عيسى مخلوف في كتابه " ضفاف أخرى "
سيرة الكاتب الحقيقيّة لا يحدّدها ما يعيشه، بل ما يجترحه من كُشوف الكتابة
شوقي بزيع
يتردّد المرء قليلاً قبل أن يأخذ قراره بالشروع في الكتابة عن الإصدار الأخير للشاعر والكاتب اللبناني عيسى مخلوف. ليس لكون العمل الجديد غير جدير بالقراءة, أو عن افتقاره الى عنصري التشويق والمتعة اللذين ينبغي توفّرهما في كلّ نتاج إبداعي، بل لأنّ مخلوف لا يترك لقارئه ما يضيفه إلى هذه البانوراما الشاسعة من الموضوعات والوقائع والأفكار، التي "يأخذ بعضها برقاب بعض"، كما تقول العرب، والتي تتداخل فيها المعرفة بالبوح العاطفي، والنقد النظري بالمساررة القلبية التي تنجح في استدراج القارئ الى متابعتها، حتى لو كان يقف على الضفة الثانية من الأفكار والقناعات. والأرجح أنّ الدمج الحاذق بين البعدين السيَري والمعرفي في الكتاب، لا يضع القارئ أمام عمل سجالي وطروحات نظرية إشكالية، بقدر ما يثير فضوله للتعرف أكثر على مسيرة صاحب "عزلة الذهب" ومكابداته، منذ الطفولة المبكرة وحتى اللحظة الراهنة.
والواقع أن "ضفاف أخرى" لم يكن ليأخذ هذا الطابع، ذا الهوية المزدوجة، لولا "التواطؤ" الإيجابي المسبق بين طرفي التأليف، أعني بهما: المحاوِر علي محمود خضيّر, والمحاوَر عيسى مخلوف. ذلك أنّ دور خضير في إخراج هذا الكتاب المميّز الى دائرة الضوء، لم يقتصر على توجيه الأسئلة وتدوين الإجابات، بل بدا الكاتب العراقي، بحكم الصداقة الوطيدة والتناغم الفكري، مشاركاً أساسياً في اختيار المحاور وطرح الإشكاليات والأسئلة العميقة وتوجيه دفّة العمل بكامله، وهو ما يفسّر تصدّر اسم المحاوِر جنباً الى جنب مع المحاوَر في العديد من الكتب الحوارية المماثلة. على أن خضيّر لم يكن مهجوساً، كما يبدو من الكتاب، بالبحث عن موقع أو مكانة شخصيين، بقدر ما كان يريد أن يقدّم للقارئ صورة بانورامية شبه كاملة عن سيرة مخلوف الشخصيّة، كما عن فكره وثقافته وتجربته الإبداعية. أما غياب الطابع السجالي عن الحوار، فيعود الى قناعة خضير، كما يشير في المقدّمة، بأن الغاية من الكتاب ليست التعرّف الى آرائه وسيرته كمحاوِر، بل التعرف الى الشاعر المحاوَر، واستدراجه الى خانة البوح الشخصي والوجداني من جهة، والى تفريغ ما في جعبته من مخزون معرفي، من جهة أخرى.
وليس أمراً بلا دلالة، أن يتمّ وضع الكتاب تحت خانة السيرة دون سواها، كما يستدلّ من الكلمة المثبتة على غلافه. ذلك أن عيسى يرمي من وراء ذلك إلى القول بأنّ سيرته الحقيقية لا تنحصر بوقائع حياته، أو بحلّه وترحاله بين الطفولة والبلوغ، بل هي تتمثل بشكل أساسي في ما أنجزه من إبداعات وحصّله من معارف، وانتزعه بكدحه الشخصي من مواقع وأدوار. أما الأمر الآخر الذي يستوقفنا في هذا السياق، فهو أنّ الأجوبة التي يقدّمها مخلوف عن الأسئلة المطروحة هي أجوبة مكتوبة وبعيدة عن الارتجال العفوي، كما أنها مصاغة بإحكام ومترعة بالشواهد والاقتباسات التي تدعم رأياً من الآراء أو تدحض آخر، وفقاً لما يريد الشاعر أن يؤكّده أو ينفيه. ولعلّ المدة الطويلة التي استغرقها إنجاز الكتاب، متأتية من رغبة طرفيه في أن يجعلا منه، وعبر فصوله المختلفة، أحد المصادر الأكثر ثراء للتعرّف الى شخصية عيسى مخلوف وسيرته وتجربته الشعرية ومواقفه من قضايا عصره، ومن سائر مناحي الحياة والأدب والعلم والفلسفة، وصولاً الى شؤون البيئة وتقلّص الغابات واستشراء الأوبئة الفتّاكة .
