أركّز في مقاربتي قضية الترجمة على نقاط ثلاث: النقطة الأولى، الترجمة والتواصل، أي الوسيط بين تعدّدية الثقافات ووحدة الإنسانية، أي أيضاً الردّ على التفرقة والتأسيس للحوار والتبادل،
وإبطال الحدود بين الثقافات. وكم تبدو أساسية هذه الفكرة، فكرة إبطال الحدود، في زمن يزداد التقوقع داخل الهوية الجماعية بمقدار زيادة الإحساس بالخوف وانعدام الأمن.
النقطة الثانية، الترجمة واللغة، بل ومدى صلاحية اللغة العربية وقدرتها على النقل، وهل تستطيع أن تستوعب الثقافات الأخرى وتتحاور
معها؟
أما النقطة الثالثة والأخيرة: الترجمة والخوف، فتنطلق من السؤال الجوهري الآتي: هل يمكن الكاتب أن يكتب والمترجم أن يترجم في ظلّ الخوف،
وفي غياب مجتمع مدني وديموقراطي؟
I
إذا توقّفنا مع الألسنية التاريخية عند أصول اللغات البشرية وتكوينها ومصادرها الأولى، نكتشف أن اللغة كانت أحد مساعي الإنسانية الأساسية
في معركتها من أجل الوجود. الترجمة اليوم، كما كانت في الماضي، هي أيضاً أحد هذه المساعي. وهي مسعى ثقافي بامتياز.
الترجمة الفعلية تتجاوز الترجمة اللغوية والألسنية إلى ما يمسّ المعنى العميق للنص وإدراجه في سياقه العام، في الزمان والمكان. وهذا ما
يقتضي معرفة الخصائص الثقافية لمدارَين ألسنيَّين: المدار الذي نترجم منه والمدار الذي نترجم إليه. كما يقتضي إيجاد معادل لبعض المصطلحات لا تقدّمه لنا القواميس في العادة.
القاموس، في شكل عام، يقدّم المرادف السطحي للكلمة، أي ينظر إليها بمعزل عن بيئتها الثقافية والاجتماعية. يضع الكلمة خارج ماء النص وروحه
لأنه يغفل حقيقة أساسية هي أن الكلمة لا معنى لها خارج الكلمات التي ترافقها وخارج السياق الذي ترِد فيه. في القاموس، تكون الكلمات مطفأة ولا تكسب نورها وحياتها إلا من خلال ما نحمّلها إياه، وبحسب ما
نحمّلها، تشعشع أو تنوس.
القاموس في كل اللغات، على ضرورته وأهميته، لا يكفي لترجمة بعض المفردات والمصطلحات. فكيف إذا كان القاموس، كما الحال عندنا، لم يضبط
ساعته بعد على توقيت الزمن الراهن ولا يشكّل، في إحالاته ومرجعياته، انعكاساً ولو جامداً لما هو حيّ ومتحرّك، ولا يواكب التغيّر الحاصل في العالم في كل الحقول والميادين. مثال على ذلك - والأمثلة كثيرة
بالطبع - فعل «طمح» كما جاء في «المنجد الأبجدي»: «طَمَحَ طَمحاً وطُموحاً إلى الشيء. تاقَ إليه. وطمحَ طماحاً وطموحاً طمحت المرأةُ على زوجها أي جمَحَت. وطمحت الدابّةُ أي نَشزَت وجمَحت»... هذا التحديد
لفعل «طمح» لا يحتاج إلى تفسير. الكلام هنا يتجاوز إطاره اللغوي ويرشح بمرجعية ثقافية محددة.
خلاصة القول إن الترجمة الفعلية لا تستقيم من خلال معرفة اللغة فحسب. بل تستدعي أيضاً معارف تتعدى اللغة. وهذا المبدأ ينطبق على الترجمة
بصورة عامة، من ترجمة الشعر وصولاً إلى الترجمة الأكثر تقنية. في هذا السياق أيضاً، لا يستطيع أن يترجم الفكر والفلسفة والعلوم إلاّ المهتمون بقضايا الفكر والفلسفة والعلوم، أي المترجمون المتخصصون في هذه
المجالات. والترجمة، بهذا المعنى، علم وتخصّص. وحتى في هذه الحال، تبقى عالقة عندنا مسألةُ إيجاد حلول للمصطلحات والمفاهيم، بخاصة إذا كانت جديدة بالنسبة إلى اللغة المترجَم إليها، لأن غموض بعض هذه
المفاهيم ودلالاتها لدى المتلقّي، حتى لو كان المتلقّي عالماً وفيلسوفاً، يجعل الترجمة غير قادرة على اختراق المعنى. وهذا ما قد يفسّر الالتباس الذي وقع فيه ابن رشد حيال كلمتَي تراجيديا
وكوميديا...
