الجملة المستحيلة
حيدر المحسن
17 يوليو 2022
إن الكثير يمكن أن يُقال بكلمات قليلة جدا، وتتألف عندها جملة أدعوها بالمستحيلة لأنها تفتح أمامنا آفاقا من الخبرات والتجارب والمشاعر الجديدة، وتهبنا كذلك إدراكا جديدا لأنفسنا.
"أنظرُ إلى عينيك ولا أراكِ! / مَن منّا الغائب، يا كثيرة العينين؟".
إنّ يوميَ مترعٌ بشعر عيسى مخلوف، فهو الذي أهداني عنوان المقال. ثلاثة كتب جرّب فيها الشاعر كتابة
الفنّ الحديث الأصعب، وأعني به قصيدة النثر، والكتب هي "عين السراب" و"رسالة إلى الأختين" و"مدينة في السماء"، وفي كل صفحة منها أستطيع أن أقول إني قرأت الحدود التي يتمكّن فيها الشاعر من دفع أدواته
الشعرية إلى أقصاها، وفي المقابل يدفع الناثر بعدّته إلى أقصى حدودها، وفي النتيجة تتولّد قصيدة النثر. "أدخل الغرفة ليلا. أقفل بابها. أفتح النافذة لأرى البحر، لكني لا أرى شيئاً. الظلام يغلّفُ كلّ شيء.
أظلّ واقفاً في مكاني مُصِرّاً على الرؤية".
هي رحلة البحث عن السلام الداخلي تهبها لنا الجملة المستحيلة، بحروف مديدةٍ وادعةٍ، وعندما تقال فإنّ لوقعها أثر الموسيقى بإيقاعها الأعلى، ويشيع عندها الهدوء والجمال في كلّ شيء، ونشعر بأنّ العالم صار
أوسع. نغمة أخرى وترتفع أقدامنا العارية عن الأرض. الجملة المستحيلة هي عبارة مرسلة ما إن يقرأها المرء حتى يصير كلّ شيء في حياته استثنائيا، ثم يتعهده مثل حيوان أليف يرافقه أينما ذهب، والجملة المستحيلة
هي التي لا نستوفي حقّها بقراءتها أكثر من مرّة، ولا بحفظها عن ظهر قلب، لأنها تبقى تعمل في ضمائرنا، دون وعي منا يوما بعد يوم وتطالبنا بمزيد من الخدمة والتضحية. "يدخل الضوء، الآن، من النافذة، ويحتضن
الأشياء حولي برفق. أكتشف أنّ في هذا الضوء الكريم شيئاً من الأمومة. أمومة العالم الضائعة".
كيف تُكتب الجملة المستحيلة؟ يجيب عن هذا السؤال فرانسوا رونيه دو شاتوبريان: "فأنا أقتلع نفسي من بلدي وأصدقائي، وأتحمّل الحمّى والتعب، وأعبر بحار اليونان في مراكب صغيرة، وأتلقّى من البدو ضربات بنادقهم.
كلّ هذا احتراما للجمهور، ولكي أعطي لهذا الجمهور عملا أكثر اكتمالا من "عبقرية المسيحية".
سُئل برنارد شو إن كان يعتقد أنّ التوراة هي من تأليف الروح القدس، وأجاب: «كلّ كتاب يستحق القراءة هو من تأليف الروح القدس». نقتنع بعد قراءتنا للجملة المستحيلة، أنّ كل ما في الحياة أبديّ، فهي تزيد بثقلها المعنوي على معاني الكلام، الذي يعدّه سحرة الكلام للجماهير على أنه رُقى. "أبحث عن اللون الثالث الذي يمكن أن يولد من التقاء أصفرَين حادّين، أتمسّك به، ولا أتركه". الجملة المستحيلة تقول لنا إنّ حياتنا الفعلية لم تبدأ بعدُ، وهنالك وعد أكيد بأنها آتية.
قدّم أندريه جِيد تعريفا لهذه الجملة في محاضرة عنوانها التأثير في الأدب: "لقد قرأت كتابا ما، وبعد
أن فرغت من قراءته أغلقته، ثم أعدته إلى رفّ مكتبتي، لكن كان في هذا الكتاب قول لم أستطع نسيانه، فقد دخل إلى نفسي عميقا بحيث لم أعد أتمكّن من تمييزه من ذاتي. لم أعد من الآن فصاعدا كما لو كنت لم أعرفه.
ليس مهمّاً الآن أن أنسى الكتاب الذي قرأت فيه هذا القول، أن أنسى حتى إنني قرأته. لم يعد باستطاعتي أن أعود إلى ما كنت عليه قبل أن أقرأه. كيف يمكن شرح قوّة هذا القول؟". الجملة المستحيلة هي التي تدخل
بدنك مثل الطعام وتمنحك تأنّقا مكتملا، وبعد سنين تقولها ثانية، لكن هذه المرّة بلغتك. الجملة المستحيلة هي التي ترسم ظلال حروفها على جسدك مثل وشم، ويأخذ مفعولها بالعمل فوراً بأن يصبح خيالك أقوى، وهذا
بدوره يخفّف من قسوة قلبك التي هي من جِبِلّتك. كم يبلغ عدد صفحات موسوعة "ول ديورانت" "قصة الحضارة"، لكنه اختصرها أخيراً بكلمة واحدة، هي "الرقة". تعلّمك الجملة المستحيلة – وأنت واجدها حتماً في كلّ صفحة
من شعر عيسى مخلوف – فنّ الرقّة. بعد أن نصغي إليها، تدفعنا الجملة المستحيلة إلى أن ندفن أنفسنا في الأرض، ننتقل بعدها من جديد إلى اليقظة، وإلى الانتباه الكامل لفتوتنا. "اليد اليسرى مضمومة إلى اليد
اليمنى. لم يكن الحزن ظاهراً على وجهك وحسب، بل أيضاً على يديكِ. وكانت ثيابكِ، في تلك اللحظة، تشبه ثيابَ الذين رحلوا".
