"القتلة" والتسليع الثقافي
قبل فترة وجيزة من صدور طبعة جديدة ومنقّحة من كتابه «رسالة إلى الأختين» (دار التنوير ـــ طبعته الأولى صدرت عام 2004)، وفي مقهى مطلّ على شارع الحمرا أثناء زيارة سريعة له إلى بيروت مع صديقه الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي، طال الكلام في الشعر والأدب والسياسة والتكنولوجيا مع عيسى مخلوف، الكاتب والشاعر اللبناني المقيم في باريس. في لقائنا معه، أطلّ صاحب «عين السراب» (2000)، و «مدينة في السماء» (2012) على الأدب والجماليات وآفاق العلم الحديث من شرفته المنفتحة على الشرق والغرب، وثقافته الفنية الموسوعية، ونظرته النقدية لما ستؤول إليه أحوال الغرب التكنولوجي والعالم العربي المأزوم حيث يبدو الإبداع والأدب خشبة وحيدة للخلاص في زمن الحرب والحصار. هكذا يدعو الكاتب إلى الأمل، حتّى في زمن الحرب. لكن، حين يُحاصَر، إلى هذا الحدّ، في وجوده وفي أحلامه، وحين يتواجد في أمكنة أصبح التنفُّس فيها، مجرّد التنفُّس، أشبه بالاختناق، كما الحال في العالم العربي والإسلامي اليوم، فما الذي يبقى أمامه غير أن يتعلّق بالكلمات كغريق يتمسّك بقطعة خشب طافية فوق الماء؟
- نبدأ بجملة ترد على غلاف كتابك «مدينة في السماء»: «هل في استطاعة الجمال، فعلاً، أن يتحدّى الزمن والموت»؟
- هذه العبارة أوحتها إليّ منحوتة النحّات البريطاني هنري مور الموجودة في الباحة الخارجيّة لمقرّ الأمم المتحدة في نيويورك. كنتُ ألتفت إليها وأستعين بها لأتحمّل ما يجري داخل ذلك المقرّ الذي تتردّد فيه كلمة سلام أكثر من أيّ مكان آخر. «هل صحيح أنّ الجمال سينقذ العالم؟»، تسأل إحدى الشخصيّات في رواية «الأبله» لدوستويفسكي. تسأل ولا تؤكّد ما نتمنّاه. وهل يستطيع الجمال، مهما كان نوعه، أن ينقذ الفقراء من الجوع والمظلومين من الظُّلم والمضطهدين من الاضطهاد؟ ما بإمكان الجمال أن يفعل؟ ذاك المجسَّد بالأخصّ في بعض الصروح العمرانية والأعمال الفنّيّة، جاء بإيعاز من أصحاب السلطات المدنيّة والدينيّة عبر العصور، ويتّكئ على جريمة وعلى آلام عظيمة؟ حُكّام فلورنسا، في الماضي، دعموا الفنّانين وراهنوا على الجمال لخدمة مشروعهم السياسي. في الزمن القريب، جمع صدّام حسين في مِربَده الشهير جموعَ الشعراء، وبعضهم من شعراء القمع، تحت شعار «كلّ القصائد تغنّي لصدّام مُبدع الانتصارات»! هل سينتصر الجمال فعلاً (الجمال الجريح، هو أيضاً، الخائف والمهدَّد)، أم أنّنا منذورون للعيش بين عالمين: عالم الواقع المسيطر، من جهة، ومن جهة ثانية، عالم الرؤية والحلم الذي قد يساعد على تَحَمُّل ما يتعذّر احتماله. الأدب والفنّ، في بعض وجوههما، قراءة أخرى للواقع وللتاريخ، ومسعى لمواجهة الموت، من منطلقات جماليّة. غريزة الحياة مقابل غريزة الموت! وإذا كانت صورة الأدب والفنّ، كما يحلو للبعض أن يتخيّلها، ردّ فعل على الضجيج العام، فهي اليوم، في القسم الأكبر منها، جزء من هذا الضّجيج.