إذا كانت الترجمة معبراً للثقافات والمعارف، وإذا كانت مرآةَ العالم المتعدّد اللغات، ومنطلق الحوار والتفاعل، كما يحلو لنا دائماً أن
نردّد، فإنّ مرآتنا اليوم مشوَّشة حتى لا نقول معطّلة في القسم الأكبر منها. وهذا ما يدفع إلى التساؤل الأوّلي: كيف نكون في العصر الحديث وكيف نرصد تحولاته الكبرى عبر المرآة المشوَّشة
لترجماتنا؟
هكذا، إذاً، لا يُطرح التحدي فقط على مستوى الكمّ، ومن المعروف أنّ نسبة الترجمة عندنا متدنية جداً (وهذا ما تلاحظه بالإحصاءات والأرقام
تقاريرُ الأونسكو و «المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم»)، وإنما أيضاً على مستوى النوع. لا بدّ أيضاً من الإشارة إلى الدور الذي يلعبه الإنترنت في هذا المجال. ويكفي أن نذكر أنّ اللغة
الإنكليزية تحتلّ في الإنترنت نسبة تتجاوز السبعين في المئة. نذكر أيضاً أنّ مشروع «غوغل» الجديد يتمثل في عشرين مليون كتاب، ويعمل الأوروبيون، من جهتهم، في تهيئة مكتبتهم الرقمية التي تحاول أن ترقى إلى
أهمية المكتبة الرقمية الأميركية، ممّا يقرّبنا من لحظة بناء المكتبة الكونية التي كانت مجرّد حلم في مخيلة بورخس منذ عقدين من الزمن. وهذا ما يؤكّد تكراراً أهمية ثورة المعلومات والاتصالات (وقبلها وبعدها
اللغات الحيّة)، بصفتها وسيلة رئيسة لاكتساب المعرفة في عالم اليوم.
II
لا يستقيم الحديث عن الترجمة مـــن دون ربطهـــا باللغة، ليس فقط اللغة التي نترجم من خلالها الأدب، وإنما أيضاً اللغة التي تنقل العلوم
والفلسفة والفكر، وكذلك الابتكارات العلمية والتقنية الحديثة. إنّ مشكلتنا مع اللغة اليوم هي جزء من مشكلة أعمّ وأشمل. وكما أنّ هناك دولاً على طريق النمو، هناك أيضاً لغات على طريق النمو، مثلما هناك لغات
انقرضت أو هي على طريق الانقراض. السؤال إذاً هو في كيفية تطويع اللغة، والإفادة من اشتقاقاتها وإمكاناتها، وجعلها انعكاساً فعلياً لوجودنا وثقافتنا وفكرنا ومخيّلتنا وحركة أجسادنا، والعمل على رفعها إلى
مستوى العصر.
في العالم العربي، لم يتغيّر تعاطينا مع اللغة منذ قرون وكأنّ العالم من حولنا ثابت لا يتغير. منذ أكثر من مئة عام وعى بعض الإصلاحيين
العرب هذه المسألة وناقشوها ومنهم قاسم أمين الذي تحدث عن «وجوب إصلاح اللغة العربية» وتماشيها مع العصر وقدّم بعض الآراء حول تطوير الإعراب «من دون أن يترتب عليه إخلال باللغة» على حدّ تعبيره. أكثر من
ذلك، تطرّق قاسم أمين إلى مسألة الترجمة وقدّم مقترحات جريئة حول ترجمة بعض المصطلحات الغربية الحديثة واعتبر أن من المستحيل «أن توجد لغة مستقلة عن غيرها مكتفية بذاتها». وفي الثلاثينات من القرن الماضي
ألم يتناول الموضوع نفسه جبران خليل جبران من خلال مشاركته في الاستفتاء الذي طرحته مجلة «الهلال» المصرية حول واقع اللغة العربية ومستقبلها؟
منذ ذلك الوقت حتى اليوم لم يتغيّر شيء. سؤال اللغة نفسه فقدَ وهجه، ولا تزال لغتنا قريبة من توجهات النص الديني ومناخاته حتى عندما
يستعملها العلمانيون. يكفي هنا أن نعيد النظر في كيفيات تعاطينا مع الفكر الغربي وفي مراجعة الكثير من ترجمات ذلك الفكر إلى اللغة العربية لنكتشف فداحة ما يجري في المعاهد والجامعات والأوساط الثقافية على
العموم، ولنكتشف أنّ اطلاعنا على تلك المعارف كان سطحياً وناقصاً ولم يكن وافياً على الإطلاق. لذلك يصعب علينا أن نفهم عملياً بعض المقولات الأساسية التي نهض عليها الغرب الحديث كمقولات الفرد والحرية وحقوق
الإنسان... ولا نقصد بذلك أنّ الغرب هو الذي أنتجها، لكنّه هيّأ لها الأسس الفلسفية والفكرية ممّا مهّد لدخولها في القوانين والممارسات اليومية.
