عيسى مخلوف يحتفي بفن الرسالة ويرثيه

 

"رسالة إلى الأختين" كتاب الشاعر عيسى مخلوف الصادر حديثاً عن دار "النهار" (بيروت)، ليس هو بالرواية التي تتوسّل فن المراسلة على عادة روايات كثيرة، وليس هو أيضاً ديواناً شعرياً يعتمد تقنية الرسالة على غرار ما فعل بعض الشعراء قديماً وحديثاً. قد يكون هذا الكتاب بحسب ما يوحي عنوانه مجموعة نصوص اتخذت ظاهراً طابع الرسالة كي تتمكن من الجمع بين تلقائية الكتابة الحرّة و"موضوعية" الرسالة بصفتها نصّاً موجّهاً من كاتب (مرسل) إلى قارئ (مرسل إليه)، على أنّ القارئ هنا قد يكون قارئ الرسالة تحديداً (امرأة بلا اسم) والقارئ في المعنى الشائع وهو قارئ الكتاب أياً كان. إنّها إذاً لعبة مرايا خصوصاً عندما يبدو الكاتب - المرسل أشبه بالراوي الذي يستعيد أجزاء من ماضٍ غراميّ سارداً إياها للعشيقة التي من المفترض أن تمثل "المرسل اليـ(هـ)ا". لا يفتأ الراوي يذكّر العشيقة (التي كانت) بما جمع بينهما طوال علاقتهما وكأنه لا يكتب الرسائل إلا ليكتب ذاته معيداً اكتشافها على ضوء العلاقة تلك. لكنّ اللافت أن الرسالة التي يكتبها لا تلتزم مبدأ "الموضوعية" الذي تفترضه كتابة الرسائل عادة، بل هو يكسر هذا المبدأ جاعلاً مادة الرسالة ذاتية بامتياز. إنها رسالة ونصّ في آن واحد، رسالة في معنى مخاطبتها الآخر (الذي هو العشيقة) ونصّ في كونه كتابة تجمع بين التداعي والتذكّر والتعبير الحر والتأمل والتوهّم والتوجّه الشعري.

إنها رسالة حبّ متعدّدة الأوجه: حب العشيقة روحاً وجسداً ينعكس على مرآة الحبّ الذي يكنّه الكاتب - الراوي للمدينة التي تدعى باريس. ومثلما يكشف أسرار العشيقة وأهواءها يكشف أيضاً الأسرار الصغيرة لهذه المدينة التي تمثل الحيّز الأوّل في الرسالة (أو الرسائل). يصرّ الراوي على أن يفاتح قارئه (وقارئته) أنّه يكتب من باريس، مدينته لا مدينة الآخرين، أي مدينة الجمال والفن والشعر، مدينة الكاتدرائيات والمتاحف والحدائق الفريدة، مدينة اللوفر ومتحف بيكاسو وسواهما... هكذا تصبح باريس هي الخلفية "المكانية" للرسائل - النصوص التي يتيح الكاتب لنفسه من خلالها مهمة التأمّل الحرّ والشامل، في ما يحيط به كما في ذاته، في الكتابة نفسها كما في الحياة، في الموت مثلما في المشاعر الداخلية الثابتة والعابرة. "هل يمكن أن نكتب إذا لم يكن هناك مَن نكتب له؟": هذا السؤال الذي يطرحه على "العشيقة" يتخطى حدود الرسالة إلى ما هو أبعد منها: الكتابة. هل يكتب أحد ما إن كان يعلم أنّ ما من أحد سيقرأ ما يكتبه؟ إنها قضية معقدة وحاول أدباء كثر أن يعالجوها ولكن كلّ على طريقته. لكن الراوي سرعان ما يقول لها (العشيقة): "أكتب لكِ اليوم, على هدي مصباحك البعيد، يأخذني نوره إلى المطارح التي تعرفينها بحدسك". لعلّ مثل هذا "الإيضاح" يؤكد طبيعة الكتابة التي يهمّ الراوي بها وهو سيكشف في آخر رسائله (في الكتاب) أنّ رسالته لم تنته على رغم انتهاء الحب: "لكنّي أدرك الآن، وأنا أخطّ الكلمات الأخيرة، أن علاقتنا انتهت في حين أن رسالتي لم تنته بعد ".

