عن نقد يمزج الشعري بالفنيّ... عيسى مخلوف أنموذجًا
أشرف الحساني
ليست مبالغة القول إنّ الشاعر والناقد اللبناني، عيسى مخلوف، يتوفّر على ثقافة فنّية عميقة تتعلّق بالفنون التشكيليّة والنحت والموسيقى والهندسة. ولا شكّ أيضًا في أنّ المُتتبّع لمقالاته ونقاشاته يفطن إلى لوعة الشعر الذي تتملّكه، وكيف يُحوّل نثره شعرًا، وحياته فنًّا، ووجوده تفكيرًا بالفعل.
لم ينصرف صاحب "عين السراب" إلى كتابة الرواية، بل ظلّ يُطوّع شعره نثرًا والعكس أيضًا. وهو يعيش حداثة مُبكّرة عن جيله، ويتبدّى ذلك جليًّا في مقالاته الثقافيّة، واختياراته الجماليّة، ومدى قُدرته على تطويع اللحظة العربيّة، سياسيًا واجتماعيًا، وجعلها مُتمركزة داخل خطابٍ ثقافيّ مُؤسّس على معرفة معاصرة عارفة بسياقاتها، وعالمة بمرجعياتها الفكريّة، وتحوّلاتها الأيديولوجية.
جعلت باريس من عيسى مخلوف مُثقّفًا مُختلفًا، وفنّانًا عاشقًا قادرًا ككاتبٍ على إنتاج خطاب ثقافي متميّز، كما نعاين في مؤلّفاتٍ من قبيل: "مدينة في السماء"، و"عين السراب"، و"بيروت أو الافتتان بالموت"، و"تفاحة الفردوس: تساؤلات حول الثقافة المعاصرة"، وهي كُتبٌ تبرز الهاجس المُختلف في مُعاينة راهن الثقافة العربيّة في علاقتها بالتحديث والحداثة، إذْ يعمل على مقاربتهما من منظورٍ معاصر، يختزن في جوفه تأثير هذه المدينة الساحرة على مُخيّلة عيسى، في جعله يعيش قدرًا ليس قدره، وزمنًا ليس زمنه، وذلك من خلال السفر في مرابع الثقافة الغربيّة وإمكانية تحويلها كمنظارٍ بصريّ مُفكّك في مقاربة الثقافة العربيّة، ورصد مكامن الخلل فيها، ووضع موضوعاتها في مسار تحديثي يُخلّصها من الاجترار والتكلّس.
ثمّة سحرٌ في مقالات عيسى مخلوف، إذْ ينقلك دومًا إلى أراضٍ غير مُفكّر فيها، ومناطق يبابٍ منسيّة في تراثنا الفنّي العربيّ، بطريقة يبدو فيها خبيرًا جماليًّا ومُؤرّخًا فنّيًّا قادرًا على احتواء مفهوم الكتابة وتشذيبها من النظريات والمفاهيم والسياقات، مع أنّها تظلّ موجودة، ولكن بوهجٍ أقلّ. فأسلوب الكتابة الغالب عنده يُوازي في بنياته الفكريّة وتشكّلاته الفنّية بين الفكري والذاتي، التأمّلي والحميمي، الشعري والنثري.
وهي أساليبٌ فنّية، تكاد تُميّز شكل كتابته وتجعل القول الفكريّ يتشعّب وينفتح على قضايا وظواهر تتّصل بالشأن الثقافي/ الفنّي العربيّ.
