عيسى مخلوف القابض على الجَمال في خلاصاته
فاروق يوسف
حين نقرأ أشعاره ومقالاته نشعر أن ظل الشاعر يقع على الكاتب والمترجم اللذين حاولا أن يخترعا أسبابا للعيش.
الأحد 2023/06/25
“يتراءى للجائعين في المدن أن حقول القمح البعيدة، هناك، تمتد إلى ما لا نهاية، وأن لا جوع تحت الشمس/جوع المدن أتعرفه؟ جوع المتاهة الذي لا يُفضي إلى أرض وإلى شجرة. الجوع الأعمق من كل جوع. الجوع إلى الآخر المتواري حتى عن نفسه”.
تلك هي لحظة سكون، عبأها عيسى مخلوف بتوقه الشديد إلى المعرفة. ذلك التوق الذي فتح أمامه آفاقا امتزج من خلالها الشعر الذي هو موهبته الأصلية الكامنة بالجمال في كل تجلياته وبالأخص في مجالي الفنون البصرية والموسيقى.
كتب مخلوف الكثير من المقالات التي تنضح بلغة التبشير بالجمال كونه خلاصا، حتى ليظنه المرء كائنا تخلى عن سيرته الاجتماعية ليكون عنصرا شعريا يطوف بخيال الرسامين والموسيقيين والمعماريين أينما كان.
أن يكتب الشاعر ذاته والآخر
اخترقته الأماكن التي عاش فيها ومر بها وتركت أثرا حسيا وروحيا عميقا في تجربته التي تميزت بعمق منحاها الإنساني. وهو ما تجلى قويا في كتابه “مدينة في السماء” الذي هو خلاصة سنة من العيش في نيويورك. وإلى جانبها كانت هناك خلاصات كثيرة توزعت بين كتبه الشعرية والنقدية، أكد من خلالها احتفاءه بقيم إنسانية ذات أبعاد أخلاقية يعرف أنها قد نُزعت بتأثير من التفكير المادي من عصرنا الذي يعج بالغرباء.
شاعر ومترجم وناقد فني وصحافي غير أنه في المقام الأول رسول إنسانية معذبة، وضع كدحه الجمالي في خدمة مساءلات تحوم بأجنحتها حول الإنسان، كما لو أنها تشيّعه أو ترثيه وبالقوة نفسها تستقبله وتحتفي به.
في كتابه “عين السراب” يقول: "في طريق العودة، سنجلس حيث اعتدنا الجلوس. عاليا سنجلس وأمامنا أشعة الشمس الغاربة، المنهمكة في نقل أشجار الشربين إلى أمكنة أخرى ولا نفقه ما يجري حولنا أو نتظاهر بأننا لا نفقه. يا عصفوري الصغير القابع في ظل الأوراق والأغصان لا أعرف إن كنت تموت أو تختبئ".
أصدقاء ليسوا للموت
لهذه الأسباب وسواها تبدو الكتابة عن عيسى مخلوف صعبة. ففي عمق تجربته الشعرية يقف الإنسان وهو يتلفّت باحثا عن مصيره، وفي عمق تجربته الإنسانية يتصفح الشاعر أوراقه باحثا عن كلمة تتخلى عن معانيها لتذهب بصوتها إلى مناطق نقية كما كانت تفعل صديقته إيتيل عدنان وهي ترسم.
في خبايا صوته هناك رغبة في ألا يموت أصدقاؤه لكي لا يخسر العالم لحظة ضوء يخترق من خلالها عتمة أيامه الحالكة.
في كتابه “ضفاف أخرى” يروي كيف هرب من لقاء صديقه شفيق عبود حين رأى الموت وقد تسلل إلى ملامح وجهه. كانت تلك لحظة حزن تسللت إليها كل المرثيات الملحمية. هل كانت حياته مختبرا للحظات، ترفض أن تكون جزءا من الزمن الواقعي؟
لم يستسلم مخلوف للهزيمة التي طوقته من كل الجهات. عاش بالشعر ومن أجله. ولأنه يعرف أنه يقاتل تحت سماء مكشوفة فقد صنع حياة خفية عاشها وحيدا في مواجهة عالم يرضع حليبه من ثدي المؤامرة. قاوم ليقول الحقيقة. لكنها حقيقة تظل موشومة بعلامات استفهام يهبها الشعر قوة المواجهة. سيكون علينا حين نقرأ مقالاته التي يكتبها بخفة لغته الطافحة بالهيام أن نعترف أن إخلاصه لجوهر الشعر يضعه في قائمة القلة التي وهبت لغة الشعر بعدا إنسانيا يهب التجربة الفنية كثافة مستلهمة من الألم.