III
المسألة عندنا - ولا أقولها بتشاؤم بل بواقعية - شديدة التعقيد. فإضافة إلى المشكلات التي يواجهها المترجم في دول العالم أجمع، هناك
أسئلة أولية جوهرية لا تزال مطروحة عندنا ولم يتم تجاوزها بعد وهي أسئلة تولّدها ثقافة لا تزال تحددها، في القسم الأكبر منها، معايير الحلال والحرام. يعني ما يمكن أن يترجَم وما لا يمكن أن
يترجَم.
أنتم تعرفون كيف وبأي طريقة نُقلت إلى العربية بعض الكتب والمراجع الأساسية في الثقافة الحديثة وكيف تم حذف، بل بتر مقاطع منها بحجة هذه
الحساسية أو ذاك الاعتبار... أي أننا نمارس على الكتب التي ننقلها إلى لغتنا ما يمارَس في الأصل على نتاجات تصدر في لغتنا نفسها. ولنا أمثلة كثيرة في السنوات الأخيرة نذكر منها على سبيل المثل «وليمة لأعشاب
البحر» لحيدر حيدر، كتابات نصر حامد أبو زيد، «الفتوحات المكية» لابن عربي، «النبي» لجبران، «حكايات ألف ليلة وليلة»، «حديقة الحواس» لعبده وازن، نصوص لأحمد الشهاوي ووديع سعادة... كيف باستطاعتنا، والحال
هذه، وحتى لو تمكّنا من ضبط عملية الترجمة، قواعدَ ومصطلحات وأدوات، أن نترجم نتاجات أسهمت في إدخال الغرب في العصور الحديثة؟ كيف لنا أن نترجم ماركس وفرويد وفولتير وديدرو وروسّو وكانط ونيتشه وفوكو
وديريدا وكل الفكر النقدي العلمي والعقلاني إذا لم يكن ثمة مؤسسات ثقافية تشجّع على هذا المشروع، وإذا لم يكن ثمة قانون مدني يحمي الكتّاب والمترجمين على السواء؟ إذا لم يكن ثمة سلطة سياسيّة تحمي المجتمع
بكلّ فئاته؟
نحن إذاً في وضعية المحاصرين بثقافة الخوف: الخوف من تحديث اللغة، والخوف من الفكر النقدي، والخوف من حرية التعبير، وهو في الأصل مرادف
لخوف أكبر هو الخوف من الثقافة المتنوّرة ومن المعرفة. لكن كيف لثقافة أن تعيش وتبدع وتتقدم وتحاور الآخر في ظلّ إرهاب الخوف هذا؟
أخلص إلى القول إنّ الحديث عن الترجمة في العالم العربي هو حديث عن أحد الرهانات الأساسية لثقافتنا. من هنا لا بدّ من طرح السؤال حول ما
إذا كانت الترجمة، بما هي عليه عندنا، كافية للإلمام بما يجرى من حولنا في الزمن الراهن، ورصد تحوّلاته والتفاعل معه، أم أنّ الحضور الفعلي في العالم اليوم يمرّ، بالضرورة، بتعلّم لغات أخرى وإتقانها،
وبالسعي، في الوقت نفسه، إلى بلورة لغة حديثة وثقافة منفتحة حديثة تفعل وتتفاعل مع العالم ولا تكون فقط مجرّد هامش من هوامشه؟
)قدِّمت هذه المداخلة في ندوة «الترجمة ومجتمع
المعرفة» التي نظّمت في القاهرة بدعوة من «المجلس الأعلى للثقافة » ) .