يشعر قارئ كتاب عيسى مخلوف أن مؤلفه يحتفي بفن المراسلة، هذا الفن العريق الذي احتل صفحات هائلة من تاريخ الأدب العالمي وأنه يرثيه في الحين عينه. إنه الاحتفاء رثاءً، إن جاز التعبير. فالكاتب الذي يُغرب في "تدبيج" رسالته شعرياً وتأملياً ينتابه شعور غامض بموت هذا النوع من الكتابة، لا سيما في الزمن الراهن الذي فقد هالته الروحية والوجدانية وحوّل "الرسالة" المكتوبة بالقلم والقلب رسالة الكترونية مفضوحة وخالية من السرّ. يسأل الكاتب: "متى يأتي اليوم الذي لا نحتاج فيه إلى كتابة الرسائل؟"، مدركاً تمام الإدراك أن الرسالة التي يكتبها هي بمثابة النصّ الذي لا ينتهي والذي لا "يتجسّد" من جراء التباسه ولا نهايته وانفتاحه على "الحياتي" والماورائي: "بدأت هذه الرسالة مراراً وفي كل مرّة كنت أجد أن الرسالة التي كان ينبغي لي أن أكتبها لكِ لم أكتبها بعد". ولا غرابة أن يطلق الراوي (الكاتب) مثل هذا الحكم بعدما كتب ما كتب من رسائل هي في حقيقتها رسالة واحدة متقطعة زمناً ومادة.

أدب الرسائل كما علّمنا نتاجه المتراكم ليس هو دوماً بالأدب اللامع والجميل. في أحيان كثيرة تقع الأعمال (الروائية خصوصاً) القائمة على "فن الرسالة" في الكثير من التكرار والسأم والنزعة "الأنوية" والتفصيل الذي لا يعني القارئ تماماً. وقد أدرك عيسى مخلوف هذا "الشرك" الذي ينصبه هذا النوع من الأدب فجعل الرسالة ذريعة لكتابة ما يريد أن يكتبه وكأنه يخاطب نفسه قبل الآخر (العشيقة) متأملاً في أمور كثيرة وطارحاً أسئلة فيها من المرارة ما فيها من العمق، وفيها من الأمل ما فيها من الخيبة. وقد يفاجأ القارئ فعلاً بما يقرأ من جمل ومقاطع تنحو منحى شعرياً انطلاقاً من وعي مرهف بما تمثل اللغة من غاية في ذاتها. يكتب الراوي في إحدى الرسائل قائلاً: "يطلق الرامي سهمه إلى أعلى الفضاء ويمضي معه: إلى أبعد الأمكنة نمضي". ويكتب أيضاً: "من يبلغ أقصى الحدود لا يعود يكتب بل يشتعل ويضيء. مَن يبلغ أقصى الخوف لا يعود يخاف". وتأكيداً من الكاتب على أدبية الرسائل و شعريتها وتخطّيها تخوم "الرسالة" المتعارف عليها اعتمد لعبة "الهامش" الذي هو هامشه الشخصي مقدار ما هو هامش الرسالة نفسها. فالرسالة مشفوعة دوماً بـ"هامش" منفصل عنها ومطبوع بحرف مختلف. ولا يخفي "الهامش" طبيعته الشعرية أو التأملية أو الجمالية. ولا تتوانى بعض "الهوامش" عن أن تقوم مقام القصيدة أو المقطوعة النثرية سواء في إيجازها أو في استقلالها اللغوي والشكلي أو في بعدها الداخلي: "يستغيث الغريق أمامنا/ ونحن، من وراء الزجاج،/ نلوّح ونبتسم", يقول أحد "الهوامش". أما "الهامش" الأخير فيقول: "حلّق أيّها الطير. حلّق عالياً، حلّق بعيداً، في كل الاتجاهات. تابع خفق أجنحتك ولا تهدأ. لا تهدأ أيّها الطير". وفي أحيان تتماهى شعرية الرسائل (النصوص) في شعرية "الهوامش" ويغدو بعضها سليل بعضها حتى يحار القارئ إزاء هذا الجنوح الشعري والدفق والحماسة: "من الغيوم تستوحي السماء كائناتها غير الموجودة" يقول الكاتب في إحدى الرسائل. وفي أحد الهوامش: "الباب الذي هناك سيفتح بعد قليل. للوافدين والهاربين باب واحد".