قال في خطاب ألقاه في احتفال أُقيم لمناسبة حصوله على جائزة ماكس جاكوب الفرنسية سنة 2009 عن كتابه “رسالة إلى الأختين” إن "الكتابة معركة من أجل المستقبل وعتبة مفتوحة على الأمل".
المسافر بين اللغات
ولد عيسى مخلوف عام 1955. غادر لبنان إلى فنزويلا في بدء الحرب الأهلية. تعلم هناك اللغة الإسبانية التي ترجم في ما بعد عنها روائع القصص لكبار كتاب أميركا اللاتينية. عن طريقه تعرف القراء العرب لأول مرة على بورخيس وكورتثار وماركيز وآخرين. بعد سنوات غادر إلى باريس ودرس في جامعة السوربون حتى نال منها درجة الدكتوراه في الأنثربولوجيا الثقافية والاجتماعية.
عمل في صحيفة “النهار العربي والدولي” ومن ثم انتقل للعمل مشرفا على الصفحات الثقافية في مجلة “اليوم السابع”. وما بين عامي 1992 و1994 عمل أمينا للتحرير في مجلة “مواقف” التي كان يصدرها الشاعر أدونيس. بعد ذلك عمل مديرا للأخبار في إذاعة الشرق بباريس.
قضى سنة في نيويورك وهو يعمل مستشارا ثقافيا خاصا في منظمة الأمم المتحدة ما بين عامي 2006 و2007.
أصدر مخلوف كتابه الشعري الأول عام 1981 بعنوان “نجمة أمام الموت أبطأت”. بعده أصدر أكثر من عشرين كتابا توزعت بين الشعر والدراسات الجمالية والترجمة.
عام 2008 قدمت الممثلة اللبنانية نضال الأشقر مسرحيته “قدام السفارة الليل كان طويل”.
حرص مخلوف على أن يكون دائم الحضور من خلال الكتابة بطريقة حرة في الصحافة العربية.
متحف خياله الشخصي
سبق عيسى مخلوف الآخرين إلى كتابة سيرته بطريقة ذكية بدا من خلالها كما لو أنه وقع في مصيدة صحافي مؤهل لالتقاط صور للشاعر في مختلف مراحل حياته. كان العراقي علي محمود خضير كذلك. “ضفاف أخرى” كتاب حوارية عذبة ونضرة ومتشعبة، استغرق مخلوف من خلالها في استعادة أيامه التي غادرها كما لو أنه يتأمل زمنها في المرآة. زمن بطولته وهو يدافع عن حقيقته شاعرا وإنسانا في مواجهة “أقنعة الغربة” عنوان كتابه الذي صدر بالعربية والإسبانية عام 2018.
يقول “نقتل لنأكل. نصطاد الطير في سمائه والسمكة في بحارها. نذبح الحيوان والعشبة نقطعها من الجذور. وثمة مَن في الخفاء يقتلنا ويأكلنا".
يسافر بنا مخلوف في كتابه “ضفاف أخرى” بين الأزمنة والأمكنة والوقائع والكتب والأصدقاء والفنون البصرية والاحتفالات الموسيقية ليضعنا في قلب الجمال. والجمال بالنسبة إليه لا يقتصر على زمن بعينه. يؤمن مخلوف بالجمال الخالد. لا فرق في ذلك بين نساء الجزائر لديلاكروا وواحد من الدفاتر التي احتضنت رسوم إيتيل عدنان. متحفه يتسع للقى نادرة تعجز المتاحف عن فهم أسرارها. لقد مضى بالجمال وهو لغز حياته إلى أقصاه.
حين نقرأ أشعاره ومقالاته نشعر أن ظل الشاعر يقع على الكاتب والمترجم اللذين حاولا أن يخترعا أسبابا للعيش في عالم مضطرب.
خلق عيسى مخلوف متحفه الشخصي. فرض شروطه الإنسانية من خلال ذلك المتحف على الجمال. الملغز في شخصيته تلك القدرة الاستثنائية على أن يضع الكلمات في مكانها. فهو يتحدث كما لو أنه يكتب ويكتب كما لو أنه يتحدث بلغة الصديق الذي يشاركه متعته وفي الوقت نفسه ألمه.