- تسائل في كتبك رامبو وبورخيس وجورج شحادة في «مهاجر بريسبان»، وتبدو مهجوساً بوصل ضفاف العالم بالأدب، تلك الضفاف التي تتّصل اليوم بمراكب المهاجرين من أرض شهرزاد إلى أوروبا الأقرب إلى «تفّاحة الفردوس». هل الأدب قادر على ترميم ما دمّرته السياسة وأفسده التاريخ وحكمت به الجغرافيا؟
- الآداب والفنون تعبير عن رفض السائد والمألوف، والبحث عن فضاءات أخرى جديدة تضاعف من نسبة الأوكسيجين في الهواء، وتسعى إلى جعل الأمكنة التي نعيش فيها أكثر رحمة وأكثر اتّساعاً. وهذا ما لا يريده أصحاب السلطة في كلّ زمان ومكان. الأدب، كما الفنّ، يتوجّه إلى جوهر الإنسان بمعزل عن انتماءاته المختلفة، ومن هنا يمكن أن يكون أحد القواسم المشتركة بين الشعوب. لو كان إرنست همنغواي حيّاً اليوم، لما غيّر كلمة واحدة في وصفه مآسي النزاعات الكبرى، هو الذي التحق بالجبهة الإيطاليّة بصفته مسعفاً، عام 1917، وعمل مراسلاً حربيّاً فغطّى وقائع الحروب، من الحرب الأهليّة في إسبانيا، إلى الصين عام 1941، والحرب العالميّة الثانية. نسمعه يقول: «هذا المساء، ينام الأموات في البرد، وسينامون في البرد طوال هذا الشتاء بينما الأرض تنام بجانبهم. لا يحتاج الأموات إلى قيامة، فهم الآن جزء من الأرض، ويستحيل غزو الأرض والاستئثار بها، بأيّ حال من الأحوال، لأنّها أبديّة. وستبقى حيّة بعد زوال جميع مظاهر الاستبداد والطغيان». حين يخوننا الواقع، فثمّة في الكتابة بعض العزاء. هكذا يدعو الكاتب إلى الأمل، حتّى في زمن الحرب. لكن، حين يُحاصَر، إلى هذا الحدّ، في وجوده وفي أحلامه، وحين يتواجد في أمكنة أصبح التنفُّس فيها، مجرّد التنفُّس، أشبه بالاختناق، كما الحال في العالم العربي والإسلامي اليوم، فما الذي يبقى أمامه غير أن يتعلّق بالكلمات كغريق يتمسّك بقطعة خشب طافية فوق الماء؟ تعود إلى خاطري الآن حالة نصر حامد أبو زيد الذي التقيته آخر مرّة في مدينة لاهاي، وأخبرني يومها بأنّ خروجه الاضطراري من مصر، بعد اتهامه بالكفر والردّة وصدور حكم قضائي نصَّ على تفريقه عن زوجته، كان، بالنسبة إليه، أقلّ وطأة من مصادرة كتبه وسَحْبها من مكتبة الجامعة.
- هذا يعني أنّ السلطة السياسيّة تخاف الكتاب.