ولئن لم يستطع عيسى مخلوف أن يغفل البعد الثقافي لكتابة الرسائل بصفتها نصوصاً تخاطب الآخر، فهو لم يثقل كاهل تلك الرسائل ثقافياً ولم يستعرض البعد الثقافي (المتاح بسهولة) على حساب الكتابة نفسها. فهو إذ يسأل: "حتى الكتابة ذاتها، هل نعرف ماذا تعني؟" إنما يسعى إلى إيجاد جواب ما لدى الآخر ولكن في سعي عفويّ، ومن غير كلفة أو تصنّع. هكذا ترد جمل من نوفاليس وبودلير وروجيه كايوا... وتحضر كتب وشواهد (تانيزاكي, هيراقليطس...) وكأنها طالعة من قلب النص وليست حالّة عليه من الخارج: "أفكّر هذا الصبح بإيكار. إيكار ليس أسطورة. إنه الانتحار الأجمل في التاريح. الانتحار الوحيد الذي لا يفضي إلى موت".

حاول عيسى مخلوف أن يبتعد عن النماذج الروائية القائمة على فن الرسالة وسعى إلى التخفف من التفاصيل والموضوعات (التيمات) التي تفترضها تقنية الرسالة، مدركاً كلّ الإدراك أنه لا يكتب رواية حتى وإن استخدم بعض السرد حيناً تلو آخر. لكنه تمكّن من أداء لعبة شبه روائية أو شبه سردية معتمداً ما يمكن تسميته بـ"القرين". فبينما يكتب الراوي رسائله إلى العشيقة سارداً لها بعض "حوادث" ماضيه العاطفي، يحكي لها قصة امرأة كان أحبها من قبل ثم عاد فالتقى بها بعد عشر سنوات من الانقطاع أو الغياب. هذه السنوات - كما يروي - التي عاشتها عشيقته الأولى مع رجل آخر، ستتحوّل مادة تسردها العشيقة نفسها (الأولى) إلى العشيق (الكاتب) الذي يسردها بدوره إلى العشيقة الثانية في إحدى رسائله إليها. هنا يتعقّد فعل السرد (أو الكتابة) وتبرز لعبة مرآة أخرى. لكنّ عناصرها لم تخل من غموض شاءه الكاتب قصداً. فهو إذ يسأل العشيقة الثانية في رسالته: "أليس في حكايتها مع سواي شيء من حكايتي؟" كأنما يحاول أن يدمج ظلّه في ظل ذلك العاشق الذي تلاه في حب عشيقته الأولى. واللافت أن العاشق ذاك كتب بدوره الكثير من الرسائل إلى عشيقته وما كان لها، عندما التقت الراوي بعد طول غياب، إلا أن تعهد إليه كلّ تلك الرسائل ساعية إلى التخلّص من ماضيها الآخر. كلّ هذا يرويه الكاتب إلى عشيقته (الثانية) التي يودّعها عبر الرسائل. وعندما يستعرض الكاتب رسائل العاشق الآخر تبدو كأنها رسائل مكتوبة بقلمه ولغته وهواجسه. كأنّ هذا العاشق هو الظلّ السرّي للكاتب أو الثنائي "المانوي" أو الآخر الذي هو "أنا" (مقولة رامبو مقلوبة) أو كأنّه "ظل الظل" بحسب أمثولة شكسبير الشهيرة... ومن أجواء تلك الرسائل التي بات قدرها الضياع (ظاهراً) كونها رسائل تخلّى عنها طرفاها (الكاتب والعشيقة): "العصفور الساهر في الغابة، أتعرفينه؟ ذلك الذي يشدو بعد منتصف الليل، قريباً من الغرفة الفسيحة التي ينام فيها قلبك". ويعترف الكاتب (الراوي) إلى العشيقة (الثانية) أن ما نقله إليها ليس إلا مقاطع من الرسائل التي تريد العشيقة الأولى التخلّص منها بغية التخلّص من الماضي وفتح صفحة جديدة. ويعترف الراوي: "لست أدري ما الذي ستعثرين عليه أنتِ في هذه الأوراق؟ أما أنا فكنت أبحث عن أثر لي فيها. وأيّ أثر؟". إنّه هو نفسه الذي يكتب ولكن منفصماً بين "أنا" و"آخر"، بين كاتب وظله، بين شخص راحل وشخص عائد... ومفهوم العودة سيثيره الكاتب في إحدى الرسائل مستعيداً حكاية عودة هيراقليطس الذي اختلى بنفسه لدى إيابه إلى "البيت". أما عيسى مخلوف فيكتب: "الدخول وحدي إلى غرفتي... كل شيء هنا متوقف وثابت ما عدا الوقت. كأنني لا أعيش في مكان بل داخل أيقونة... كأنّ العائد لا يعود". ومثلما يجعل الكاتب لنفسه قريناً يجعل للعشيقة أيضاً "قريناً" هو أختها. وهنا تتجلّى لعبة جميلة كذلك إذ يصبح للعشيقة "ظل" و"آخر". يقول الراوي: "وما كنت أعرف أن ما أكتبه لكِ لم يكن موجّهاً إليك وحدك. كان يكفي أن تبعث لي أختك برسالة واحدة حتى أعرف. قرأتها وتذكّرت فجأة عينيها...". ومن هنا يستمدّ عنوان الكتاب بعده الذي سيظلّ على قدرٍ من الغموض الحيّ والجميل. فالعشيقة والأخت هما امرأة واحدة بل هي الكتابة جعلتهما امرأة واحدة، امرأة كأنها توأم نفسها: "اليوم أتوجّه إليكِ وحدكِ وأقصدكما معاً. أقول أنتِ وأمامي اثنتان". ولعلّ هذه الحال "القرينية" أو التوأمية لا تبلغ ذروتها إلاّ في الموت كما يعبّر مخلوف على لسان راويه قائلاً: "عندما نموت يموت عنّا شخص آخر. أما نحن، فنبقى هناك، حيث كنّا دائماً، في شغف الأشياء التي لم تولد". هكذا تبدو جدلية الموت والحياة وجهاً آخر لجدلية الحضور والغياب، هذه الجدلية التي تمنح الشيء معنى الضدّ والضدّ معنى الشيء.

يحمل كتاب عيسى مخلوف ملامح تجربة فريدة قليلاً ما نقرأ ما يماثلها خصوصاً في قيامها على فنّ الرسالة الذي بات نادراً في الأدب الحديث. وقد وظّف مخلوف لعبة "الرسالة" و"الهامش" جرياً على المفهوم الثنائي الذي أحكم ظلّه على عناصر أخرى في الكتاب، كما تمّت الإشارة سابقاً. والرسائل هي نصوص أكثر منها رسائل في معناها الرائج. بل هي مقاطع نثرية شفيفة تعكس أحوال الداخل ومقامات الذات الإنسانية. وهي تتعرّى من الكلام نفسه في أحيان لتصبح قصائد نثر متفلّتة من أسر المعايير الراسخة. ولا يضيرها في أحيان أخرى أن تمسي حوارات داخلية أو "مونولوغات" يخاطب الكاتب فيها الآخر مخاطبته لنفسه.

كتاب "رسائل الى الأختين" هو أيضاً كتاب احتفائي بمدينة باريس التي أضحت المنفى البديل عن الأرض الأولى وهي بات الرجوع إليها رجوعاً إلى اللامكان.

عبده وازن

")الحياة"، 25 تشرين الثاني/ نوفمبر 2004(