وإذا كان الكتاب يكشف في مختلف محطّاته عن الموهبة النثرية العالية لعيسى مخلوف، وهو شأن كلّ شاعر حقيقي، فإنّ تلك الموهبة أكثر ما تبدو جليّة في المحور المتعلق بالطفولة، حيث يتحدّث الكاتب عن الجغرافيا الفريدة لقريته "إهدن"، والتي لا تكتفي بأن تتشارك مع الجنّة تسميتها المشتقّة من "عدْن" العربية، بل تشاركها في الوقت ذاته ألقها الساحر وجمالها الخلاّب، حيث الجبل المجاور لقريته "يرتفع كموجة زرقاء عالية تحجب موجة أخرى، زرقتها أكثر تماهياً مع السماء"، بقدر ما هو "المنحوتة العظيمة التكوين التي نحتها النحّات الأول بأزاميل من شمس ورياح وثلوج". كما يؤكّد مخلوف على العلاقة الوثيقة بين الفن وفضائه المكاني، متناغماً مع مقولة باشلار التي تربط بين الطفولة الشاسعة والمخيّلة الشاسعة، وترى في النوافذ المفتوحة على الريف، المكان الأمثل لهبوب رياح المجازات. ومع ذلك فإنّ الموت يدخل باكراً على خطّ البراءة الهانئة، حيث يتحوّل الرحيل المباغت للأخ الأكبر إلى جرح في روح الطفل يصعب التئامه. ثمّة من ناحية أخرى لحظات أخرى تلمع كبرق سوريالي خاطف في فضاء الماضي، وتضيّق المسافة بين الشعر والحياة، حيث ينقل الشاعر عن أمه أنها، لدى زيارته السنوية لبيته العائلي قادماً من باريس، كانت "تخرج صباحاً الى الحديقة وتلاحق العصافير من غصن الى آخر، وتتوسّل إليها أن تبتعد حتى لا توقظ ابنها النائم".
ومع أنّ صاحب " عين السراب " لا يغفل الإشارة الى ما يطلق عليه تسمية "المشاعر الغريبة" التي تنتاب البشر لدى عودتهم الى مسقط الرأس، والى النظرات الحائرة التي يتبادلها المقيمون مع العائدين في لحظات اللقاء الأولى، حيث يكون الزمن قد حفر عميقاً في وجوه الطرفين وملامحهم، إلاّ أنه لا يذهب أبعد من ذلك، ولا يتحدّث عن تعذّر العودة الفعلية إلى الأماكن التي نغادرها في سنيّ الطفولة والصبا، إلاّ بالموت، كما يرى بعض من هم أكثر تشاؤماً من الكتّاب والفنانين.