- صحيح. كائن مخيف هو الكتاب، في كلّ زمان ومكان، لأنه ينمّ عن عقل وعن حسّ نقدي ومسعى جمالي، ولذلك تسعى السلطة إلى سحقه. قرابة العام ١٠٠٠، دُمِّرَت مكتبة المنصور في قرطبة بإيعاز من علماء الدين. وباسم الدين، قُتل الكثير من الكتّاب والشعراء (بشّار بن برد، الحلاّج، السهروردي...)، وحُكمَ بالنفي على ابن رشد وابن خلدون. ومن المعروف أنّ هولاكو أمرَ برمي مكتبة بغداد وكتبها العلميّة الثمينة في دجلة، فتحوَّل ماء النهر حبراً أسود. استمرّت كراهية الكتاب في كلّ العصور، من زمن محاكم التفتيش في إسبانيا إلى هتلر وستالين. أمّا في العالم العربي حيث عين الرقابة ساهرة لا تنام (السياسيّة والدينيّة على السواء)، فإنّ عدد الكتب التي صودرت، أو أُحرقَت، لا يُحصى، لا سيّما الكتب الفكرية والأدبية والفنية التي تتميّز باختلافها وبحسّها النقدي. اللافت أنّ الكتب التي تحرّض على الحقد والعنف وتدعو إلى القتل وتجسّد البشاعة والجهل، تُباع في كلّ مكان، بينما تُصادَر، في الكثير من الدول العربية، بعض كُتب نجيب محفوظ وطه حسين وثروت عكاشة وعلي عبد الرازق وعبدالله العلايلي ونصر حامد أبو زيد وصادق جلال العظم، وغيرهم. وكم من المفكّرين والكتّاب والمسرحيين والإعلاميين قُتلوا، في العقود الأخيرة، من بيروت إلى الجزائر، مروراً بدول عربيّة عدّة. قبل وصول قبضة «داعش» إلى المكتبات والمتاحف والمواقع الأثرية، كانت تلك الأمّة قد انقضّت على كُتب يمثّل بعضها جزءاً من الإرث الثقافي والإنساني، ومنها، على سبيل المثال، «الفتوحات المكّية» لابن عربي، و«النبي» لجبران خليل جبران، و«ألف ليلة وليلة»... ما يحدث للكتاب في العالم العربي يحدث للإنسان أيضاً: مصير واحد لكليهما، واستباحة كاملة هي أشبه باقتلاع الكائن من الوجود، اقتلاع تتعاون على تنفيذه قوى الداخل وقوى الخارج معاً. الانقضاض على الكتاب، على الفكر والإبداع والفنّ، بشكل عامّ، ليس إلاّ انقضاضاً على الإنسان نفسه، وعلى طاقاته الخلاّقة ومسعاه إلى جعل العالم جديراً بأن يُعاش. الكتاب كائن مخيف فعلاً.
- في «مدينة في السماء»، تدخل نيويورك كما دخلها شعراء من قبلك كفيديريكو غارثيا لوركا، تراقب الكثير من مفارقات هذه المدينة التي جئت إليها مستشاراً خاصاً للشؤون الثقافية والاجتماعية، بين عامي 2006 و2007، في إطار الدورة الحادية والستين للجمعية العامّة. ترصد التضاد بين الجمال والسياسة، المركز والهوامش. ماذا أردت أن تقول بالضّبط؟
- ينطلق هذا الكتاب من تجربتي داخل مكان يُراقب عن بُعد خرائط السلم والحرب، ويعمل فيه «موظّفون» يتعاطون مع كوكب الأرض مثل ميكانيكيين هُواة أمام آلة معطّلة. ينطلق أيضاً من مدينة تفيض عن مساحتها وحدودها لتصبح شرفة مفتوحة على الأزمنة والأمكنة. داخل نيويورك، تحضر باريس وفلورنسا، بيروت والقاهرة. في هذا الكتاب، كما في «عين السراب» و«رسالة إلى الأختين»، كتابة تبطل فيها المسافة بين الشعر والنثر، ولا تكتفي برصد التفاصيل المرئيّة، بل تحاول الذهاب إلى اللامرئي في الكائنات والأشياء. وتبحث عن الجمال في الرُّكام مثلما يبحث الفقراء في نفايات الأثرياء، في ساعة متأخّرة من الليل.
