عبد اللطيف اللعبي في "منطقة الاضطرابات"

 

 

 

كتاب "منطقة الاضطرابات" هو كتاب الجسد، أو بالأحرى كتاب الذات عبر الجسد، هذه المركبة الفضائية التي تحطّ بنا من بطن المرأة على الأرض لا يمكن النزول منها والعودة إليها كما فعل نيل أرمسترونغ على سطح القمر. نكون إذ هي تكون، أو لا نكون!

جسد الرغبة والإغواء هو نفسه جسد المرض والموت. جسد القوة الفظّة والعضلات، جسد الرجولة الهاذية، مقابل الجسد الهشّ والمائل إلى السقوط. مقابل جسد المرأة وعدوّه الوقت الأكثر إيلاماً... لا يمكن الإنسان أن يحيا دون جسده الذي يموت.

إنّ اختزال الجسد الأسير ضمن الحيّز الضيّق لا يضع حداً للحلم، للغوص داخل الذات وبلوغ أبعد المجرّات، وهذا ما خبره عبد اللطيف اللعبي قبل أن يختبر تلك المعارك التي تجري داخل أجسادنا على غفلة منّا. وهو يفتتح كتابه بالكلمات الآتية: "هدأ الألم العضويّ/ يمكنكَ أن تحلم في الكتابة". وفي مكان آخر، يقول: "لتكن عتمتكَ دليلك"...

نعرف أنّ الجسد جهاز معقّد، خارق وغريب التكوين، ومعرّض لأن يصاب بأعطال خطيرة. لكننا ننسى أو نهمل هذه النقطة عندما نكون أصحّاء. حين نصاب بالمرض وندخل "منطقة الاضطرابات"، حين يستيقظ في الجسم، فجأةً، جيش الخلايا القاتلة، نفاجأ به كأنه حدث طارئ يأتينا من الخارج. من مكان لا دخل لنا فيه، منفصل عن ذاتنا التي تشعر وتفكّر.

يصعب على العقل الديني أن يتخيل هذا الجسد ميتاً. يخترع له منافذ للخلاص، يعده بالقيامة وبسعادة ما فوق أرضية. وفق هذا المنظور، ينتهي الجسد هنا ليبدأ هناك، إذ يتعذّر على الإنسان أن يتصوّر أنّ وجوده سينتهي بشكل قاطع. أنّ الموجود لن يعود موجوداً على الإطلاق! العلوم تنظر إلى الجسد نظرة موضوعية مختلفة، تعتمد على دراسة البيولوجيا والاختبار، على الأفعال وردود الأفعال. ولئن كان بعض العلماء يؤمنون بأنّ ثمة سراً، فهم لا يتجرأون على إثارته طالما أنهم لا يمتلكون معطيات الحسم اللازمة وهم غير قادرين على إثبات شيء في قلب هذا المجهول.

هذه المعاينة ليست جديدة ولم يأت بها تطوّر الطبّ الحديث. في كتابه "خطاب المنهج"، تحدّث ديكارت في القرن السابع عشر عن الجسد بوصفه "آلة لا مثيل لنظامها وتنطوي على حركات أكثر روعة من كلّ الآلات التي يمكن أن يبتكرها البشر". آلة هو، لكنه ليس آلة فحسب، إذ كيف يمكن أن تكون الفكرة التي تولد من الدماغ، أي من الجسد، أقوى من الجسد؟ الدماغ الذي يحتوي على أكثر من عشرة مليارات خليّة عصبيّة والجزء الأكبر من طاقاته غير مكتشف بعد، هو أيضاً، كالجينات، كوكب تكتنفه الأسرار.

إذا كانت النظرة الطبية والفلسفية للجسد تنحو هذا المنحى، فإنّ الرؤية الشعرية في كتاب عبد اللطيف اللعبي، تأتي من مكان آخر. تنطلق من اللحم والدم والعظام ومن وحدة الجهاز العصبي، لتذهب أبعد من ذلك، في اتجاه البحث عن موقع الإنسان في الكون وعن طبيعة الصراع الذي يعيشه يومياً مع الألم والموت، ويجعله في معركة مستديمة مع نفسه ومع المحيط العامّ من حوله. في ما وراء تناولها لأحوال الجسد ومعناه، تطرح كتابة عبد اللطيف اللعبي السؤال أيضاً عن معنى الكتابة نفسها حيال التغيّرات الكبرى التي يشهدها العالم. الكتابة، هنا، ليست فقط معركة استرداد العافية، بل هي أيضاً معركة الفعل الأدبي الذي لا يزال بإمكانه أن  يحلم ويهجس بالجمال، أن يجمع ويواسي، رغم بذاءة المال المنتصر، ورغم انحسار الحيّز الخاص الذي تضؤل معه إمكانيات التأمل والحلم، الشعر والفلسفة، والإبداع الفنّي على العموم.

 

عيسى مخلوف 

(أُلقيَت هذه الكلمة في معرض الكتاب في بيروت عام 2014).