الياس حنّا الياس... خفيفاً جاء وخفيفاً مضى
تسقط الآنية الصغيرة من علوّ منخفض وتتكسّر، ولا يسمع لها صوت. لأنّ جلبة الخارج أقوى: الحروب الدؤوبة، المدافع وقاذفات الصواريخ، السيارات المفخخة والأجساد المفخخة، والقتل الذي ينهمر كالمطر.
نظنّ أنّ الموت الخاص لا وقعَ له، وأنه يضؤل أمام الموت العام، وهذا غير صحيح في حالات كثيرة، لا سيما حين يتشابك الاثنان ويدخلان معاً في كتلة متراصّة واحدة. فالموت الخاص، هنا، هو امتداد للموت الأعمّ، وجزء لا يتجزأ منه.
ذاك الموت الجماعي الذي لم يعد يكتفي بأسلحة العصر، بل أخذ يستعير أدواته من أزمنة بائدة. من لا يُقتَل بالأسلحة الحديثة، يمت ذبحاً بالسكين، أو بالحجارة ترمى فوق رأسه، كما في أساطير العهد القديم. وهناك من يقضي من الجوع والبرد.
بعض الذين غادروا لبنان إثر اندلاع الحرب الأهلية وتوزّعوا في أنحاء العالم، ومنهم الشاعر الياس حنّا الياس، لم يبارحوا مكانهم الأول كلّياً، لأنّ خروجهم كان قسراً وأشبه بالاقتلاع، ولسان حالهم يقول: الناجون من الحروب قتلهم ظنّهم بأنهم أحياء، لا سيما تلك الحروب التي لا نهاية لها، ترافق الأعمار الصغيرة كغيمة كثيفة سوداء تغطي السماء بأكملها.
التقينا الياس حنا الياس في باريس آتياً من حرائق بيروت محمّلاً بأثقالها. ثمّ جمعتنا مجلة « اليوم السابع » التي شكّلت تجربة مهمة في الصحافة العربية المهاجرة. وحين انطفأت فجأة تلك التجربة، عرف الياس، وكنا لا نزال في الثمانينات من القرن الماضي، ما ستؤول إليه الصحافة المهاجرة، بل الصحافة العربية ككل، ولم يكن مخطئاً في تقديره. وبدأ العمل، منذ ذلك الحين، في مجال المعلوماتية. في تلك المرحلة، قرأنا له مجموعتين شعريتين: « ما أكثر ما أقلّ »، و« كثيرون غيري ». أضاف إليهما، في السنوات الماضية، كتابين جديدين باللغة الفرنسية واكبتهما رسوم لرفيقة دربه الفنانة التشكيلية الروسية أناستاسيا الياس، وهما على التوالي: « جدّتي تسقي القمر »، والأحلام تجنّ ».
كتابات الياس حنا الياس كانت دائماً تتماهى مع حياته وشخصه. وتتماهى مع صمته. كان يدرك أنّ المعركة غير متكافئة وأنها خاسرة منذ البداية، وأنّ اللجوء إلى الكتابة يعكس تشبثاً بالحياة، لكنه تشبث الغرقى يدفعون بمناكبهم، دون توقّف، شيئاً فينا وحولنا يريد أن يموت. وما كتبه بسخريته المرّة ينقض المسلّمات والثوابت، ويقدّم مقاربات أخرى، أكثر اتساعاً وأكثر حرية، لرؤية الواقع. وهو لم يكتب ليدجّن الغربة في انتظار العودة، لأنه كان يعي أيضاً أنّ العودة إلى الأوطان لم تعد تشفي من داء المنفى.
كان الياس حنا الياس ظلاً لكيانه، وكان كأنه يسير بجوار نفسه.
خفيفاً جاء وخفيفاً مضى، دون أن يلحظ مجيئه وذهابه أحد. قبل قليل من رحيله، قال إنه لا يخاف الموت، لكنه أضاف: « بَسّ بَعد بكّير »... دائماً يأتي الموت مبكّراً مهما تأخر وصوله.
قليلة هي الكتابات الشعرية التي نشرها الياس حنا الياس وهو، على أي حال، ينتمي إلى تلك الفئة التي لا يحتاج أصحابها إلى كتابة الشعر ليصبحوا شعراء. صباح اليوم، قالت هدى إنها لم تصدّق خبر وفاته وراحت تبحث عنه في هذا القليل من الكلمات التي تركها. وبصوت مرتعش أخذت تقرأ الآتي:
« لأنني أعرف كلّ شيء فقدتُ الرغبة، لأنّي أرى الآتي، مثل ميت يتذكّر/ الحجارة ثقيلة على الأرض، الكلمات لا وزن لها، على حين غرّة، نشيخ ونغادر/ لا أحد يعرف أين أكون الآن، قد أتغيّب بعد قليل بلا سبب واضح، وقد أعود إذا سمحت الظروف/ إذا قرّرتُ أن أذهب سوف أختفي فجأة، وسوف أذكر أنني مررتُ من هنا، ذات يوم ».
عيسى مخلوف
(الأخبار"، 23 ديسمبر 2013).