- يعيش الشعر حالة ضمور في العالم العربي، وفي العالم بأسره. أنت تعيش في باريس وترى أنّ جناح الشعر في مكتبات «فناك» و«جيبير جوزيف» تضمر شيئاً فشيئاً. أين الشعر في زمن غوغل اليوم؟
- لطالما كان الشعر، بمعناه الوجودي العميق، فنّ القلّة لا فنّ الجماهير. فنّ الرؤية والتأمّل، لا فنّ الاستهلاك اليوميّ والاستعجال. لكنّه يوجد اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، في موقع الهامش المعزول، كالمسرح والفكر والفلسفة، بل أكثر منها جميعاً. هكذا، إذاً، تخرج القصيدة من مخبئها، لا أحد يعرفها ولا تعرف أحداً، كزهرة تولد في أعالي الجبال، بعيداً من الأعين. أمّا السبب في ذلك، فيعود إلى عوامل عدّة من أبرزها أنّ الشعر لا يخضع لعملية العرض والطلب ومردوديّته المادية الضئيلة لا تشجّع المستثمرين في عالم الكتاب على التّعاطي معه. وكذلك تَراجُع القراءة النوعيّة. من جهة أخرى، هناك الكشوف العلمية التي تجعلنا نرى ما لم نحسب يوماً أن نراه، وهي تدخل، بجانب منها، في منافسة مع الخيال وكذلك مع الحدس الشعري نفسه. يحدّثنا رامبو، في قصيدته «أحرف صوتيّة»، عن لون الأحرف، في حين أنّ المسبار الفضائي «هابل» يجعلنا نشهد على ولادة النجوم وموتها. بعض ما كان يُعدّ جزءاً من الخيال العلمي أصبح واقعاً ملموساً ودخل في إطار الحقائق العلميّة. وهذه الحقائق لم تستطع أن تكبحها المؤسسات الدينية التي بذلت كلّ ما في وسعها من أجل ذلك. يبقى السؤال: هل وحده الشعر يعيش حالة ضمور؟ هناك تغيّر للمعنى الثقافي، ولمعنى الشعر نفسه، بينما المال المنتصر يسلّع كلّ شيء بما في ذلك الأحاسيس والعواطف. في كتاب «ظلال تائهة» لباسكال كينيار، الحائز جائزة «غونكور»، وردت العبارة التالية: «الشيء الوحيد الذي يُقرأ في معرض فرنكفورت للكتاب هو دفتر الشيكات». الذين كانوا بالأمس القريب بمثابة آلهة معبودة تحوّلوا، بين ليلة وضحاها، إلى أصنام ينبغي تحطيمها. هذا ما حدث مع الكاتبة الفرنسيّة كريستين أنجو، إثر صدور روايتها الأخيرة «لحظة تَحَوُّل في الحياة» عن «دار فلاماريون» الباريسيّة. هذه الكاتبة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس في السنوات الماضية، واحتلّت حيِّزاً مهمّاً في واجهة المشهد الأدبي في فرنسا، فاحتفت بها كبريات الصحف الفرنسيّة والعالميّة، تجد نفسها اليوم في تَقاطُع نيران. من الأوصاف التي أُطلقَت على كتابها الأخير: «رواية مائعة ضعيفة تماماً»، «رواية الغباء السحيق»، «فرض إنشاء لطالبة في الصفوف المتوسّطة». نعم، الوسائل الإعلامية نفسها التي مجّدتها ورفعتها إلى أعلى القمم تحطّمها وترمي بها في الهاوية. وهذا الموضوع يطرح السؤال من جديد حول واقع النقد الراهن وحول المعايير النقديّة في العالم. هذه الكاتبة التي قُدّمَت بالأمس للقرّاء بصفتها كاتبة فذّة، عبقريّة، مدهشة، آسرة وساحرة، وخليفة مارغريت دوراس، هل يُعقَل أن تصبح، فجأةً، مجرّد بضاعة منتهية الصلاحية؟ وهل هذا هو منطق التسليع الذي يبحث دائماً عن موضة جديدة للاستهلاك؟ بعد الآن، أيّ مصباح سيحمله القارئ وهو يجتاز ظُلمة هذه الأدغال؟
- غادرت بيروت إلى باريس في فترة مبكرة. هل ما زالت باريس عاصمة النور التي تخرج منها الأفكار العظيمة التي تدهش العالم في الفكر والأدب والفنّ؟
