عيسى مخلوف في "رسالة إلى الأختين"
راما وهبة

 

"جبل مُون بْلانْ مبتسم في كآبته، مكتئب في ابتسامته".
شوبنهاور

 

مون بلان أو الجبل الأبيض هو أكثر الجبال الدَّمويَّة التي تنتشر على الحدود بين فرنسا وإيطاليا، وفي ذلك التَّناقض بين العراء الثَّلجيِّ لما يُسمّى (سقف أوروبا) والنَّزيف الإنسانيِّ المتصاعد على قممه تأتي ابتسامة الجبل اللُّغز، كما تأتي تلك الثُّنائيَّات العابرة في كتاب "رسالة إلى الأختين" لعيسى مخلوف والذي يبدأ بالإشارة إلى المكان في كلمته الأولى: "باريس". ولكن تلك الإشارة لا تستمرُّ إلاّ لبرهة يتخلَّى فيها المكان عن محدوديَّته في الوجود الفيزيقي إلى فضاء الصَّوت وموسيقى الكاتدرائيَّات التي ترشح من عتبات الابتهال الكنسيِّ في إحدى مؤلَّفات باخ، وتحديداً إلى: "صوتِ كاتلين فيرييه وهي تنشدُ الآلامَ بحسبِ القدِّيس متّى". باخ الذي طوَّر أشكالاً جديدة من هندسة التَّأليف الموسيقيِّ الكاشف عن جوهر غائب يحمل سماتَ الرُّوح. الرُّوح التي تبتهل في صمتها الكيانيِّ، إلى أن يتلقَّى الجسد نفسَه في الانفصال المشيميِّ الأوَّل، هذا الانفصال الذي طوَّعه الكاتب في لغة تشفُّ وتستعصي، تندفع وتتشظَّى في لحم الآخر الجنسوي والقابل للانشطار إلى رغبة الضِّدَّين أو (الأختين)، تلك الرَّغبة التي أوردها مخلوف على لسان نوفاليس: "قد لا تكون سوى نزوع مقنَّع إلى اللَّحم البشريِّ"، نزوع إلى الافتراس: "التهام الآخر، أتعرفينه؟ افتراس الآخر وأكله!"، في إشارة إلى الجنس الذي يُخرِج البشر عراة من تاريخهم وأخلاقهم ومعرفتهم بالعالم، يُخرِجهم عراة حتَّى من عظامهم، الجنس الذي هو "الحبُّ والموت في سرير واحد" كما يعبِّر الشَّاعر الفرنسي سان جون بيرس.

شخصيَّة الأختين في الرَّسائل تظهر في انكسارات البوح الواحد، في مرآة الاعتراف وما يحمله من التأهُّب الضِّمنيِّ لسريرة الانشقاق الذي يعلو حتى النِّداء الأخير: "اليوم أتوجَّه إليكِ وحدكِ وأقصدكما معاً. أقول أنتِ الواحدة وأمامي اثنتان". في هذه الثُّنائيَّة ما يذكِّرنا بشخصيَّات الأدب في الأعمال الروائيَّة، الشَّخصيَّات التي تتشكَّل في مكان خاصٍّ بين عالمين، والتي تبدو مثل "أحياء بلا قلوب"، حسب بول فاليري. ولكن هي أيضاً الشَّخصيَّات الشِّعريَّة التي يقول أوزفالد دوكرو: "إنها تخرج بصورة مفارقة لتكون إحدى النُّقاط الأكثر غموضاً". تلك الشِّعريَّة التي تنقضُّ بدءاً من غرائزها في رسائل الكتاب، ومن وحشيَّة الاستلاب العاطفيِّ صوب بساطة الاعتراف الذي تشتدُّ جذوته في الأعماق بقدر ما تنفرج صرخته نحو الخارج. حيث تذهب الكتابة إلى ما وراء حالات الاسترخاء الذِّهنيِّ في قبول المعطى العامّ كمعطى تامّ ونهائيٍّ، فتُسائل لا لتعرفَ، وتعبُر لا لتصلَ، بل لتقشطَ الزِّيف عن السُّطوح حيث الكذب والحقيقة معادلان موضوعيَّان لقلق إنسانيٍّ يغذِّي شكوكه في الحفر والتَّجريب، قلق يتأمَّل وجوهه المخبَّأة لا من علوٍّ شاهق، بل في منعرجات حادَّة ولزجة، يختلط فيها الماء بالنَّزيف، وتنفذ إليها نوازع الحيوان كما تشفُّ من خلالها تأوُّهات الملاك.
"الآن، لا أميِّز نظرتك من نظرتها، والنَّظرتان تنهلان من نبعٍ واحدٍ، من الأماكن التي جفَّ فيها الدَّمع.

نظرتان هما أم نظرةً واحدةً: شعلة تتوزَّع في اتِّجاهين؟"

إذا كان علينا أن نعاني فلنبدع مسرحاً إنسانيَّاً نعاني فيه، هذا ما يفعله الشُّعراء بوعيٍ تام، من دون الحاجة إلى استدعاء شفقة المشاهدين. شعريَّة الكتابة في نصوص عيسى مخلوف ليست مجرَّد أفق للعبور، بل هي اللَّحظة المستمرَّة التي تستدعي حضور المؤلِّف والقارئ في طاقة تحريريَّة تنقذ الشَّرر وتطلقهما معاً، وهنا تحضر بعمق كلمات الشَّاعر الأمريكي روبرت لويل:

"نبكي سويّاً 

ولكن من دون دموع".

 

جزء من مقالة عن كتاب "رسالة إلى الأختين"، صدر في مجلّة "نزوى"، العدد 117، كانون الثاني/ يناير 2024).