عيسى مخلوف في "ضفاف أُخرى": رحلة وسيرة

عبّاس بيضون

 

"ضفاف أُخرى"، الكتاب الذي صدر عن "دار الرافدين" ويضمُّ حواراً طويلاً عقده مع عيسى مخلوف علي محمود خضيّر، يدعوني إلى تأمُّل شخصي، إذ إنّني، وأنا أقرأ الكتاب، أسمع عيسى يقوله لي. أنا بهذه الصفة شريك افتراضي في الكتاب، كذلك الأمر مع علي خضيّر الذي لا يبدو في مواجهة مخلوف، بقدر ما يتكلّم، هو الآخر، من داخله، من داخل كلامه وكتابته.

وعلى هذا، فإنّ الكتاب هكذا يبدو وكأنه شهادة طويلة لعيسى، أو أنه، على نحو ما، سيرة ثقافية. سيرة شخص تبدو حياته بجملتها تيّاراً من الأسئلة، بقدر ما هي بناء من الأفكار، إذ لا نزال، ونحن نقرأ الكتاب، نستعيد صورة المثقّف التي تفيض عن صاحبها لتتّصل، من بعيد أو قريب، بزمرة كاملة متناثرة، وإن بقلّة، من جيل من المثقفين العرب. هكذا نجد سبباً لهذه الشراكة في الكتاب، بل نجد سبباً للكتاب نفسه، فهو وإن يكن حواراً بين اثنين، هو أيضاً، وبالدرجة نفسها، سيرة مشتركة لهامش ثقافي عربي.

في الكتاب إطلالة على طفولة، ليست أيّ طفولة. لا يقف عيسى طويلاً عند تلك القصة التي تجفلنا، ونبحث عبثاً عن مزيد منها، قصّة الأخ الأكبر الذي عاد من نزهة مع أصدقائه وكانت "فرحته كبيرة وهو يروي كيف أمضى وقته مع أصدقائه، وعَدَنا بأن يكمل في اليوم التالي، حكاية الرحلة، لكنّه توفّي في صباح ذلك اليوم". توفّي، هكذا بكلمة واحدة ينقل إلينا عيسى ذلك الخبر، ولا يتوقّف عنده أكثر من ذلك. كلمة واحدة أحسبها مصنمة. لا يجسر عيسى على أن يزيد. ليست هذه العجلة إلاّ رفضاً للوقوف أكثر. يخيّل إلينا أنّ عيسى الذي قال إنّ هذه اللحظة مفصليّة في حياته، وإنها جعلته يرى الموت محرّكاً لكلّ شيء، لم يقل إنّ كل السيرة التي يرويها خرجت من هذه اللحظة، وإنّ هذه الوفاة التي اختصرها بكلمة كانت محور حياته.

عدا عن هذه الحكاية الشخصية نقرأ فصولاً أُخرى من سيرة عيسى هي كلّها، بحسب الكتاب، علاقات ولقاءات. أي أنها جميعها تقريباً صلات تنقعد في الثقافة وعلى الثقافة. أسماء بعضها عالمي، بيكون، بورخيس، بونفوا، ألبيرتو مورافيا... أسماء عربية وأجنبية: أنسي الحاج، أدونيس، محمود درويش، شفيق عبود، إدوارد سعيد، إيلين سيسكو، جورج شحادة، محمد أركون، عبد اللطيف اللعبي، عبد الرحمن الباشا...

من الواضح أنّ هؤلاء جميعاً كتّاب وفنّانون. الحوار هكذا، في ما عدا فصل عن طفولة، يمكننا أن نضمّه، كما رأينا، إلى السيرة الثقافية. لكن في السيرة أيضاً مدن ومناطق، أميركا اللاتينية، باريس ونيويورك، وبالطبع بيروت التي لا يخصّها عيسى، لكنّها وزغرتا تبرزان من وراء المشهد.

لا أعرف إذا كان الحوار مع أنسي الحاج، أو الكلام عن كتّاب وفنّانين لبنانيين، والرسائل الموجّهة إلى لبنانيّين أسعدني أنني من بينهم، لا أدري إذا كان ذلك كافياً لسيرة عيسى اللبنانية أو هو كاف للثقافة والأدب في لبنان. أحسب أنّ عيسى، وربّما عن قصد، لم يشأ أن يستطرد أكثر في الحديث عن سيرته اللبنانية، وبالتالي عن أوضاع الثقافة في لبنان، شأنه مع باريس ونيويورك. أظنّ أنّ هذا الجانب اللبناني حافل بالتباينات والمشكلات التي ليست سيرة عيسى بصددها، فهو في تناوله لأمكنة وأشخاص رسم بورتريهات شاملة وعضويّة في أغلبها، وقلّما تناول أيّاً منها على نحو سلبي، فنادراً ما فعل ذلك كما فعله حين تطرّق إلى ديبلوماسية صلاح ستيتية التي جعلته يمدح أشخاصاً لا يستحقّون ذلك، ولا سبب له إلاّ نفوذهم ومواقعهم السياسية.

كتاب عيسى هو أيضاً متحف صغير لأسماء مهمّة وأطروحات وأبحاث ومواقف في شتّى المجالات. إنه من هذه الناحية ليس حافلاً فقط بأعمال وأفكار فنّانين من كلّ صنف، بل هو يخصّص مبحثاً هاماً عن الهندسة المعمارية، على سبيل المثال. إننا هنا أمام عارف خبير، وربما لذلك قد يكون الكتاب، من ناحية أُخرى مجموعة مباحث شتّى. لا يفاجئنا أن يعرّج الكتاب على مسائل كان لها وقتها، كهذا التناول لصلة رامبو بالصوفيّة كما طرحها أدونيس. ليست هذه وحدها المسألة التي يستدعيها عيسى في كتابه، فثمّة مسائل تصل إلى البيئة والى الجائحة. هنا في قراءة ثانية للكتاب نجد ضوءاً على ثقافتنا، بل على ثقافات عدّة.

ــــــــــــــــــــ

(صحيفة "العربي الجديد"، 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021).