- كانت باريس، في القرن التاسع عشر، عاصمة الثقافة العالمية. وفي القرن العشرين، مع صعود فضاءات ثقافية عدّة، من الولايات المتحدة الأميركية إلى بعض الدول الأوروبية، ظلّت باريس، بإيلائها الفكر والفلسفة والآداب والفنون أهمية كبيرة، ذلك المكان المعرفي والإبداعي المشعّ. لكن التحوّلات التي يشهدها العالم على هذا الصعيد تلقي بظلالها الآن على كل شيء، شرقاً وغرباً. عندما وصلتُ إلى باريس مطلع الثمانينيات، كان السجال الفكري والفلسفي في أوجه، وأيضاً حركة الاستعراب. وكان «الكوليج دو فرانس» مثلاً، يحشد علماء ومفكّرين طبعوا بأعمالهم المشهد الثقافي في القرن العشرين، ومنهم ميشال فوكو وكلود ليفي ستروس وبيار بورديو وجاك بيرك. الحالة نفسها كانت سائدة في مجالات الآداب والفنون، لا سيّما في النصف الأوّل من القرن الماضي، وبعد ذلك بقليل، مع شعراء وكتّاب وفنّانين تركوا بصماتهم على المشهد الأدبي والفني، ومنهم جان جينيه وإيف بونفوا وبيكاسو وألبرتو جياكوميتي. ذهب هؤلاء ولا يزال وهجهم يضيء المكان، وهناك أسماء أخرى جديدة تحفر طريقها بصعوبة وصمت. لكن ثمّة ارتباك ثقافي يهيمن اليوم، مع التغيّر الذي أشرنا إليه، ومع الانتصار الساحق لرأس المال، كما درسه عالم الاجتماع بيار بورديو في متابعته لما آلت إليه الثقافة في زماننا الراهن. لكن، على الرغم من هذا الواقع العام، لا تزال المكتبات الوطنيّة والمؤسّسات الثقافية الفرنسية والمراكز الثقافية الكبرى، ومنها «مركز جورج بومبيدو»، تقوم بدورها الذي يجعل حركة الثقافة فعلاً يومياً لا يتوقّف، وهذا ما يُبقي مدينة باريس أحد الاستثناءات الثقافية في العالم.
- في كتاب «عين السّراب»، ترد هذه العبارة: «تحتاج الذاكرة إلى ما يدلّ عليها، والصورة خير دليل. المكان الذي يؤطّر داخل صورة لا يبقى منه شيء. الصورة إصبع القديس توما». ألا يمكن الاستعاضة عن الصور الفوتوغرافية بصورة شعرية تخلّد اللحظة وتخلق أمكنة بديلة؟
- نحاول من خلال التقاط بعض الصور اليوميّة الإمساك باللحظة الهاربة، كصائدي الفراشات. نحنّط اللحظة كما حنّط الفراعنة موتاهم. هناك، بالتأكيد، وسائل أخرى لالتقاط هذه اللحظة، في الشعر والموسيقى والرسم، بدءاً من تلك الرسوم التي وجدت على جدران المغاور، ومنها اليد المرفوعة في مغارة «لاسكو» وتحيّينا منذ أكثر من عشرين ألف سنة. الهندسة أيضاً وما وصلنا منها حتّى اليوم، من بلاد ما بين النهرين والساحل الكنعاني إلى اليونان والرومان. ألم يعتبر غوته، أثناء مروره بمدينة البندقيّة، أنّ الهندسة موسيقى جامدة؟ أليست هياكل بعلبك صورة لما كان يختلج في ذهن الذين بنوها وفي مخيّلتهم؟ أليست رمزاً للسلطة، وطريقة للتعامل مع الآلهة، وتوقاً إلى اختراق الحدود المتعارف عليها في زمن بنائها؟ الكتابة أيضاً حملت إلينا، منذ أقدّم العصور، رسائل الأقدمين. كانت هي العين التي تسجّل ما تراه. في القرن التاسع عشر، رصد غي دوموباسّان، في نصّ أدبي رائع عنوانه «الليل»، لحظة انتقال باريس من إضاءة لياليها بمصابيح الغاز إلى الكهرباء. كان الكاتب كأنه يصوّر المشهد بدقّة لا متناهية لا يغيب عنها الحدس والعاطفة. ومع ذلك، كان اكتشاف الصورة الفوتوغرافية في القرن التاسع عشر حدثاً تقنياً وثقافياً مهمّاً. صارت سجلّاً للوجوه والأحداث، مَعلماً يساعد على اقتفاء الأثر. كما غدت فنّاً قائماً بذاته. إنها أداة تعبير بامتياز، وهي أكثر ما يوهمنا، بين جميع أدوات التعبير الأخرى، أنّها الأشدّ تحايلًا على الموت.
