حضور رولان بارت
في الخامس والعشرين من شهر شباط 1980، قرابة الساعة الرابعة بعد الظهر، وبينما كان رولان بارت يجتاز الطريق ليدخل مبنى "كوليج دو فرانس" حيث كان يحاضر منذ خريف 1978، صدمته شاحنة صغيرة تابعة لمصبغة لتنظيف الثياب، وتوفي في المستشفى بعد شهر من وقوع الحادث.
في ظلّ الموت، عاش بارت سنواته الأخيرة. والموت يحضر بقوّة في نتاجه الموزّع بين السيميائيّة والنقد الأدبي والكتابة الذاتيّة. وكان موت والدته عام 1977، التي مثّلت الحبّ الأكبر في حياته، بمثابة الموت الأوّل بالنسبة إليه.
من جانب آخر، نشر، نهاية الستينيات من القرن الماضي، مقالاً بعنوان "موت الكاتب"، وهو، هنا، موت مجازي يتمحور حول فكرة أساسية مفادها أنّ الكاتب ينبغي أن يترك القارئ يعيد هو نفسه، عبر القراءة، صياغة النص من جديد، أي أنّ الكاتب ليس الضامن الوحيد لمعنى مؤلّفاته، وهذا ما يضع القارئ أمام تحدّ كبير بعد أن تصبح القراءة، هي أيضاً، فعلاً إبداعياً.
استوعب بارت محصّلة الفكر الغربي منذ كارل ماركس وسيغموند فرويد وصولاً إلى كلود ليفي ستروس. استوعبه وعمّقه في آن واحد، واضعاً إيّاه في سياق مبتكَر وفق رؤيته الخاصة، وانطلاقاً من منهجية مفتوحة تنهل من الفلسفة والفنون التشكيلية والأدب والتاريخ. لم ينحصر نتاجه فقط في الأسئلة المتعلّقة باللغة، بل ذهب أبعد من ذلك. مسائلًا الأدب والفنّ، والمسرح والصورة الفوتوغرافية، كما توقّف عند بعض مظاهر الحياة المعاصرة كالموضة والإعلانات وخطاب الاستعمار وأغلفة مجلة "باري ماتش"، يدرسها ويقوّمها انطلاقاً من المعاني التي تكتسبها داخل أنساق تاريخية وثقافية محدّدة.
ضمن هذا الأفق، جاء كتابه "أسطوريات" الذي يعالج فيه أساطير المجتمع الفرنسي في الخمسينيات من القرن الماضي، من خلال التصدّى لقيم اللغة السائدة وقوانينها. فالأسطورة، حسب بارت، إحدى أدوات الإيديولوجيا، تبدأ باللغة وتصنع من الواقع ومن أشيائه النافلة مجموعة أساطير. هكذا تكتسي الأشياء المعنى الذي تفرضه الإيديولوجيا السائدة، وتعمّمه بصفته المعنى الأوحد الذي ينبغي أن يُحتذى.
من خلال مؤلّفاته، يمنحنا بارت القدرة على صوغ رؤية أوضح للعلاقة بين النصّ والحياة. حين يتحدث عن سيارات شركة "سيتروين"، إحدى السيارات الرائجة في فرنسا، لا يصف فقط شكلها والمواد المستعملة في صنعها، بل كيف تعمل لغة الإعلان على جعل وسيلة المواصلات هذه، مسألة تتجاوز السيارة وتساهم في تسويقها وبيعها. يلاحظ بارت أنّ السيارات مرادفة للكاتدرائيات القوطيّة الكبيرة التي كانت تمثّل في القرون الوسطى ابتكاراً عظيماً، وقد صمّمها فنانون مجهولون من أجل شعب يعثر فيها على ما يقارب السحر. من السيارة إلى لُعَب الفتيات والقصد منها، في رأيه، تهيئتهنّ لدورهنّ المقبل (لا سيّما كما كان الأمر في فرنسا في النصف الأوّل من القرن الفائت)، إلى أدوات الزينة والحلي والمجوهرات ومساحيق الغسيل، أو التعاطي مع بعض وجوه ممثلات السينما آنذاك ومنها، على سبيل المثال، وجه غريتا غاربو الذي يخرج من ذاته ويرتقي إلى مستوى الأيقونة. يقول بارت: "هي دائماً نفسها، الوجه نفسه: وجه الثلج والوحدة". وهو هكذا بالفعل. إنه الوجه الثابت والمكتمل كأقنعة الذهب في الحضارة الفرعونية، ووجوه الآلهة التي لا تشيخ ولا تفنى.
يُشرّح بارت مجتمع الفُرجة والاستهلاك ليُظهر كيف أنّ تحويل كلّ شيء إلى مشهد يجرّد الإنسان، أكثر فأكثر، من نفسه ومن فكره وأحاسيسه. في موازاة الأساطير القديمة، يبسط أمامنا أساطير العالم المعاصر الذي تسيطر عليه تقنيات الإنتاج الحديثة و"منطق" التسليع والربح وتَغَيُّر المعايير. ينظر بارت إلى الكائنات والأشياء من حوله ويذهب إلى المعنى الأعمق فيها، المختلف غير المتداول.