الجملة المستحيلة هي التي نجدها في الصبح المبكر عند كل منعطف، وعند فحصها نجد أن ليس فيها حكمة ولا فلسفة ولا أفكار ولا آراء ولا دهشة ولا انفعال، لكنها تنظم وتمسك في توازن منسجم كل ما سبق، أو أن كلّ ما
مرّ ذكره منفوث في الجملة بصورة وضّاءة، ويمكن لها لهذا السبب أن تنتفخ وتغدو معجزة، وهي الوحيدة التي تجد من يؤمن بها في هذا العصر، ويستعدّ للعيش حياته من أجل تكريس معناها، لا يبدلها ولو أعطوه القمر في
شماله والشمس في يمينه. "في الحكايات التي نرويها نكتشف، أحياناً، جوانبَ من الواقع ما كنّا لننتبه إليها يوم عشناها". يشير عيسى مخلوف هنا إلى الناحية العملية من قراءة الجملة المستحيلة، وهي تلك التي تجعل
كلّ مكان يبدو جديدا وضَوْءَهُ جديدا جدا وكأنّ الشمس أشرقت فجأةً من الغرب.
"على هذا الشاطئ نزلنَ. عشرون امرأة وعشرون طفلة سيصبحنَ نساءً بعد سنوات. في المساء الأوّل لوصولهنّ،
هبّ هواء ساخن وامتزج الطلع بالطلع. جئنَ وأنجبنَ، وقبل انسحابهنّ بقليل أشعلنَ نقطة دم كانت خرجت من بياض الجسد".
تزرع الجملة المستحيلة فينا شعوراً بالذنب تجاه الإبداع لأننا نستطيع قراءتها بالشمّ أو باللمس، فَلِوقعها حفيف وحشي يبلغ سريعاً درك الحقيقة. إنّ مبعث كتابة الجملة هو إحساس عميق بالعدالة والظلم، وتتطلّب
من الشاعر العيش في العزلات والصحارى في سبيل إكمال صياغتها، وأن يرى أشياءَ مرئية كما لو كانت أشياء أخرى: "أُرضعكَ من حليبي". لو تعرفين أيّ أثر ترك هذا الكلام في نفسي! كان يكفي أن تتلفّظي بهاتين
الكلمتين لأتبيّن، في العتمة، العلاقة القائمة بين لمعان عينيكِ ووميض أسنانك، ولأتحسّس طعمَ حليبك". وكي يستمرّ الشعر، على الشاعر أن يقدّم باستمرار شيئاً آخر غير ما كان عليه في السابق، وينطبق الأمر كذلك
على النثر. يقول بشار بن برد:
"وكيف لا يصبو إلى غادة \ تكفيك في الظلماء مصباحا"
تشبه الجملة المستحيلة التي يكتبها عيسى مخلوف غادة بشار، وتشبه كذلك في مضائها حجر "لونسداليت" الذي يعدّ مقياساً للموسى في الصلادَة. إنها تقطع كلّ حجارة لأنها الأقوى والأصلد والأكثر مُضاءً. كما أنّ الجملة المستحيلة ليست معقّدة، بل بسيطة وناصعة وفيها إشراق بمجرّد أن تقع عليه العين فإنه يحصّن النفس من أن تسكن جسد إنسان نائم في سبات الدم والموت. "شعّ وجهكِ فجأةً والتمعت العينان. فتحتِ يدكِ النحيلة ومددتها نحوي لأملأها شمعاً ذائباً لهباً. إنها اليد ذاتُها التي كانت تمتدّ نحوي وراحتها منبسطة على الطاولة أمامي. كنتُ ألامسها بسبابتي من أعلى المعصم وصولاً إلى راحة اليد. هذه الحركة التي، كما قلتِ لي، يرتعش لها جسدك أحياناً، قادتني إليها لوحة "العرافة" لكارافاجيو".
ليس لدينا في العربية تجاربُ مماثلةٌ لما قام به الشاعر عيسى مخلوف في شعره الذي دوّن فيه حياته وأحلامه وهواجسه ورؤاه، بالإضافة إلى خبرته الجمالية في الموسيقى والرسم والنحت، وكذلك الموضوع الشاغل الناس الآن في كل البقاع، وهو السياسة. لكن ماذا يقول بورخيس عن هذه الجملة؟ "إنه بمقدور كلمات معدودة يقولها شاعر أن تعبر حرائق الأخطاء الطباعية والنحوية والبلاغية، بالإضافة إلى جحيم الترجمة، وتصل القارئ سليمة وكاملة". أما أفضل من قدّم تعريفا لجملتي فهو الشاعر والروائي الأسترالي، اللبناني الأصل، ديفيد معلوف: «إنّ آلافاً بل ملايين من اللوالب الميكانيكية تدور وتعتصر خبرة الكاتب، كي ينتج لنا عبارة يُقدّر لها أن تكون محفورة في كل جهة من خاطر القارئ".
من يحصي معي عدد الجمل المستحيلة في كتب الشاعر عيسى مخلوف الثلاثة؟