- تُرجمَت أعمالك إلى الفرنسيّة لدى منشورات جوزيه كورتي الباريسيّة، وهو ناشر انتقائي جداً ونخبوي، نشر أعمالًا لجوليان غراك، هرمان هسّه، جوزيه أنخل فالنتي... ماذا عن تجربة الترجمة هذه؟ خضت أنت أيضاً تجربة ترجمة عن الإسبانية والفرنسية، كيف تقيّمها؟
- بدايةً، الترجمة شأن جوهري في التواصل بين الشعوب وفي اكتشاف الثقافات والبحث عن القواسم المشتركة بينها، وكذلك في إرساء أسس الحوار والتفاعل مع الآخر. وإذا كانت اللغة هي أداة الترجمة، فهذا لا يعني أنّها مجرّد وسيلة أو وعاء فحسب. صحيح أنها مَعبر لنقل الأفكار والأيديولوجيات المختلفة لكنها، في الوقت نفسه أيضاً، جزء من المنهج ومن طريقة التفكير. إنها جزء من هذه الثقافة أو تلك. ولو اعتبرنا أنّ التنوّع اللغوي مرادف للتنوّع الثقافي، فكم ستكون مسألة خطيرة أن تسود في العالم، يوماً ما، لغة واحدة فقط! بالنسبة إلى كتبي، فلقد تعامل معها مترجمون وكتّاب من أمثال جمال الدين بن شيخ الذي كان أوّل من نقل إلى الفرنسية قصائد من مجموعة «عزلة الذهب» التي أكملتها هند أسماء طنغور، ونبيل الأظن الذي نقل «عين السراب»، وعبد اللطيف اللعبي الذي ترجم «رسالة إلى الأختين»، وأخيراً، فيليب فيغرو في ترجمته لكتاب «مدينة في السماء». أمّا بالنسبة إليّ، فكانت الترجمة طريقة أخرى في القراءة. طريقة أعمق كنت أحاول من خلالها الغوص تحت جلد النصّ. في هذا السياق، ترجمتُ عن الإسبانية عشر قصص من أميركا اللاتينية نُشرت تباعاً في مجلّة «اليوم السابع» التي كانت تصدر في باريس، ثمّ صدرت في كتاب تحت عنوان «قصص من أميركا اللاتينية». عن الإسبانية أيضاً ترجمتُ نصوصاً كتبها خورخي لويس بورخيس من وحي الموروث العربي، وقد صدرت تحت عنوان «الأحلام المشرقيّة/ بورخس في متاهات ألف ليلة وليلة». ونقلتُ عن الفرنسية دراسات فكرية وقصائد صدرت في مجلة «مواقف». كما ترجمتُ مسرحية «مهاجر بريسبان» لجورج شحادة (قدّمها المخرج نبيل الأظن في إطار مهرجانات بعلبك). هذه الترجمات كان لها أثر عميق في كتابتي وفي علاقتي باللغات المختلفة.
