ذاك الجحيم لا مكان للأمل، بل للتوتّر والغضب والهيَجان. للأظافر المسنونة والأسنان المروَّسة واللعاب المسمَّم.

«مسرح القسوة»

تنهض مسرحية ناجي صوراتي، بصورة أساسية، على الإيقاع. مثلّث الموسيقى والرقص والحركة يرسم الإطار الأمثل للمعركة بصفتها احتفالاً مأسوياً مظلماً. منذ البداية، كان كلّ شيء جاهزاً لهذا الاحتفال: الأجساد شبه العارية، الشعلة المتمايلة في صوت المرأة الصادح وكأنه رجع صدى لنار مشتعلة في ركنين من الخشبة، المربّعات الخشبية، الأجنحة الطائرة والقواعد المستديرة التي تشبه دروع المحاربين القدامى... إنه الرقص يحتضن العمل وصولاً إلى لحظة الشطح مع الأجساد التي تستحيل دوائر أسطوانية متحركة كأنما هي حركة الأجرام السماوية في دورانها المستحيل. حيال هذا المشهد، لا نعرف ما إذا كان الراقص يعانق نفسه أم ينعتق عن نفسه وعن العالم معاً. أمّا لحظة الختام فتأتي متوَّجة بتلك الكمنجات الثملة من الوجع وهي تتمتم أغنية من أغنيات «الجمعة الحزينة». ذاك الاحتفال الطقوسي والصوفي يرفع الموت إلى مستوى السر ويجعل الفن كأنه ردّ فعل ليس فقط على العنف والبربرية، وإنما أيضاً على عبثية الوجود الإنساني بأكمله.

ينهل ناجي صوراتي من تجارب ورؤى مسرحية يأتي في مقدمها أطروحات أنطونان أرتو التي أحدثت ثورة في المسرح من خلال ما كتبه عام 1936 بعنوان «المسرح وقرينه» أو «مسرح القسوة». وتقضي تلك الأطروحات بإدماج الحياة في المسرح عبر الجسد وانفعالاته وصرخته الرهيبة المدوّية، وعبر تفجير الطاقات اللاواعية، وذلك من أجل استرداد المعنى الضائع للبعد الروحاني والماورائي. طالعنا هذا التوجّه المسرحي، ومنذ الستينيات من القرن العشرين، في تجارب مسرحيين كبار في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية والعالم العربي. أما ناجي صوراتي، فهو يزاوج بنجاح بين هذه الرؤية المسرحية وتجليات بعض أشكال الرقص. ولقد عمل على تكثيف العناصر المشهدية وتوظيفها في هذا الإطار.

أسئلة الفنّ

ألا يطرح الفن السؤال الجوهري حول كيفية الخروج من دائرة العنف، وهذا أمر متعذّر إذا لم يكن ثمة مسعى إلى أنسنة الإنسان وتمدينه، وهنا يكمن التحدي الأكبر ونحن لا نزال في مطلع الألفية الثالثة؟ أم أننا سنظل مستسلمين إلى أقدارنا كأبطال الأسطورة الإغريقية، نتمزق بين جناحين: أول يأخذنا في اتجاه المثل العليا، وثانٍ يهبط بنا نحو أبشع صورة للحيوان الكاسر الذي تتضاعف خطورته، في الزمن الراهن، مع التقدم التقني والتكنولوجي حين يتمحور هذا التقدم حول الربح والاستئثار والسيطرة ولا يأخذ في الاعتبار الحرية والعدالة والمساواة.

نهاية الثلاثينيات، غنّت المغنية الأميركية بيلي هاليداي قصيدة بعنوان «ثمار غريبة»، وكانت تقصد بها السود المتدلية أجسادهم من أغصان الأشجار بعد أن قضوا شنقاً في جنوب الولايات المتحدة. أدانت الأغنية تلك الممارسات المتوحّشة، وشكّلت موقفاً يعدّ أحد المظاهر الأولى لحركة تنادي بالحقوق المدنية هناك.

الفن، في هذا السياق، مرادف للأمل حتى وهو في ذروة تعبيره عن اليأس. قد يحرق أصابعنا ليوقظنا من غفلتنا، لكنه لا يحرق روحنا بل يساعد على إيقاظها، ويساعد أيضاً على إعطاء معنى لوجودنا خارج ما يعمل يومياً على تشويه هذا الوجود، في السياسة والاقتصاد والثقافة. والحال هذه، هل نخاف الفنّ أم نقصان الفن؟ ألا يمثّل تراجع الفنّ وضموره نذيراً بالخطر؟ رأس المال الذي يتحكّم بمصير العالم اليوم يغفل أنّ نهاية الفن كنفاد الماء على سطح الأرض، انتصار للتصحُّر الجغرافي والإنساني على السواء.

مسرحية ناجي صوراتي تكشف لنا، بصورة فنية عالية، عن ملامحنا الدفينة. تجعلنا نطرح السؤال حول ما يتحرك في دواخلنا ويدفعنا إلى اقتراف الأفظع. وهي ليست، بأي حال من الأحوال، عملاً عنيفاً، بل تفضح العنف، تتأمل فيه وتعرّيه. يصبح الممثلون على الخشبة مرايا مصقولة نرى فيها وجوهنا. من هذا المنطلق، يدفعنا الفنّ إلى وقفة نقدية مع الذات، بعد أن يعلن انحيازه إلى ما يرتقي بالإنسان ويحوّل غرائزه القاتلة إلى طاقات إيجابية فلا يبقى عرضة لنوازع تتحكّم به وبمصيره.

 

 

عيسى مخلوف