على أنّ اللافت في كتاب "ضفاف أخرى" هو أنّ اللغة التي تتوهّج مع الحنين إلى الماضي والعودة الى زمن الطفولة، لا تفقد توهّجها مع انتقال الحوار الى محطّات لاحقة ذات طابع فكري، بل هي تبدو في مستوى مماثل من الحرارة واللمعان والتوهّج القلبي. والأمر على ما أظنّ ليس ناجماً عن التمرّس الطويل بالكتابة والافتتان باللغة الأمّ فحسب، بل عن التناغم الواضح بين طرفَي الكتاب واختيار المَحاور والمحطات والمدن والتجارب والأسماء التي تربطها بالشاعر اللبناني صلات مودة وقربى، إضافة بالطبع الى التأنّي الواضح في إعداد العمل وإنضاجه على نار هادئة. وبقدر ما قدّم لنا مخلوف فصولاً هامّة ومنتقاة من حياته في لبنان وفنزويلاّ وفرنسا، قدّم مقاربات موجزة ولمّاحة للمدن التي عرفها عن كثب. فبيروت التي قدُم إليها من ريفه الشمالي الرومنسي، قبل أن تجبره الحرب إلى مغادرتها باتجاه فنزويلاّ، هي " البحر والشرفة المطلّة على العالم، والمدينة التي تعيش أقصى لمعانها، فيما هي ترقص بمن فيها على فوهة بركان"، وباريس التي ما تزال مقرّ إقامته منذ عقود، هي "مجموعة مدن وأمزجة ووجوه، بقدر ما هي مدينة الهندسة المعمارية والثقافة والمتاحف والمكتبات والحدائق والفنون"، وإحدى أهمّ مرايا الثقافة في العالم المعاصر. ونيويورك التي سكنها لسنتين متتاليتين بسبب عمله في الأمم المتّحدة، هي المختبر الهندسي الهذياني لكلّ ما يتعلق بالمعمار والمال والأدب والسينما وفنون ما بعد الحداثة. وهي "مدينة الانبهار والدهشة" ودولاب التكنولوجيا الذي لا يكفّ عن الدوران .
وبالطريقة نفسها، وبلغة تؤالف بين الحميميّة والإتقان، يقدّم مخلوف بورتريهات لكتّاب ومبدعين عرباً وأجانب، ممّن تفاعل بشكل أو بآخر مع تجاربهم الإبداعية وفضاءاتهم الرؤيويّة، أو جمعته بهم علاقة صداقة وثيقة، أو أجرى معهم حوارات أدبية وفكرية. ومن بين هؤلاء جورج شحادة الذي يرى بأنّ الكتّاب الحقيقيين هم الذين يلتقطون الأشياء "كما تُقطف الثمار الناضجة عن الأشجار"، و أنسي الحاج، الذي يصفه باليقظ المتوهّج وذي العصب المشدود، وأدونيس الذي لم يحل تقديره لمكانته دون الاختلاف معه في العديد من القضايا، وصلاح ستيتية الذي عرض على مخلوف أن يريه القبر الذي أعدّه لنفسه، بعد أن ظل يصارع مرضه لعقد كامل، ومحمود درويش "الشبيه بقصبة مجروحة"، وبورخيس الذي وصف نفسه، في حوار له مع الشاعر، بأنه فوضوي هادئ، مكرّراً ما سبق له إعلانه حول تأثره الشديد بكتاب "ألف ليلة وليلة"، وإيف بونفوا الذي راح حين التقاه يتحسّر على لبنان، بقدر ما راح يتحسّر على مخلوف نفسه حين عرف أنه يكتب الشعر !
على أنّ أيّ مقاربة نقديّة لكتاب "ضفاف أخرى" هي أقرب إلى الورطة الحقيقية منها إلى أيّ شيء آخر. إذ أنّ في الكتاب من اللقى الثمينة والجمل المفتاحيّة المفاجئة، ما يستدرج المتصدّين له بالنقد الى الاستشهاد بالكثير من فقراته وعباراته "المغوية"، سواء في ما يتعلّق بموضوعات الهجرة والمنفى والحدائق وهندسة الأماكن وحوار الثقافات، أو بأعمال مخلوف الشعرية والنثرية وترجماته ورسائله، وهو أمر لا تتّسع له مقالة في جريدة، مهما بلغت درجة دقّتها وشمولها. لذلك فإن قراءة الكتاب "من الوريد الى الوريد"، هي سبيل القارئ الالزامي للوقوف، لا على جماليات الكتابة وسيرة صاحبها فحسب، بل على ملامح عصر كامل من الثورات التي خوت على عروشها، والأحلام التي تمّ وأدها في المهد.
(2 أيلول/ سبتمبر 2022).