ثنائيّات فنية - أدبية... جدل الأداء البصري والمضامين البلاغية

أسعد عرابي

 

تعرّفت على حساسية عيسى مخلوف "الشعرية-الفنية" خلال سنوات عملي معه في مجلة "مواقف" في باريس، وكان يشغل فيها مسؤولية أمين التحرير. ويعود إلى عيسى الفضل في تخصيص ملفّ ضخم (يصل أحيانًا إلى خمسين صفحة مع صور ملوّنة). وكانت مساهمتي في هذا الملف تمثّل دراسة جمالية مستفيضة نسبيًّا عن الفنان المختار. أما النص النقدي لعيسى فكان يملك حساسية فيّاضة خاصّة عُرف بها، وكان غالبًا هو الذي يختار الفنّان من هؤلاء من قائمة انتقائية (وليس إقصائية) على مثال ضياء العزاوي، آدم حنين، شفيق عبود، صليبا الدويهي، إيتل عدنان، أسادور وغيرهم.

لا ينفصل الأسلوب الكتابي لدى مخلوف، سواء الشعري منه أو النقدي (الذي يؤاخي بين الشمولية البلاغية في التعبير أو النخبوية في اللغة النقدية)، عن تعدّديته الثقافية واللغوية، والأهمّ ترامي مساحات حساسيته المعرفية الشمولية التي تلغي الجدران بين الثقافات وأنواع الإبداعات دون أدنى تهجين. وتتداخل في دعمه الانتقائي اللامحدود لبعض الفنانين المحترفين علاقته الإنسانية الملتزمة وتوحّده مع عالمهم الداخلي وحساسيتهم الموهوبة...

يمثّل عيسى مخلوف، الشاعر المفكّر والناقد والمترجم والباحث، شمولية المثقف المعاصر الذي يقتحم آفاق أنواع المعرفة والإبداع محيلًا إلى التأمّلات الفلسفية. ويقول في أكثر من مناسبة «إنّ الأدب الذي يتخلّى عن السؤال الفلسفي لا يعوّل عليه، كذلك الحال بالنسبة إلى الفنون عامة".

تحضرني خصوبة تراثه الكتابي ونشاطه الثقافي المتراوح بين المعرفة الكتابية والحساسية الفنية على غرار ديوانه الشهير "عزلة الذهب" (1992)، هو الذي استقى منه "هيامات" المختارة لينقلها إلى الفرنسية جمال الدين بن شيخ، ترافقها ستّ محفورات لصنوّه الروحي الفنّان أسادور. ثمّ يكتب "الأحلام المشرقية، بورخيس في متاهات ألف ليلة وليلة"، ويترجم عن الإسبانية "قصص من أميركا اللاتينية"، وهذا غيض من فيض.

إن جلّ مشاريعه الكبرى كانت فنية، ابتداءً من كتاب "اغتراب الورد" المذكور آنفًا، إلى كتاب الإشراف على المعرض الاستعادي لجبران خليل جبران بالفرنسية "جبران الفنان والرؤيوي"، الذي أقيم في "معهد العالم العربي" في العام 1998، وصدر عن دار فلاماريون الباريسية، ودراسة معمّقة عن الفنان صليبا الدويهي. وارتبط انحيازه الفنّي لأسادور ضمن ثنائيّة متعدّدة الخصوبة والثبات: عيسى مخلوف – أسادور، مثل ضياء العزاوي – أدونيس، أو زكريا تامر- نذير نبعة، أو أسعد عرابي – محمد الماغوط، أو إدوار الخراط - عدلي رزق الله، والعديد من الثنائيات المُخصبة التي غابت عن الذاكرة".

(فقرات من مقالة صدرت في "ضفّة ثالثة"، 14 أيّار/ مايو 2020).