وفي حين يشكّل كتابه الشهير "من الدرجة الصفر في الكتابة" بياناً "حداثوياً" بامتياز، يستند كتاب "شذرات من خطاب مُحِبّ"- وكان أكثر كتبه رواجاً في فرنسا- إلى قراءات المؤلّف للنتاجات الأدبية، شعراً ونثراً، كما يعتمد على مرجعيات موسيقية وفنّية، مستنطقاً إيّاها ممعناً في تحليلها. هنا أيضاً يمسي الحبّ موضوع بحث وتأمّل. هذا الكتاب يقول الجسد والشهوة والدهشة والبوح والتواطؤ والارتهان والجنون. في تحديده لرسالة الحبّ، نقرأ الآتي: "ليس عندي ما أقوله إلّا هذا اللاشيء، ولكِ أقوله". يطالعنا أيضاً: "الصمت هو دائماً أحد أجمل الملاءات". أما العاشق فهو "ذاك الذي ينتظر". يعيش في الانتظار ويدرك معنى الغياب، هكذا يبدأ القلق والتَّيهان، وتبدأ الغربة. في هذا الصدد، تتّخذ الإجابة منحى جديداً يعبّر عنه الكاتب بقوله: "لا بدّ أن نكون غرباء، بل ينبغي أن نكون كذلك، إلّا حين يحلّ المساء". في تلك اللحظة، تولد الحاجة إلى الآخر.
من المستوى الذي يجمع الخاصّ والحميم، ويرصد علاقة الإنسان مع ذاته ومع غيره، إلى المستوى العامّ، يرى بارت أنّ العالم يتقدّم بسرعة ويمضي قُدُماً نحو الأمام، فيما التمثّلات الجماعية لهذا التقدّم تبقى متخلّفة عنه مئات السنين. وما يحافظ على جمودها هي السلطات القائمة والإعلام المعمَّم والقيم السائدة. ينتقد بارت هذه القيَم واللغة التي تجسدّها، يحذّر من السقوط في النخبويّة مشيراً إلى أنّ حقيقة هذه المرحلة الزمنية أو تلك تطالعنا أيضاً في قلب الكلام العادي الذي تلهج به الثقافة الشعبية، وكذلك في أخبار الرياضة والإعلانات وقراءة الأبراج.
يقدّم نتاج بارت مقاربة نقدية تغوص في جوهر العمل الأدبي أو الفني وتشرّعه على احتمالات قراءة لا نهائية. وهذا لا ينطبق فقط على الكتابة والقراءة والفنون التشكيلية والمشهدية، بل أيضاً على الصورة الفوتوغرافية التي كرّس لها كتاباً بعنوان "الحُجرة البيّنَة"، وكان كتابه الأخير قبل وفاته، وهو يشكّل مرجعاً أساسياً في هذا المجال. في هذا الكتاب الذي يعود فيه أيضاً إلى والدته بعد رحيلها، يكشف ثانيةً إشكاليةَ العلاقة بين الماضي والحاضر، بين الإنسان الذي يقف أمام عدَسة المصوِّر والوقت العابر. الصورة تلتقط اللحظة التي ضاعت بشكل نهائيّ فور التقاطها، وتؤكّد حقيقةً بدهيّة أنّ الزمن لا يعود إلى الوراء. أنّ الوجه الذي كان في الصورة لن يكون بعد اليوم. فالوقت يسيل و"لا يمكن النزول مرّتين في النهر نفسه" وفق هيراقليطس. الصورة تحيل الإنسان إلى ذكرى وتضعه على مسافة من الواقع ومن نفسه.
قاومَ بارت سلطة اللغة أو اللغة المؤسّسة التي يقوم عليها المجتمع، وعمل على تفكيك دلالاتها ضمن رؤية متعدّدة الأبعاد تتقاطع فيها اللسانيات والسيميائية والبنيوية (وصولاً إلى ما بعد البنيويّة) والتحليل النفسي، وتتعارض مع النقد الأكاديمي والنقد الإيديولوجي. يتحرّك الفكر النقدي، هنا، داخل السؤال لا داخل الإجابات الجاهزة، ولا يركن إلى جواب واحد وتفسير واحد. أسئلة بارت وأطروحاته لا تزال مصدر اهتمام، حتى اليوم، في فرنسا وفي أوساط النقد وفي أنحاء كثيرة من العالم. أما في العالم العربي فيتجلّى حضوره بالأخصّ عبر الذين انفتحوا على أفكاره واستلهموا منها لا سيّما بعض الكتّاب والنقاد المغاربة باللغة الفرنسية مثل عبد الكبير الخطيبي وعبد الفتاح كيليطو. وإذا كانت كتُب بارت قد نُقلت في معظمها إلى اللغة العربية، فإنّ نسبة كبيرة من الترجمات المتوفّرة لا ترقى إلى اللغة المتوهّجة الحديثة التي كتب بها الكاتب الفرنسي نصوصه وكتبه، وبعض هذه الترجمات غير صالح للنشر، بل ثمة من أساء إلى نتاج بارت وأخضعه للرقابة فحذف منه مقاطع كاملة. من بين أفضل الذين نقلوا بارت إلى العربية، نذكر كلاً من محمّد برادة ومنذر عياشي وعلي نجيب إبراهيم.
عيسى مخلوف
("العربي الجديد"، 24 فبراير 2015).