- هل تتخيّل أنّ «الروبوت» سيكون قادراً، يوماً ما، على كتابة الشعر؟ في الغرب، ثمة جدل حول نقلة نوعيّة تتجاوز الإنسان إلى كائن آخر أكثر تطوّراً، هل سيكون بمقدور «الروبوت» أن يقدّم وردة لحبيبته؟
- مع كلّ ما سبق أن أشرنا إليه بخصوص الثورة العلميّة، لا تستطيع الآلة، حتّى الآن على الأقل، أن تكوّن رؤية خاصّة غير موجَّهة، نابعة من تفاعل العقل والإحساس. لكن الآلة المبرمجة تتحمّل ما لا يستطيع الإنسان أن يتحمّله. هي حواسّه الخمس وقد غطّت القارات الخمس وذهبت أبعد منها، وهي عقله وقد تضاعف، وذاكرته التي بلا حدود، ممّا يوفّر له إمكانات أكبر لاختراق المجهول. أليس المسبار الفضائي هو عين الإنسان وقد بلغت تخوم الفضاء البعيد؟ أليست سمّاعة التلفون هي سَمعه الأبعد؟ الآلة مُبرمَجة والإنسان نفسه، بغرائزه ونوازعه الأولى مبرمَج أيضاً، لكنّه يطمح دائماً إلى توسيع قدراته، في الدمار وفي البناء على السواء. جموحه لا يُحَدّ، بخلاف ما يطالعنا في عالم الحيوان والنبات وأفقهما الأساسي المحدود والمرسوم سلفاً. الإنسان الآلي الذي تتحدث عنه هو جزء من الذكاء الاصطناعي. وهذا الذكاء فتح وسيفتح، أكثر فأكثر، آفاقاً واحتمالات لم تكن متوقّعة. وقد يكون بإمكان «الروبوت» أن يدخل يوماً في منافسة مع من ابتكره، مع الإنسان الحيّ المُضافة إليه طاقات وإمكانات غير مسبوقة. قد يكون بإمكانه أن يزرع الورد ويقدّمه، وأن يكتب شعراً سوريالياً من نوع جديد! من يدري؟ لكن، حبّذا لو كانت النقلة النوعيّة التي يعيشها الإنسان تطاول الجانب الإنساني، وتتجسّد من خلال قطيعة فعليّة مع العنف الذي طبع تاريخ البشر على الأرض، فلا تعود الهوّة الشاسعة قائمة بين تقدّم علمي من جهة، والبقاء في همجيّة الحروب التي رافقت وترافق الإنسان عبر العصور. لذلك، فإنّ التحدّي الأساسي يكمن في كيفيّة التصدي للاستعمالات السلبيّة للتقدّم العلمي والتكنولوجي، ووضع العلم في مسار لا يجعله يتحوّل وسيلة إضافيّة لاغتراب الإنسان عن نفسه وعن العالم من حوله.
- هل من كلمة أخيرة؟
- لا أعرف ما إذا كانت الكلمة الأخيرة هي أخيرة بالفعل. في كتاب «وعد الفجر» لرومان غاري وردت العبارة التالية: «مع حبّ الأمّ، تَعدكَ الحياة، في مَطلعها، بوَعد لا تَفي به أبداً. وكلّما حضنتكَ امرأة بين ذراعيها وضمّتكَ إلى قلبها، كان ذلك من باب العزاء والمُواساة... باكراً جدّاً مررتَ بالنّبع وشربتَ الماء كلّه. وحين يُعاودكَ العطش، فلن تجد في انتظارك إلاّ السّراب".
أجرى الحوار محمّد ناصر الدين
("الأخبار"، ملحق "كلمات"، 15 كانون الأوّل/ ديسمبر 2018)