الفاتيكان في العراء

 

 

 

تأخرت الأمم المتحدة في إدانة الفاتيكان!

تأخّرت في القول إنه « ينتهك معاهدة حقوق الطفل في قضايا الاعتداء الجنسي »، وكان وقَّعَ عليها في العام ١٩٩٠.

تأخّرت في الإشارة، بصورة علنية، إلى سياسة الهتك وإلى الجريمة التي تتستّر بالدين، من أعلى الهرم الكنسي حتى أسفله. وقد أدانت صمت الكنيسة واعتمادها على سياسة لا تحمي الأطفال بل المعتدين عليهم، أي أنها تواطأت مع الجلاد ضد الضحية.

والحال هذه، هل يكفي الاعتذار الذي قدمه البابا بنديكتوس السادس عشر؟ هل تكفي توصياته بعدم التساهل مع الكهنة والقساوسة المتهمين بالتحرش الجنسي بالأطفال؟ وهل يكفي حديث البابا فرنسوا مؤخراً عن "العار" الذي اقترفته الكنيسة؟

بالإضافة إلى "النوايا الحسنة"، أين التعويضات وأين الحلول العملية لكبح جماح الغرائز؟ متى ستعيد المؤسسة الكنسية النظر في علاقة رجال الدين بنَذر العفة والجنس ومسألة الزواج؟ وهل أنّ نذر العفّة كافٍ لممارسة العفّة؟

"دعوا الأطفال يأتون إليّ"، قال السيّد المسيح. الأطفال بما هم رمز النقاء والطهارة والدهشة. لكنه لم يطلب يوماً ممن يدّعون تمثيله أن يقتربوا من هؤلاء الأطفال كما تقترب الذئاب الجائعة من النعاج.

الرسالة المتعلقة بالأطفال وصلت دينياً بالمقلوب، مثلما وصلت الرسالة المتعلقة بالمرأة... « الرجل رأس المرأة »، يقول بولس الرسول، ولا يرفّ له جفن. والرجل، حسب تعبيره، "صورة الله"، وذلك استتباعاً للنص التوراتي الذي أخرج المرأة من ضلع الرجل وكرّس تبعيّتها وجعَلَها تربة جاهزة للحرث والاغتصاب. الأسئلة المطروحة على الكنيسة اليوم تذهب أبعد من ذلك وتطال الموقف من الإجهاض ومنع الحمل والمثلية الجنسية، وهو موقف متخلف وينتمي إلى أزمنة بائدة.

من يعرف ماضي الكنيسة لا يفاجأ بحاضرها. من "خطاياها" العظيمة عبر التاريخ نذكر، على سبيل المثال لا الحصر، محاكم التفتيش في القرون الوسطى، وفي القرن العشرين موقفها حيال النازية والفاشستية،  ومعاهدة "لاتران" التي أقرّ فيها موسوليني السيادة الكاملة للكرسي الرسولي على دولة الفاتيكان.

غير أنّ مظهر الصمت والخشوع الذي اعتمدت عليه الكنيسة طويلاً كقناع تغطي به أهوالها وهروبها من المسؤولية، بدأ يرتد عليها. في شهر مايو ٢٠١٢ نُشرت، ولأول مرة، وثائق سرية تكشف عن وجود شبكة واسعة من الفساد والمؤامرات والعلاقات المشبوهة داخل الصرح الديني العريق. تلك الفضيحة التي عُرفت باسم "فاتيليكس" فجّرها شخص يدعى باولو غابرييلي، وكان حينها كبير الخدم عند البابا بنديكتوس السادس عشر. وأكّدت ما جاء في كتاب الصحافي والكاتب الإيطالي جيانكولويدجي نوزي الذي فضح الوجه الخفي لحاضرة الصمت معتمداً على جزء من الوثائق السرية التي تسربت إليه.

اعتبر المؤلّف أنّ البابا يوحنا بولس الثاني الذي تمّ تطويبه في روما قديساً، كان يُعنى بمحاربة الشيوعية وبمصير معاهدة فرسوفيا أكثر مما تعنيه الانحرافات التي تدور حوله. وكان البابا، حسب رأي الكاتب دائماً، يعمل على تغطيتها وتغطية شخصيات غير موثوق فيها ومنها بول كازيمير مرشينكوس، رئيس مصرف الفاتيكان من ١٩٧١ حتى ١٩٨٩.

كتاب جيانكولويدجي نوزي، لما يحفل به من أخبار الدسائس وصراع السلطة داخل الدولة الأصغر في العالم، ولما يروي من فضائح مالية وتبييض أموال وحالات انتحار، هو أشبه بالكتب البوليسية، ويذكّر أيضاً برواية "إسم الوردة" لأومبرتو إيكو.

جرائم الكنيسة الكاثوليكية ضد الأطفال ترقى إلى عقود بل إلى قرون من الزمن، وضحاياها يعدّون بعشرات الألوف، وهم من الذين كبروا وكبر في داخلهم جرحهم السرّي. من هذا الجرح بالذات تطلع اليوم صرخة نيتشه المدوّية: "لم يكن هناك إلاّ مسيحي واحد وصلبوه".

 

 

عيسى مخلوف

 

("العرب"، 19 فبراير 2014).