ورغم أنّ الكُتّاب والمُثقّفين العرب يعرفون عيسى مخلوف في كونه شاعرًا ومترجمًا، إلاّ أنّ ثقافة الرجل تمنحه إمكانية العبور صوب أشكال تعبيرية أخرى، مثل الترجمة، والنثر، والمقالة، والنقد الفنّي، يُمارسهما بالشغف نفسه الذي يكتب فيه الشعر، إذْ يُحوّل الكتابة التقريرية إلى طاقةٍ شعريّة تتوق فيها اللغة إلى لانهائيتها، وترنو إلى بعيد البعيد في قضايا الفنّ الغربي، ونظيره العربيّ. لكنْ ما لم تنتبه إليه الثقافة العربيّة المعاصرة أنّ مخلوف يكاد يكون علامة مُضيئة في النقد الفنّي، بسبب ما يمتلكه من عدّة فكريّة في براديغم الصورة وتمثّلاتها داخل مجالات الفنّ التشكيليّ والنحت، وقُدرته على استنطاق اللوحة وتفجير مكنوناتها وما تحبل به من أسرار. ولا أعتقد بوجود معرضٍ فني باريسي لم يره مخلوف، حيث تجده دائمًا هناك في زوايا معارض الفنّ المعاصر، مُتأمّلًا واقع الأعمال الفنّية، ومُفكّرًا في سياقاتها التاريخيّة وآفاقها الجماليّة، وما تُقدّمه من مفاهيم وأفكار ورؤى، يُعيد مخلوف التفكير فيها كتابة، وجعلها تخرج من جسده، شعرًا مرئيًّا، حيث تتحوّل الكُتل اللونية إلى مجازات، والسند إلى مُختبرٍ فكريّ، والأسلوب الفنّي إلى صُوَرٍ.
وهذا النّمط في المُمارسة النقديّة لا نعثر عليه إلاّ في كتابات صاحب "رسالة إلى الأختين" (ترجمه عبد اللطيف اللعبي إلى الفرنسيّة)، وهو نمطٌ صعب يحتاج إلى نفسٍ شعريّ وقُدرة هائلة على التأمّل والغوص في ثنائية خطابٍ يمزج الشعري بالفنّي، ويُطوّعهما داخل خطاب فكريّ مُركّب لا يقف عند نقطةٍ واحدةٍ ترسو عندها العين بقدر ما يخبط خبطًا مُجنّحًا. وليس ذلك غريبًا بالنسبة لمخلوف الذي يُظنّ إعلاميًّا أنّه درس الأدب، مع أنّه تخصّص في الأنتروبولوجيا الثقافيّة والاجتماعية، وحصل على شهادة الدكتوراة من جامعة السوربون الفرنسيّة. ما يجعل أسلوب كتابته مُبرّرًا من الناحية الفكريّة.
كتابات مخلوف تبدأ مدخلها الفكريّ بلوحةٍ تشكيليّة، أو معزوفةٍ موسيقيّة، أو منحوتة فنّية، ما يُفسّر السرّ الكامن في لغته، وخُلوّها من المفاهيم القهريّة، حيث يجعلها كتابة شعريّة سلسة، لا تعبث بالسياق التاريخيّ أحيانًا، ولكنْ بالجوهر الفكري من خلال الشعر. على هذا الأساس، أجد دومًا في كتاباته النقديّة ميزة مضافة إلى النقد الفنّي العربيّ، لأنّه يسعى جاهدًا إلى تحريره بطريقة عفويّة وإخراجه من عبثيّته واقتصاره على البُعد الإخباري، وانفتاحه على التجريد الفكري والاستيهام الشعري، بما يمنحه قوّة كبيرة من الداخل حتّى يُجدّد تجاربه وتاريخه وذاكرته. ورغم أنّ عيسى مخلوف لا يُذكر في الأدبيات النقديّة باعتباره ناقدًا فنيًا، إلاّ إنّه يبقى من أجمل من يكتب فيه، وأهمّ من يُساجل في مفاهيم وقضايا وتصوّرات من المنظور البصريّ، بحكم أنّ ثقافته الغربيّة تُمكّنه من ذلك، كما أنّ المجال الفكريّ الذي اختاره يُسهّل عليه اختراق مفهوم العمل الفنّي، لأنّه يُتيح له مساحاتٍ كبيرة من القول، وزاوية مُعاينةٍ مُختلفة عن الكتابة النقديّة، بسبب وعيه بأنّ عملية تجديد النقد تكمن في قُدرة الذي يُمارسه على تخليص كتابته من الوصف، وجعلها تدخل أراضي فكريّة من خلال احتواء المناهج المعاصرة، والانفتاح على مجالات التاريخ، والأنتروبولوجيا، والفلسفة، وعلم الاجتماع، فالنقد لا يتطوّر ولا يُجدّد ذاته إلّا من خلال مرآة الآخر وتاريخه وفنونه وعلومه ومناهجه.
.(2022صحيفة "العربي الجديد"، "ضفّة ثالثة"، 6 آب/ أغسطس )